يتساءل بعض الناس: لماذا لم تكن هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة بمعجزة شبيهة برحلة الإسراء والمعراج؟ والجواب هو أن الإسراء والمعراج ليسا عملاً بشرياً سيقوم بهما أحد بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، في حين أن الهجرة عمل بشري يتكرر مدى الحياة. ولذلك كانت أفعاله في الهجرة يُحتذى بها على مدى الزمان، بدءاً من التخطيط وانتهاء بالتنفيذ. وربما نحتاج لقراءة السيرة النبوية مرات ومرات، لنستخلص دروساً وعبر جديدة.
والهجرة ليست أمراً سهلاً على النفس البشرية (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِّنْهُمْ)، وفي الحديث (واللَّهِ إنِّي أعلمُ أنَّكِ خَيرُ أرضِ اللَّه،ِ وأحبُّها إلى اللَّهِ، ولَولا أنَّ أهلَكِ أخرَجوني مِنكِ ما خرَجتُ). ولعظيم أثر الهجرة النبوية في تحويل مجرى التاريخ، فإن عمر رضي الله عنه كان بعيد النظر، حين عدّها بدء التاريخ الإسلامي.
ومادامت الهجرة غير محببة فما الذي جعل السوريين يهجرون ديارهم إلى المجهول؟ إنهم يطبّقون ما جاء في المثل العربي: (انجُ سعد فقد هلك سعيد)، أو المثل الآخر (السعيد من اتعظ بغيره، والشقي من اتعظ بنفسه(، فما يدري أحدهم متى تنزل البراميل المتفجرة فوق بيته فتجعله قاعاً صفصفاً. وكم من رجل عاد إلى بيته فلم يجد له أثراً، فراح يستنجد بالناس ليخرجوا أهله من تحت الأنقاض. فهم كما وصف الشاعر هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم :
هاجرتَ يا خيرَ خلقِ اللهِ قاطبـةً *** من مكةً بعد ما زاد الأذى فيها
هاجرتَ لما رأيتَ الناس في ظلـمٍ *** وكنت بـدراً مـنيراً في دياجيهـا
هاجرتَ لما رأيتَ الجهلَ منتشـراً *** والشــر والكفـر قد عمّا بواديهـا
هاجروا فاستقبلتهم دول وما قصّرت بحقهم. فها هي المملكة أعطتهم استثناءات في تعليم أولادهم وفتحت لهم سوق العمل. ودول أخرى بنت لهم المخيمات، وقال مسؤول فيها: (إن يثرب، بفضل قبولها المهاجرين، تشرفتْ وعلتْ منزلتُها وأصبحت المدينة المنورة، ولو أن أهلها قالوا: طعامنا بالكاد يكفينا، ومساكننا لا تتسع لغيرنا، لبقيت يثرب، ولما قصدها ملايين الناس. إن ديننا وثقافتنا وتربيتنا وتراثنا يحتم علينا قبول المهاجرين، ويفرض علينا وضعهم تاجا على رؤوسنا. وليست العبرة بكثرة الرزق إنما ببركته، فالمهاجرون خير وبركة).
ولاشك أن السوريين سيحفظون الود لمن أكرم وفادتهم. فالسوريون، وعلى مدى التاريخ، استقبلوا المهاجرين من أصقاع الأرض، بغض النظر عن دينهم أو عِرقهم أو جنسيتهم، فعاشوا بينهم وأصبحوا نسيجاً واحداً منهم.
لكن مما يحز في نفوس السوريين أنهم في العقد الماضي فتحوا بيوتهم لمهاجرين من دولة مجاورة، كان العدو يقصف مدنها من الجو، وصاروا لهم كأنصار المدينة لمهاجري مكة. واليوم وقد اضطر السوريون للهجرة إلى ذلك البلد، استقبلهم أهل المروءة فيه، لكن غيرهم أداروا لهم ظهر المجنّ. فمن سيستقبل أولئك في المرة التالية إن اضطروا للهجرة؟ لاسيما وأن الفتنة تنتقل من بلد إلى بلد، ولا يستطيع أحد إيقافها، ولا ندري مَن هو صاحب الدور التالي.
ومما يحز في النفس أكثر ما كتبه ليون برخو على صفحات الاقتصادية عن استقبال السويد لآلاف المهاجرين السوريين بطرق غير شرعية كل أسبوع، وبعضهم أطفال يصلون بلا أسرهم. وقد ذكر أن الشرطة في المطارات تدخل دورات خاصة في كيفية التعامل معهم. ومن أراد التفصيل فليقرأ مقالته.
لكن هؤلاء الذين يصلون إلى السويد هم الناجون من الغرق، حيث ينقلهم سماسرة في مراكب بحرية ليس فيها أدنى متطلبات السلامة. وما أكثر المراكب التي غرقت وأزهقت الأرواح. ولذا قال القائل: علموا أولادكم السباحة ثم السباحة ثم السباحة، حتى إذا وصلوا السويد علموهم الرماية وركوب الخيل. وأما غيره فتعجب من رسالة صديقه الذي قال له : نراك في العيد القادم في الشام ! فأجابه : بعد آلاف الدولارات التي دفعتها للوصول إلى السويد تود مني العودة؟ إنه المصير المجهول الذي لا أحد يدري ماذا بعده. فهل يأتي يوم تجتمع فيه الأسر التي تفرقت؟ أم تتلاقى فقط عبر مواقع التواصل الاجتماعي؟ أم يتحقق ما قاله الشاعر في وصف الهجرة النبوية :
هاجرتَ للهِ لا خوفاً ولا هربا *** وإنما كانَ هذا منك تبيانا
للمؤمنين بأن الله أيدهم *** بالنصرِ، والنصرُ لما يأتِ مجانا
إذن فلابد من صبرٍ بلا جزع *** واليسرُ من بعد العسرِ، قال مولانا