ليس من السهل ، في ظل الوضع القائم ، على رجل متكئ على أريكته ، أن يعلن عن بعد : نرفض أو نستنكر أو نشجب ..فالشعب السوري الذي يعيش مأساته
مكعّبة أمنيا وإنسانيا واقتصاديا ينتظر يد رحيمة تمتد له ببديل مشرف يحفظ له مكتسبات ثورته ، وثمرات تضحيات جهاده ويفرّج عنه بعض ما يعيش …
وبعد مرور عشرين يوما على تقديم مبادرة السيد دي ميستورا 31 / تشرين الأول الماضي ، فما تزال هذه المبادرة تحدث تفاعلاتها ، وتثير الاهتمام بها .
وللعلم فإن هذه المبادرة قد اشتقت أصلا من خطة ( أسدية ) مع تعديلات طفيفة . ولقد اعتبر السيد دي ميستورا وعد بشار الأسد وفريقه بدراستها مكسبا
كبيرا له ، واختراقا عظيما لخطته . وقد رُوي أن دي ميستورا بشر بشار الأسد أن الأمريكيين في جيبه إن قبل هو بالمبادرة ، وهو في الوقت نفسه لم ير أن
المعارضة تستحق أن تعرض المبادرة عليها.
إن حالة التفشي أو حالة التواري التي تعيشها مؤسسات المعارضة السورية جعل المشهد يبدو أكثر مأساوية وسوداوية في عيون الكثير من السوريين .هذا في
وقت يعمل فيه ( رسل بشار ) الظاهرين والأخفياء على تسويق المبادرة ، وتجميلها ، وتقديمها على أنها المخرج الإنساني الرحيم . ولو كانت هذه الرحمة على
طريقة الموت الرحيم في إنهاء المعاناة …
وباختصار كثيف إذا كان الهدف من المبادرة هو التخفيف الآني من معاناة السوريين بوقف ما سمي ( فرامة اللحم ) ، وتدارك الموقف بإيصال المساعدات
إلى المحتاجين إليها على الأرض السورية وخارجها ، وربما تزيين ذلك ببعض البهارات والمقبلات لجعل كأس السم حلوا وكأس السم هو ما سمي وضع
الأسس للحل السياسي الآتي … فإن أي مواطن سوري ( إنسان ) سيجد نفسه متعاطفا مع المبادرة بعد أن أثبتت قوى المعارضة وهيئاتها المتعددة عجزا
مخيفا وميّئسا عن تقديم أي شيء حقيقي للشعب الذي ثار على أمل ، وقدم بلا حدود ، وضحى بما لم يضح به شعب في ثورة يتيمة منذ القرن العشرين .
فكل ثورات القرن العشرين قامت في ظل حرب باردة وجدت لها في ظلالها أصدقاء داعمين وأعداء معارضين ؛ بينما ثورة الشعب السوري لم تجد إلا أعداء
محاربين وأدعياء متربصين أو متوارين .
ولكن الحق الذي يبقى دائما أحق أن يتبع ، والوفاء لروح الثورة ولمبادئها ولاستحقاقاتها ولدماء شهدائها وتضحيات نسائها ورجالها كل أولئك يفرض على
الإنسان أن يأبى أن يخوض مع الخائضين ويسترسل مع المسترسلين تحت عناوين إنسانية براقة هي الموت والذلة بعينه وعينها …
إن التفكير (الأسدي أو الإيراني ) الشيطاني الذي صدرت عنه مبادرة دي ميستورا والتي قامت كما قالوا على قاعدة ( حل من أدنى إلى أعلى ) أو من قاعدة
الهرم إلى قمته ، مشتقة من خطة بشار الأسد التي يسميها بالمصالحات التي يفرضها على المواطنين السوريين تحت وطأة الحصار والتجويع والقتل ؛ هو في
حقيقته خطوة شريرة وخبيثة لتصفية الثورة ، وإعادة السوريين إلى ما يسميه بشار الأسد ( بيت الطاعة ) أو ( حظيرة الذلة والمهانة والرعب ) ولكن حسب
قواعد هنري كيسنجر خطوة ..خطوة .
إن مبادرة دي ميستورا لا تقوّم أو تدرس بما هي في ذاتها ، بل تقوّم وتدرس بمآلها وصيرورتها ، وبما سيكون عليه الوضع بعد تطبيق بنودها . وهذا ما تخلفت
قوى المعارضة عن دراسته والتحذير منه ، حتى سبق أفراد من هذا الحراك أو ذاك إلى التطوع بتقديم مواقف لا يدري أصحابها حقيقة أبعادها ..
إن الخطر الأول في تحديد الموقف من المبادرة الشيطانية هو انعكاسها المبدأي على موقف وقرار الثوار والمعارضين وهم لا يمتلكون مركزية القرار ، حيث
سيزيد التعامل مع المبادرة من شتات هؤلاء وأولئك ، هذا بين رفض وقبول واشتراط وفي هذا ما فيه من زيادة الوهن والخلاف ..
ثم إن السؤال الأساس الذي تُستقبل به هذه المبادرة هو : كيف ستكون المواجهة السياسية بعد أن يخمد لهيب الثورة ، وتهدأ الأمور ، ويسترخي المقاتلون في
ظل حالة من الشتات والتفرق وانعدام القيادة المركزية ؛ مع الأخذ بالحسبان أنه سيكون على الجهة المقابلة قوة مركزية قوية مدعومة من قوى عالمية عسكريا
وسياسيا واقتصاديا ؟!
في مثل هذه الأجواء سيتقدم السيد دي ميستورا أو بشار الأسد حيث لن يكون هناك فرق بالحلول الجزئية لبقع ( المتمردين ) أو كانتوناتهم ترغيبا وترهيبا
ليسلموا سلاحهم وليندمجوا في ( الجبهة الوطنية التقدمية ) التي يعتقل في ظل قانونها مواطن مثل لؤي حسين ويقدم للمحاكمة بتهمة توهين نفسية الأمة …
هذه هي صيرورة مبادرة دي ميستورا وهذا هو مآل ثورتنا معها ..