1- المكان: أحد الحواجز الكثيرة التي تنتشر في ريف إدلب. الزمان: يوم من أيام سنة 1984.
وصلت الحافلة الصغيرة إلى الحاجز فوقفت كما تصنع كل يوم، وصعد إليها أحد عناصر الحاجز متأبطاً بندقيته “الروسيّة” فشحن الجو بشحنة إضافية من الخوف، الخوف الذي حمله الناس في قلوبهم منذ سنتين، منذ النهاية الكارثية لثورة حماة، والذي صار يرافقهم في حِلّهم ورَحْلهم فينامون عليه وعليه يستيقظون. نظر العسكري بعيون الحقد والغضب إلى ركاب الحافلة المُرَوَّعين، وما جنى أحدُهم جنايةً ولا ارتكب جريمة، سوى جناية “الحياة” والوجود في دولة كان اسمها ذات يوم “سوريا” قبل أن تتحول إلى “مزرعة الأسد”.
طافت العينان الحاقدتان الغاضبتان بالركاب ثم استقرّتا على واحد منهم، كهل ضعيف غير ذي خطر. اقترب منه بغتة وعاجله بضربة عنيفة على رأسه بعقب البندقية الخشبي الصُّلب، ثم جرَّه من يديه ورجليه وقذف به خارج الحافلة، وما لبث أن تكوّم عليه عناصر الحاجز وراحوا يرفسونه ويلكمونه بالأيدي والبساطير وأعقاب البنادق وهو يصيح ويستنجد ويحلف الأيمان على براءته من الذنب الذي لا يعرفه، والذي لم يعرفه أيٌّ من ركاب الحافلة الذين كانوا يراقبون المشهد بذهول.
وأخيراً صعد العنصر ذاتُه إلى الحافلة ونشر لائحة الاتهام، وإذا جريمة الرجل المسكين أنه وجد المقعد مُغبَرّاً وسخاً فنشر عليه جريدة وقعد فوقها، وحيث إن أي جريدة لم تكن لتخلو صفحتُها الأولى في تلك الأيام من صورة الطاغية السفاح الأكبر، حافظ الأسد، فقد اتفق أن جلس الرجل على الصورة دون أي يدرك الجريمة الهائلة التي ارتكبها. صاح العنصر: “هذا ربكم (أستغفر الله)! من أهان ربه وجلس على صورته لا يستحق الحياة”. ثم أمر السائقَ المذعور أن يمضي بالحافلة، فانصرفت تاركة على الأرض جسداً اختلط لحمُه بالدم، ولم يعرف مصيرَه أحد.
2- المكان: دكّان صغير في حي سكني في إحدى بلدات غوطة دمشق. الزمان: يوم من أيام سنة 1984.
عصابات جنود جيش الاحتلال (الأسدي) تطوف بالشوارع وتراقب الدكاكين. أشار واحد من عناصر العصابة إلى دكان صغير على ركن الشارع، وفجأة هرولت جماعة من العساكر فاقتحمت الدكان وجَرّت البائع المسكين على وجهه إلى الطريق، حيث راح المجرمون يرفسونه ببساطيرهم على رأسه وظهره ويديه ورجليه وهو يصيح ويستغيث وينادي الناس. وماذا يصنع الناس الذين صعقتهم المفاجأة وسَرْبَلهم الرعبُ وهم يرون بضعة وعشرين من الجنود المدججين بالأسلحة وقد أحاطوا بالضحية كما يحيط بالقصعة الآكلون، وعشرات غيرهم يراقبون ويحرسون فيمنعون أحداً من الاقتراب، لو أن أحداً فكر أصلاً بالاقتراب؟!
ثم انقشع غبار الملحمة وانفضّ المجرمون عن الضحية الذي بقي ملقىً في وسط الطريق بين الموت والحياة، وتُلِيَ بيانُ الاتهام على المشاهدين المذعورين. اتضح أن الرجل علّق على حائط الدكان صورة الطاغية البائد، ويبدو أنه لم يحسن لَصْقَها فعبثت بها الريح وقطعتها فطار جزء من الرأس، وإذا الجريمة: هذا ربكم يا أيها الجاحدون (أستغفر الله)! من سَمح لصورة ربه أن تتمزق فإن مصيره السحق بالبساطير!
3- القصتان السابقتان ليستا من نسج الخيال، وإن كانتا تفوقان في بشاعتهما وفظاعتهما أعلى درجات الخيال. إنهما حادثتان حقيقيتان، وهما “عيّنة” من آلاف الحوادث المشابهة التي انتشرت في جميع أنحاء سوريا خلال تلك السنوات العِجاف. لماذا وقعت هاتان الحادثتان وأمثالُهما؟ أكان لأيٍّ منها مبرّرٌ حقيقي؟
لقد كانت مبررات مصطَنعة. لم يكن الهدف هو حماية صورة الطاغية من الامتهان غير المقصود، بل كان الهدف هو نشر الرعب في قلوب الناس وقتل الكرامة في نفوسهم، لكيلا يتجرأ مخلوق على تحدي النظام الحاكم، نظام الاحتلال الأسدي الطائفي اللعين.
وتحقق الهدف المنشود، فغشِيَ الناسَ رعبٌ قَلّ أن تعرف شعوبُ الأرض له مثيلاً، حتى صار الخوف يرافق المرء في خَلوته بنفسه وفي اجتماعه بالناس، فلا يجرؤ أن ينتقد النظام بكلمة لا في ملأ ولا في خلوة. صار الخوفُ رفيقَ الناس الذي لا يفارقهم، فلا يثق أحدٌ بأخيه ولا بأبيه ولا بصاحبته وبَنيه، وكم غيّبَت المعتقَلاتُ الرهيبة أناساً أبرياء فقضوا السنين الطوال في العذاب ثمناً لكلمة لم يُلقوا لها بالاً، حتى لقد سُجن أحدهم أحدَ عشر عاماً في تدمر، باستيل سوريا الرهيب، من أجل “طرفة” ألقاها على بعض الأصحاب تعرّض فيها للإله الزائف، الطاغية الكبير! وسُجن آخَرُ من أجل منام رآه فيه بين الأموات، ففسرت عصابات الأمن منامَه رغبةً دَفينةً بموت الطاغية يستحق صاحبُها من أجلها العقاب!
4- صارت سوريا بلداً يقود فيه المنامُ صاحبَه إلى السجن أو إلى الإعدام، فصمت الناس، مات الناس، لم تبقَ منهم إلا أبدانٌ تغدو وتروح بلا قلب ولا روح، نَسُوا أن في القاموس كلمةً اسمُها حرية وكلمةً اسمُها كرامة، فقدوا الاستقلال وعاشوا في الأغلال، وسرعان ما صاروا مضرب المثل في الذلّة والهوان، حتى قال قائلُ العرب: يثور أهل الأرض جميعاً ولا يثور السوريون.
ولكن السوريين ثاروا، ثاروا لمّا فاضت كأسُ الصبر. أيقنوا أنهم لا حرّيةَ لهم بلا ثورة، فأقبلوا عليها غيرَ هيّابين ولا مترددين. علموا أن طريقهم شاق طويل، فلم يُرهِبهم طولُ الطريق ولا خذّلهم عنه ما فيه من صِعاب وأهوال. وعلموا أن طريق الحرية لا تشقّه إلا التضحيات، فاستودعوا التاريخَ وديعةً من أنفسهم، مليونَ شهيد يصرف منهم التاريخ كيف يشاء، فصرف منهم إلى اليوم ربعَ مليون وما يزال يصرف المزيد، ولو فَنِيَ المليون لاستودعوه مليوناً غيرهم ولا ييأسون ولا يستسلمون.
حتى إذا صاروا في نصف الطريق أراد أعداؤهم أن يردّوهم إلى الذل والهوان الذي كانوا فيه، وقام فيهم مِن أنفسهم هاتفون يهتفون: أنْ عودوا إلى حيث كنتم فإنكم لا تطيقون المضيّ إلى آخر الطريق.
5- لا أنا ولا غيري نقرأ الغيب، ولكن قوانين الوجود تخبرنا أن الذئب يبقى ذئباً ولو عاش دهراً بين الكلاب، وأن الضباع لا يمكن أن تتحول إلى حيوانات عاشبة تقتات بالنبات. إن نظام الاحتلال الذي عانينا من ظلمه وجبروته السنين الطوال ما يزال هو ذات النظام، وسيبقى هو نفسه ولو غيّروا لباسه أو قلنسوته التي تغطي رأس الغدر والإجرام.
عندما وأدَ الطاغيةُ البائد ثورةَ الثمانينيات ودمّر حماةَ وبطش بأهلها البطشةَ الكبرى صفا له الجو ثلثَ قرن، ولئن وأدَ طاغيةُ اليوم ثورتَنا الحاضرة لَيَصْفُوَنّ له ولورثته الجوّ قرناً كاملاً لا قدّر الله. هزم الطاغية البائد ثورتنا الأولى فاطمأنّ واسترخى، أغلق على سوريا أبوابها فغدا الناس في سجن كبير، ثم راح يعتقل الأبرياء من البيوت والمدارس والجامعات ومن الدكاكين والمكاتب والطرقات حتى بلغ المعتقَلون سبعين ألفاً؛ لم يعلم الذين عاشوا خارج السجون متى إليها يدخلون ولم يعلم الذين دخلوها متى منها يخرجون. ذلك ما صنعه الطاغية البائد بأهل سوريا عقب ثورة شارك فيها آلاف، فماذا يصنع طاغيتها الجديد بعد ثورة شارك فيها ملايين؟
6- أيها الناس: أرأيتم إلى القصتين اللتين رويتُهما آنفاً؟ لقد استخرجتهما من ألبوم القصص المأساوية لتلك السنين الكئيبة التي أعقبت فشل الثورة الأولى، وإنه لألبوم حافل بما لا ينفد من أمثال تلك الحكايات المؤلمات، فإن تفشل ثورتنا الجديدة هذه -لا قدّر الله- فسوف تتكرر أمثالُها بلا نهاية.
فإن قالوا لكم إن طريق الحرية طويل فقولوا لهم إن طريق العبودية أطول. إن قالوا إن ثمن الكرامة ثقيل فقولوا إن ثمن الذل أثقل. إن سمعتم من يشكو ويقول: متى تنتهي معاناتنا في هذه الثورة؟ فقولوا له: إن سماع هذا السؤال خمسةَ آلاف يوم خيرٌ من سماع السؤال الآخر مئة عام: متى ينتهي القهر والطغيان؟ متى نخرج من قهر الاحتلال؟ متى نعيش بلا قيود ولا أغلال؟
ذات يوم قال المختار: “نحن لا نستسلم، ننتصر أو نموت”، وإنكم حَفَدة المختار ووَرَثته في طريق الحرية والشرف والمجد والإباء. يا أيها الأحرار: إياكم أن تعودوا إلى القبر، إلى القهر والذل والهوان؛ أقسموا أنكم لن تستسلموا ولو طال الطريق.