رسائل سريعة إلى العلماء والدعاة
بقلم: الشيخ الدكتور محمد عياش الكبيسي
في زحمة الأحداث الساخنة وما ينبني عليها من مواقف وعواطف ربما نحتاج إلى أن نذكّر أنفسنا ببعض النقاط كي نؤدّي دورنا بالصورة التي ترضي ربنا وتنفع أمتنا وتبرئ ذمتنا.
1-إن رسالة الإسلام بالأساس إنما هي دعوة الناس إلى توحيد الله وعبادته وحده (وما خلقت الجنّ والإنس إلا ليعبدون)، وعلى هذا تم التمايز التام بين (المسلمين) و (المشركين)، مع أن كثيرا من المشركين فيهم من صفات الخير ما لا ينكره أحد كالنخوة والكرم والغيرة ونحوها، فالذين مزقوا صحيفة المقاطعة هم مشركون، والذي أجار رسول الله –صلى الله عليه وسلم- بعد عودته من الطائف هو مشرك كذلك، فنحن نقدّر هذا لهم لكن لا ينبغي أن نسكت عن الشرك الذي هم فيه، ولا أن نزيّنه لهم أو لغيرهم، بل نبقى نردد قوله تعالى: (لئن أشركت ليحبطن عملك).
2- وبعد الهجرة إلى المدينة كانت الوثيقة التي تضمن حقوق مكونات الدولة الجديدة وتنظم العلاقات فيما بينهم، وعقد النبي صلى الله عليه وسلم تحالفاته مع القبائل اليهودية وبعض القبائل المشركة ثم عقد الصلح مع قريش المشركة نفسها، فهذا كله متاح ضمن (فقه السياسة الشرعية) ولكن هذا الفقه لم يكن على حساب العقيدة، بل بقي المسلمون يردّدون جهارا نهارا قوله تعالى : (قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون).
3- وفي باب الدعوة والحوار مع الآخرين يلزمنا الإسلام باللين وحسن الأسلوب فيقول مثلا: (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن)، لكن هذا لا يكون أبدا بكتم الحق او لبسه بالباطل، ولذلك ونحن نجادلهم بالحسنى نقرأ في صلواتنا قوله تعالى: (لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة) و (لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم).
4- ونحن ندعو إلى التعايش السلمي، والتعاون في المشتركات الحياتية، والمصالح العامة، وتحقيق العدل وإعطاء كل ذي حق حقّه لكن هذا شيء، والتدليس على الناس ولبس الحق بالباطل شيء آخر، -وأذكر بهذا الصدد أن طالبا مسيحيا درس عندي مادة الثقافة الإسلامية في الجامعة فأعطيته درجة شبه كاملة لاجتهاده ونشاطه- لكنه لا يجوز لي أن أجامله في عقيدته.
5- إن سكوت العالم عن الكفر والشرك والانحراف العقدي خيانة للأمانة التي حمله الله إياها، وإنه يتحمل اثم كل من ضل بسببه، فإن رسالة ورثة الأنبياء إنما هي إنقاذ الناس من النار وليست التربيت على أكتاف هذا وذاك بحسب المصالح الآنية والمواقف السياسية، وإني لأعجب والله من عالم آتاه الله القرآن والسنّة يردد ما يردده بعض المثقفين المعاصرين الذين يعتبرون الدعوة إلى التوحيد ونبذ الشرك والوثنية والزندقة والخرافة (طائفية) ولا أدري أين موقع هذه الكلمة التي يرهبوننا بها في كتاب الله وفي سنة رسول الله وفي سيرة جميع الأنبياء من قبله، مع أننا في الحقيقة نحن الذين نعاني من الطائفية والعدوان المستمر على عقيدتنا ورموز أمتنا، وهؤلاء يريدون أن يعطّلوا رسالتنا العالمية، وأن يمنعونا حتى من الدفاع عن عقيدتنا وهويتنا.
وبعضهم يقول: هذا ليس وقته، مع أنه في الحقيقة كل شيء ممكن أن يؤقت بوقت (التحالفات والمهادنات والحوارات والعلاقات) إلا عقيدتنا، فلا بد أن تبقى معنا دائما أبدا، نحملها في عقولنا وقلوبنا وتصدح بها حناجرنا حتى نلقى ربنا، مهما كانت تقلبات المواقف والأحداث، وهذه سيرة نبيكم عليه الصلاة والسلام بين أيديكم، وقصص النبيين في كتاب ربكم.
6- أقولها الآن بصراحة: إن بعض من يشار إليهم بالبنان ممّن آتاهم الله العلم قد انقلبوا إلى (صحفيين أو دبلوماسيين) فهو يعلّق على الأحداث والمواقف المختلفة ويرفع البيانات والبرقيات وفق معيار (الموقف السياسي الآني) وحده، ثم يسكت السكوت المطبق فلا تسمع له همسا وكأنه غير معني بتاتا بموجات التبشير المنظم بالعقائد الوثنية والخرافية التي تؤلّه البشر وتطعن في ثوابت الدين وفي عرض سيّد المرسلين وصحابته الأكرمين، يا رجل دع الدبلوماسي ومسؤول العلاقات يتحدّث بما تمليه عليه مصلحة بلاده وشعبه والجهة التي يمثلها، والناس يفهمون أن هذا (لا يفتي ولا يزكّي) أما بياناتك يا شيخ فالناس يفهمونها أنها (فتوى وتزكية دينية)، وحينما تسكت عن الباطل فإن هذا السكوت يوهن عقيدة المسلمين ويضعف مقاومتهم تجاه أية عقيدة فاسدة.
أما التذرّع بأنك مشغول بشأن المقاومة، فهذا والله من التدليس والتلبيس فلا أنت القائد الذي يخطط، ولا أنت الجندي الذي يقاتل، نعم واجب أهل العلم من غير أهل الميدان أن يبينوا حكم الله وواجب المسلمين تجاه هذا العدوان، ثم على كل مسلم أن يتحمل مسؤوليته في الميدان الذي هو فيه، بلا رياء ولا مزايدة ولا مكابرة، وإني أرى المقدم على الشهادة أولى أن يتحرّى (سبيل الله) بصفاء العقيدة وخالص الولاء لدينه لا أن نلبس عليه الحق بالباطل، فهذا ليس من النصح الواجب علينا تجاهه.
7- أخيرا إني أنبّه هنا إلى قاعدة تاريخية يعرفها أهل التاريخ؛ أن التحوّلات الدينية والثقافية المجتمعية العامة ترتبط في كثير من الأحيان بالأحداث التاريخية الكبرى، وهنا تكون للكلمة مسؤوليتها خاصة من أهل العلم الموثوقين بعلمهم وإخلاصهم، لأن المزاج العام يتأثّر بمجريات الأحداث أكثر من تأثره بالأدلة العلمية، فإذا سكت أهل العلم أو دلّسوا كانت الفتنة والمصيبة العظمى، خاصة مع وجود مشروع تبشيري جاهز وهو الأقدر الآن على توظيف هذه الأحداث لصالح مشروعه، ومع حالة من الضعف والشتات تعم العالم الإسلامي، فالمسألة خطيرة غاية الخطورة، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ويا سعد من يثبّته الله على الحق وعلى ما يحبه سبحانه ويرضاه، ثم يكون سببا في تثبيت أهله وإخوانه.
اللهم يا رب إنّي بلغت، اللهم فاشهد