مضت ثلاثَ عشرةَ سنةً على حادثة تفجير برجَي التجارة في نيويورك، تلك الحادثة التي انكشف كثيرٌ من خفاياها وأسرارها خلال السنوات اللاحقة، حتى بات معروفاً للعالِم والجاهل أنها عملية مخابراتية ضخمة، أُعِدَّت بعناية لصناعة وضع عالمي جديد مشكلتُه الكبرى هي “الإرهاب الإسلامي”، فكانت تلك الحادثة هي القادحَ الذي فجّر أضخمَ حملة على الإسلام في العصر الحديث، حملة ما تزال الأمة تعاني من تداعياتها حتى الآن.
في اليوم التالي لحادثة جريدة “شارلي إيبْدو” الأخيرة نشرت جريدة “لا ليبر بلجيك” البلجيكية افتتاحية طويلة جاء فيها: “إن هذا الهجوم لا يقل أهمية -من حيث طبيعته وعنفه- عن الهجوم الذي ضرب نيويورك في الحادي عشر من سبتمبر عام 2001”.
1- السؤال الأقل أهميةً في هذه الحادثة هو: مَن “الجهة” التي نفّذتها؟ هل هي نفسها التي نفذت عملية نيويورك قبل ثلاث عشرة سنة؟ أم أنها جهة فرنسية محلية قامت بمحاكاة الخطوات التي وجدتها في “كُتيّب التعليمات”: اختَرْ هدفاً يثير المشاعر القومية. نفِّذ العمليةَ بطريقة صادمة للجمهور. طعِّمْ طقوسَ التنفيذ بملامح إسلامية (رجال ملتحين أو تكبيرات مدويّة). لا تنسَ أن تعثر على أدلة دامغة خلّفها المهاجمون وراءهم (مصحف أو هوية شخصية). ثم اختم العملية بأسلوب “النهايات الميتة” لكي تقطع طرف الخيط وتدفن الحقيقة إلى الأبد؟!
لم تنقضِ على الحادثة سوى ساعات عندما أعلنت الشرطة الفرنسية عن تحديد هوية المنفّذَين، وبعد يومين قام المتهمان بحجز رهائن في مبنى مطبعة في بلدة دامارتان الصغيرة شمال باريس، وهناك خُتمت فصول المسرحية باقتحام المبنى وقتل المتهمَين وتحرير الرهائن، كما قُتل مشبوه ثالث (وهو جزائري أيضاً) في اقتحام متجر للأطعمة كان يحتجز فيه بعض الرهائن شرق باريس. وبذلك انقطع الخيط وضاعت الحقيقة إلى الأبد، تماماً كما حصل عندما قُتل كل المتهمين في عملية البرجين بتفجير الطائرات، وكما حصل قبلها بسنوات طويلة في حادثة اغتيال الرئيس الأمريكي جون كندي، حين قُتل قاتلُه المزعوم فبقيت الحادثة لغزاً غامضاً حتى اليوم.
2- بغضّ النظر عن الجهة المنفذة: استطاعت القُوى المعادية للإسلام والمسلمين استثمارَ هذه العملية على وجه السرعة، بدءاً بإسرائيل وانتهاء بنظام الاحتلال الأسدي في سوريا! وكالعادة جُرَّ المسلمون إلى موقف الدفاع، ولا سيما مسلمو أوربا الذين باتوا في موقف حرج اضطَرّهم إلى إصدار بيانات الشجب والاستنكار المألوفة. وفشل المسلمون بالجملة بالاستفادة من هذه الحادثة وعجزوا عن توظيفها باحترافية إعلامية، حيث كان ينبغي عليهم أن ينقلوا الاتهام إلى جهة أخرى ويركزوا على الشبهات الكثيرة التي أحاطت بالعملية، ثم يسلطوا الضوء على الجرائم التي يعاني منها المسلمون في سوريا وبورما وأفريقيا الوسطى على سبيل المثال. وهكذا فشلنا في اختبار جديد، وهو فشل سيُضاف إلى سجلّ طويل من الإخفاقات في أمثال هذه الحوادث.
لكن لماذا سارعت قاعدة اليمن إلى تبنّي العملية؟ للسبب نفسه الذي حمل قاعدةَ خراسان على تبني حادثة البرجين عام 2011، وهو الحماقة التي ليس لها دواء.
قد يغضب أنصار القاعدة من هذا الحكم، ولكنهم سيوجّهون لي بطاقة شكر إذا عرفوا أنني إنما أطلقته فراراً ممّا هو أسوأ، لأن الذي نفذ العمليتين (عملية باريس الأخيرة وعملية نيويورك 2011) هو أجهزة استخباراتية محترفة، وعندما تعلن “القاعدة” مسؤوليتَها عن تلك العمليات فإنها لا تخرج عن واحد من ثلاثة احتمالات: إما أنها شريكة لتلك الأجهزة، أو أنها مخترَقة مستغفَلة تنفّذ خطط الأعداء دون أن تشعر، أو أنها تتصدر لقطف ثمرات عمل لم تشارك فيه. كل من الاحتمالين الثاني والثالث دليل على حماقة القاعدة، ولكنه ينجّيها من تهمة الخيانة والتعاون مع الأعداء.
3- لماذا احتاجت فرنسا إلى هذه العملية الآن؟ للسبب نفسه الذي احتاجت أمريكا إلى عملية البرجين من أجله: توجيه الاهتمام الشعبي إلى ملف الإرهاب الإسلامي العالمي الذي يهدد الأمن القومي الفرنسي، وتبرير أي عمليات خارجية ستقوم بها الحكومة الفرنسية في هذا المجال.
على أن استثمار هذه العملية لن يقتصر على فرنسا وحدها، فإن “المسرح الدولي” يُهيَّأ على عجل لأمر جلل، ولا بدّ أن تلحق بفرنسا دولٌ أخرى قد تتعرض أيضاً إلى “ضربات إرهابية إسلامية” (ربما تبنَّتْها القاعدةُ أيضاً لتكميل “المكياج” وإضفاء اللمسات التراجيدية اللازمة). وإذن فلن يكون مستغرَباً أن تقع عمليات مشابهة خلال الأشهر القليلة القادمة في ألمانيا وإيطاليا وإسبانيا وبريطانيا وغيرها من الدول الغربية، وربما احتاجت الولاياتُ المتحدة نفسُها إلى عملية جديدة لكي تبثّ الحياةَ في شبح الإرهاب الإسلامي الذي أشرف الأمريكيون على نسيانه بعد كل هذا الوقت الطويل، عملية تساعد على تفعيل قانون الطوارئ (الباتريوت آكْت) بدرجته الكاملة، وعلى إعادة تجديده بعد انتهاء فترة تمديده التي وقّعها أوباما عام 2011 والتي ستنتهي بعد أربعة أشهر.
4- ثمة أمر غريب مريب يدعو إلى التفكير، وهو الانفجار المفاجئ فيما يسمى “هجمات الإرهاب الإسلامي” في العالم، فقد سُجِّلت ثلاثُ حوادث من هذا النوع في عام 2010 (موسكو، نيويورك، ستوكهولم)، وثلاثٌ أخرى عام 2011 (موسكو، فرانكفورت، نيجيريا)، وأربع حوادث عام 2012 (بانكوك، فرنسا، بلغاريا، الهجوم على القنصلية الأمريكية في بنغازي)، وأربعٌ عام 2013 (ماراثون بوسطون، إنكلترا، نيروبي، نيجيريا).
أربعة عشر “هجوماً إرهابياً إسلامياً” (كما يسمونها) في أربع سنوات، وفي سنة واحدة، السنة الأخيرة، سُجِّل اثنان وعشرون هجوماً! مع ملاحظة أن الأسابيع العشرة الأخيرة وحدَها حفلت بخمس عشرة حادثة: هجوم سيدني (15/12) وحادثتان في كندا (20/10، 22/10) وحادثة في نيويورك (23/10) وأربع حوادث في فرنسا؛ واحدة في ديجون بشرق فرنسا (21/12) والثانية في نانت بغرب فرنسا (22/12)، والثالثة هي حادثة جريدة شارلي إيبدو، والرابعة هي حادثة رهائن المتجر اليهودي. الحوادث السبع الباقية وقعت كلها في نيجيريا على يد جماعة داعش النيجيرية (بوكو حرام) وخلّفت أكثر من ألف قتيل، منهم 120 من “المرتدين” الذين قُتلوا بالقنابل والرشاشات وهم يصلّون الجمعة في جامع كانو المركزي.
إن تتبّع المنحنى الصاعد كالصاروخ للهجمات المنسوبة إلى “الإرهاب الإسلامي” في العالم، ولا سيما في العالم الغربي تحديداً، يُنبئ بأن “غرفة عمليات مركزية” هي التي تدير تلك الهجمات، بغضّ النظر عن هُويّات المنفذين التي لا تقدّم ولا تؤخر في فهم المسألة، وينبئ أيضاً بأن تلك العمليات ليست مقصودة لذاتها، فإن أثرها في تلك الدول ليس أكثر من أثر دبابيس تُغرَز في جسم فيل (وإن ظنّ المغفلون الذين ينفذونها أنها تزلزل كيان العالم).
عندما “أنتجت” أمريكا “مسرحية” برجَي التجارة عام 2011 كانت تواجه مشكلتين، مشكلة نظام صدام حسين في العراق ومشكلة دولة طالبان في أفغانستان، وقد استغلّت الغطاءَ الذي وفرته حادثةُ البرجين لحل المشكلتين حلاً عسكرياً فَجّاً لم يكن سهلاً تمريرُه بلا غطاء. فما هي المشكلات التي تواجهها أمريكا ويواجهها “النظام الدولي” في المنطقة الإسلامية حالياً؟ ماذا يمكن أن يكون السبب في هذا الحشد الهائل وراء عملية باريس التافهة؟
5- نشرت جريدة “يديعوت أحرونوت” الإسرائيلية قبل الحادثة بأسبوع واحد فقط مقالةً عنوانها “واشنطن تقرر إعادة النظام العربي القديم”، كتبتها محررةُ الشؤون العربية في الجريدة، سمدار بيري، وجاء فيها: “إننا نشخّص مؤشرات متتالية تدلّ على أن واشنطن قررت العودة إلى النظام القديم في العالم العربي”.
لقد أنتجت ثوراتُ الربيع العربي حالةً جديدة في خمس دول عربية، حالة مقلقة للنظام الدولي ولأمريكا التي تقوده قيادة أحادية مطلقة منذ انهيار الاتحاد السوفييتي وانتهاء الحرب الباردة. نجح النظام الدولي خلال السنتين الماضيتين في احتواء الوضع الجديد في دولتين من الدول الخمس (مصر واليمن) وبقيت ثلاث، منها دولة “ضمن السيطرة” هي تونس (لأن أقوى لاعب في البلاد، الجيش، لم يتأثر بالتغيرات الأخيرة) واثنتان خارج السيطرة، هما ليبيا وسوريا.
لقد فشل “الوكيل المحلي” في حل المشكلة في ليبيا حتى الآن رغم أنه مُنِحَ ما يكفي من الوقت والموارد، فهل سيجد الغرب ذريعة للتدخل المباشر عمّا قريب؟ إنه احتمال وارد يجب على ثوار ليبيا أن يأخذوه في الحسبان، وهو أقرب الاحتمالات لتفسير الحوادث والتطورات الأخيرة.
6- وماذا عن سوريا؟ لقد قامت داعش بالجزء الصعب من المهمة، فطعنت الثورةَ السورية في الظهر واحتلت ثلاثة أرباع أراضيها المحررة، ثم حرصت على تقديم الذرائع والأسباب الكافية لضربها، وإذا ضربوها وأخرجوها (بعد أن ينتهي دورها) فمَن سيُحِلّون محلها؟ أحرار الشام أم جيش المجاهدين؟ لقد قدمت لهم داعش الطريقة السهلة لانتزاع الأرض من المجاهدين الذين حرروها، ثم لنقلها إلى الكيان السياسي الجديد الذي يسعون إليه.
وماذا عن الجزء الذي بقي في أيدي الثوار من المناطق المحررة؟ إنه الجزء الذي تنتشر “جبهة النصرة” في كل أنحائه، وهي فرع من فروع تنظيم القاعدة الذي أعلن فرعٌ آخرُ من فروعه مسؤوليتَه عن عملية باريس التي صارت هي المظلةَ الجديدة للحرب على الإرهاب، فماذا سيكون موقف “التحالف الدولي الجديد ضد الإرهاب” من مناطق سوريا المحررة التي تنتشر عليها جبهة النصرة؟
المسألة بسيطة جداً ولا تحتاج إلى عبقرية لحلّها. لننظر إليها بعيون فرنسية غربية: لقد ضربت “القاعدة” عالمَنا الآمنَ المسقرّ وهددت أهم قِيَمنا التي لن نتهاون في الدفاع عنها، الحرية. وها هي “القاعدة” نفسُها تتمدد عبر الأراضي السورية باسم “جبهة النصرة”، وأخيراً فقد كان بعضُ الجناة الذين قتلوا صحفيينا الأبرياء، كانوا في سوريا منذ وقت قريب، فماذا تتوقعون منّا يا أيها السوريون؟
نعم، هذا هو السؤال: ماذا نتوقع من الغرب بعد تلك الحملة الهائلة وذلك التجييش الذي لم تعرف له أوربا مثيلاً منذ عقود؟ من أجل ذلك طالبنا كثيراً (وما نزال) بأن تقطع جبهةُ النصرة علاقتَها التنظيمة بالقاعدة وأن تتخلى عن فكر القاعدة ومنهجهها وتندمج في الجسم الجهادي الشامي الكبير، ولكنها أبَتْ وأصرّت على الارتباط بالتنظيم الجهادي الأم وعلى تبنّي المشروع القاعدي بحذافيره، وما زالت تأبى وتصرّ على أن تجرّنا معها إلى الهاوية!
نعم، لقد بدأ الفصل الأول في المسرحية الجديدة، وها هو المسرح الدولي يجهَّز لحدث جلل، حيث سيجتمع اللاعبون الكبار في الثامن عشر من الشهر القادم في واشنطن لبحث “سبل محاربة التطرف في العالم”. فلنفتحْ أعينَنا ولنتابع الأحداث القادمة، ولنربط الواضحَ الجليّ منها بالمستتر الخفيّ ونحاول استقراء الحدث قبل وقوعه لعلنا ننجح في اجتناب شرّه قَدْر الوُسْع، فإن الأيام حُبالى وتوشك أن تضع حملها الثقيل.