لماذا أحب سيد قطب
– لأنه تحدث بكثير مما تحشرج في صدري، وازدحم في ذهني، وعجزتُ أن أُخرجه، فوجدته مكتوبا أمامي بقلم سيد… فكان أقدر على البوح لي مني بأسرار قلبي وتمكيني من فهم حديثي لنفسي.
– أحب سيدا لأنه هو الذي أخذ بيدي للعيش في ظلال القرآن، “فأدركتُ أنها نعمة لا يعرفها إلا من ذاقها..نعمة ترفع العمر وتُباركه وتزكيه”. وأيّ نعمة أكبر من أن يخاطبك الله الخالق العظيم بكلامه هو، ويمكنك من تلاوته وحفظه وكتابته وتفسيره، وأنت البشر الضعيف.
– أحب سيدا لأنه أدخلني آلة الزمن، فوجدت نفسي مع “جيل قرآني فريد”، وأدركت لماذا تميز هذا الجيل، ولماذا كان أهلا لأن يحمل هذه الرسالة العظمى للآفاق. وكم مرة قرأت سيرة الصحابة فلم أتمكن من العيش بوجداني وروحي وقلبي وعقلي مع هذا الجيل بمثل ما نقلني سيد في آلته الزمنية.
– أحب سيدا لأني تعلمت منه معنى استعلاء الإيمان وكبرياء الإسلام، وأدركت -بعد قراءتي له- بأنني كلما استغرقت في فهم حقيقة هذا الدين مقابل مناهج البشر التائهين كلما ارتفعت هامتي وترسخت ثقتي بنفسي وأحسست بيقين “أنني أنظر من علو إلى الجاهلية التي تموج في الأرض، وإلى اهتمامات أهلها الصغيرة الهزيلة”.
– أحب سيدا لأنني اكتشفت به هويتي كمسلمة ترتقي عن الصغائر وتتميز عن البقية بعقيدتها التي لا يقارن بها أي انتماء… علمت أني لا أنتمي إلى قطيع البشر الضالين، بل لمسيرة طويلة كان فيها أرقى البشر وأعظمهم منذ آدم إلى نوح إلى محمد مرورا بآلاف الرسل الذين كرمهم الله بالوحي والرسالة. وأنتمي بعدهم إلى أفضل جيلٍ مرّ على التاريخ، جيل الصحابة، خير أمة أخرجت للناس، ونِعم الفخر ونعمت الكرامة.
بهذا الانتماء أدركت مع سيِّد أن “عقيدة المؤمن هي وطنه، وقومه، وهي أهله… ومن ثم يتجمع البشر عليها وحدها، لا على أمثال ما تتجمع عليه البهائم من كلأ ومرعى وقطيع وسياج!”
وعلمتُ أن الخط الفاصل بين هذه الهوية والانتماءات الأخرى خط واضح وعزل بائن لا برزخ فيه ولا مناطق رمادية “(لكم دينكم ولي دين) ولا أنصاف حلول، لا التقاء في منتصف الطريق، مهما تزيّنت الجاهلية بزي الإسلام أو ادَّعَت هذا العنوان.
“إن الجاهلية جاهلية، والإسلام إسلام، والفارق بينهما بعيد، والسبيل هو الخروج عن الجاهلية بجملتها إلى الإسلام بجملته“.
– أحب سيدا لأنني فهمت معه معنى أن تكون كلمة الله هي العليا، ومعنى أن يكون الدين كله لله، ومعنى “مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه”… لم يأت الإسلام ليتسول الفرصة للتأثير في النفوس والقلوب، بل جاء ليحكم ويسيطر ويهيمن وتكون كلمة الله هي العليا وسلطة الدين هي المهيمنة وقوى الجاهلية كلها تحت الأقدام.
– أحب سيدا لأنني من خلاله عرفت معنى عالمية الإسلام، وعرفت معنى رحمة للعالمين.
لقد كان غاية فهمي لهذه العالمية -قبل سيد- أن الإسلام دعوة سلمية لكل البشر تحت أي حكم كان على طريقة التبشير المسيحي أو جماعة التبليغ، لكنني -بعد سيد- أدركت أن الإسلام جاء ليكون سلطة كاملة شاملة، لا لقطر واحد، ولا بضعة أقطار، بل حكما ممتدا لا يتوقف حتى لا يبقى بيت مدر ولا وبر إلا ودخله بعز عزيز أو بذل ذليل.
– أحب سيِّدا لأنني تشربت معه المرجعية المطلقة لهذا الدين في كل حياة الناس. لقد علمونا أن الكتاب والسنة هما المرجع لكننا ظننا أنهما مرجعية الوضوء والصلاة والزواج والطلاق، ولم أدرك معنى كلام نبي الله إبراهيم “قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين” حتى دلني سيِّد على مفهوم الحاكمية العليا لهذا الدين، ومنها دلني على المرجعية الشاملة في كل شيء، في حياة الفرد والمجتمع والدولة والعالم، فلا فرصة لأي شيء في الحياة إلا بالله ولله وعلى المنهج الذي يرضي الله.
– أحب سيدا لأنني تعلمت منه أن العقيدة الصحيحة ليست نصوصا نظرية دون مقتضياتها الحقيقية، ودون تمثلها في الشعور والكلام والسلوك والمواقف…
وتعلمت منه أن التوحيد الخالص ليس في تلقين لفظي، بل هو في التحرر الكامل من غير الله. وهنا أدركت لماذا سيد الشهداء هو من يقول كلمة الحق أمام سلطان جائر، ذلك لأنه في هذا المقام لن يعزم على قول كلمة الحق إلا وقد تيقن حقيقة أن لا هيبة إلا لله، ولا قدرة ولا إرادة إلا لله، وهنا التحقيق المثالي للتوحيد.
-أحب سيدا لأني تعلمت منه أن الحرية الحقيقية ليست حرية (لوك ولا هوبز) بل هي التحرر من كل شيء إلا الله… وتعلمت من سيد أن الخضوع للشهوات والهوى والخضوع لتشريع بشري ليس تحررا، بل هو نوع آخر من العبودية، مهما زركشوه وجمّلوه.
– أحب سيدا لأني أدركت أن العدل الحقيقي لن يكون إلا بشريعة الله التي لا يوازيها أي قانون من شرائع البشر. ومهما اجتهد القضاة وتجردوا في العدل بين المتخاصمين في أنزه أنظمة القضاء في العالم فالقانون الذي حكموا به قانون بشري لا يُقارن بعدالة السماء.
– أحب سيّدا لأني تعلمت منه أن أحتقر الطغاة، وأدركت أن قوتهم لم تأت إلا من ضعف القطيع الذي يسمى شعبُا، “وما الطاغية إلا فرد لا يملك في الحقيقة قوة ولا سلطانا، إنما هي الجماهير الغافلة الذلول، تمطي له ظهرها فيركب! وتمد له أعناقها فيجر! وتحني له رؤوسها فيستعلي! وتتنازل له عن حقها في العزة والكرامة فيطغى! العبيد هم الذين يهربون من الحرية فإذا طردهم سيد بحثوا عن سيد آخر ؛ لأن في نفوسهم حاجة مُلِحَّة إلى العبودية لأن لهم حاسة سابعة : حاسة الذل”… ورأيت ذلك متمثلا في شخصيته، حين سأله القاضي إنك متهمٌ بمحاولة قتل عبد الناصر، فقال: إن قتل عبد الناصر هدفٌ تافه، إننا نهدف لبناء أمة لا يخرج فيها مثل عبد الناصر!
– أحب سيدا لأني تعلمت منه أن أفتخر بهذا الدين، وبكل ما جاء فيه، وأستسخف نهج الدفاع والخجل عند بعض المسلمين، والتبريرات الانهزامية لبعض الأحكام والمبادئ.
“ليس في إسلامنا ما نخجل منه، وما نضطر للدفاع عنه، وليس فيه ما نتدسس به للناس تدسُساً، أو ما نتلعثم في الجهر به على حقيقته. إذا كان هناك من يحتاج للدفاع والتبرير والاعتذار فليس هو الذي يقدم الإسلام للناس، وإنما هو ذاك الذي يحيا في هذه الجاهلية المهلهلة المليئة بالمتناقضات وبالنقائض والعيوب، ويريد أن يَتلمس المبررات للجاهلية. وهؤلاء هم الذين يهاجمون الإسلام ويُلجِئُون بعض محبيه الذين يجهلون حقيقته إلى الدفاع عنه، كأنه متهم مضطر للدفاع عن نفسه في قفص الاتهام!”
– أحب سيدا لأني تعلمت منه أن هذا الدين منهج للبشر، نتعامل معه بقدرات البشر، منهج واقعي، نتحمل مسؤولية تطبيقه ونشره والجهاد من أجله، نحن بجهدنا وبقدراتنا البشرية. وحتى أن محمدا عليه الصلاة والسلام لم ينتصر بالمعجزات، بل بجهاده وجهاد من معه رضي الله عنهم، وهو الذي انتظر ثلاثة عشر عاما في مكة، ولاقى ما لاقى في أحد، وحوصر في الخندق، وكاد أن تقع لجيشه كارثة في حنين.
وأطرَبُ وأَنتشِي وأُحلِّق في سماء عالية حين أقرأ تعليق سيد على كلام الله (أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم )، وأعلم أننا خاضعون لسنن الله مثل غيرنا، فلا استثناء للمسلمين من سنن الله (ولن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا).
-أحب سيِّدا لأنه يرفض الميوعة وروح الهزيمة، ويريد للمسلم أن يتعامل بنفسية فوقية في كل ظروفه، لأن ”فقه هذا الدين لا يجوز أن يؤخَذ عن القاعدين، الذين يتعاملون مع الكتب والأوراق الباردة”، ولأن “الدعوة الهينة يتبناها كل ضعيف، أما الدعوة العتية الصعبة فلا يتبناها إلا الأقوياء ولا يقدر عليها إلا الأشداء”، ولأن “من لم يدفع ثمن الجهاد، فسوف يدفع ثمن القعود“، ولأنه “إذا أريد للإسلام أن يعمل، فلابد للإسلام أن يحكم، فما جاء هذا الدين لينزوي في الصوامع والمعابد، أو يستكن في القلوب والضمائر”.
ولكم شفى غليلي سيد في هؤلاء الذين ”يريدون إسلاما أمريكانيا، إسلاما يُستفتى في نواقض الوضوء، ولكنه لا يُستفتى في نواقض الإسلام“.
– أحبُّ سيّدا لأنه رغم صلابته وجديته وحياة التحدي والعناد الصارم كان فائق الرقة في تعليقاته الوجدانية على معاني الحب الواقعة داخل إطار الإسلام. وكم بهرني في تعليقاته على حب النبي صلى الله عليه وسلم لخديجة وعائشة، وحُبه لصحابته، وتعامله مع قصة الإفك، وزواجه من جويرية، ورقته تجاه ابنته زينب في قصة أبي العاص، وكلامه عن الإخوة بين المهاجرين والأنصار!!
– أحب سيدا لأنه مثلما يأسر عقلك حديثه عن معاني الجهاد والقتال والعزة والهيمنة، فإن حديثه عن التربية الروحية يأخذ قلبك ويستولي على مشاعرك ويسيح بروحك في فضاء الخشوع فلا تحتاج لتجليات الصوفية ولا وجد العارفين. وأعترف أني ممن يُحِب مدارج السالكين وإحياء علوم الدين، لكنها لا تحلق بي مثلما يحلق بي سيد روحانيا بالطريقة السنية الصافية الخالية من خزعبلات الصوفية وجفاف المعتزلة.
– أحب سيدا لأنه حقق أصعب أنواع التواضع وهو التواضع الفكري فلطالما كان يكرر أنه ليس مُفتيا ولا مَرجِعًا عِلميًا وأصرَّ على تسمية كتابه في ظلال القرآن ورفض أن يعتبره تفسيرا حتى لا يتحمل مسؤولية المرجعية الشرعية. ثم جمع بين التواضع والعودة للحق حين تراجع عما كتبه سابقا مما فيه تجاوز على بعض الصحابة وتبسط في المعاني الأدبية وأوصى في نهاية حياته أن لا يلتفت إلى الكتب السابقة قبل ان تتضح له صفاء هذا الدين.
– أحب سيدا لأنه كان مثال كل ذلك: مثال الاستعلاء ومثال الصمود ومثال العزة والكرامة ومثال الروحانية…
تطربني عبارته “لن أعتذر عن العمل مع الله”
وعبارته “إن إصبع السبابة الذي يشهد لله بالوحدانية في الصلاة ليرفض أن يكتب حرفا واحدا يقر به حكم طاغية”.
وعبارته “لماذا أسترحم؟ إن كنت محكوما بحق فأنا أرتضي حكم الحق، وإن كنت محكوما بباطل، فأنا أكبر من أن أسترحم الباطل”.
وعبارته في تعريف الشهيد “هو الذي شهد أن شرع الله أغلى من حياته”.
وعبارته حين جاء عالم البلاط يلقنه الشهادة “وهل أتى بي للمشنقة إلا لا إله إلا الله”.
فبالله عليكم هل يراود أحد الشك في قوة إيمانه وصلابة نفسيته وشوقه للقاء ربه من أجل قضيته؟!
– وأخيرا أحبه لأنه استشرف مستقبله دون أن يسمي نفسه، فهو كما قال “كم من شهيد ما كان يملك أن ينصر عقيدته ودعوته ولو عاش ألف عام، كما نصرها باستشهاده”.
وقال “ستكون كلماتي أكثر قوة لو قتلوني”… وقال “إن أفكارنا وكلماتنا تظل جثثا هامدة، حتى إذا متنا في سبيلها أو غذيْناها بالدماء انتفضت حية وعاشت بين الأحياء“…
– وأحبه لأنه رثى نفسه بقصيدته المشهورة أخي أنت حر وراء السدود والتي قال فيها:
قد اختارنا الله في دعوته
وإنا سنمضي على سُنته…
فمنا الذين قَضوا نَحبهم
ومنا الحفيظ على ذِمته…
وها قد أقرَ الله عينه فكان له دور كبير في كل المسيرة الجهادية التي ملأت الأرض وأربكت قيادة الجاهلية…
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.