بقلم: أمير سعيد
كأننا شاهدنا هذا “الفيلم” من قبل!
مسؤول قضائي رفيع المستوى يحتجز من قبل مجموعة “متمردة” يحركها جهاز استخباري، وتشهر في وجه المسدسات..
امتناع الإعلام الانقلابي والعالمي الداعم له عن وصف هذه العملية بـ”الإرهابية..
“تسهيلات” يتلقاها المهاجمون في اختراق أماكن عالية التأمين والأهمية..
حملة غير بريئة ترفع شعار القصاص، لكنها تفرق بين دماء أبناء الوطن؛ فلديها “أيقونة” من “النشطاء” و”النشطاء” وحدهم إن مات أحدهم فقط؛ فيجب قلب النظام الديمقراطي المنتخب “قصاصاً” له.. فإذا انقلبت الحملة عليه استحال دمه ماءً.. وطواه النسيان!
انقطاع مشبوه للكهرباء دون داعٍ..
إضرام النار في مقرات “الحزب الأول” لأن هزيمته عبر الصناديق قد صارت مستحيلة.. ولأن هكذا تبدو الأمور منفلتة، وتبدو حكومته عاجزة على تحقيق الأمن..
هجمات على مقرات أمنية، لبث الشعور بعدم الأمان داخلياً وخارجياً..
ارتفاع وتيرة الشائعات والبلاغات الكاذبة هنا وهناك لضرب الاقتصاد وتقويض السياحة؛ فإبلاغ عن قنبلة مزعومة في طائرة هنا، أو كارثة هناك..
مليارات تتدفق على قنوات فضائية عالمية ناطقة بالعربية لنشر تقارير عن “ديكتاتورية الرئيس المنتخب”، و”الانقسامات الداخلية”، وملايين تدفع لإصدار استطلاعات رأي مضللة..
اتهامات بدعم الإرهاب للحكومة المستقلة التي تستند إلى قاعدة شعبية..
هذا “الفيلم” نشاهد الآن لقطاته “حية” في تركيا، مثلما رأيناها من قبل في بلدان أخرى، نجح فيها ما يصبو إليه الصهاينة في مسعاهم بإطاحة أي نظام يعمل على تحقيق الهوية والاستقلال.
مقتل المدعي العام باسطنبول بعد احتجازه في مكتبه من قبل مجموعة إرهابية تنتمي إلى “جبهة التحرير الشعبية الثورية” المصنفة كجماعة إرهابية في تركيا وأوروبا، ووثيقة الصلة بالدولة العميقة في تركيا، وحزب الشعب الجمهوري الذي طلب الخاطفون ممثلاً له للتفاوض بديلاً عن الحكومة التركية، قطع التيار الكهربي عن 13 ولاية تركية، وهو الأكبر منذ 15 عاماً، الهجوم الإرهابي على مقر الأمن في المدينة الأكثر كثافة تركيا، اسطنبول.. واتهام الحكومة بالعجز الأمني.
علاقات تنسجها الديلي ميل من خيالها بين تركيا وجبهة النصرة، ومساعدات تركية تقول إنها سهلت من خلالها للتنظيم الذي ينتمي للقاعدة تحرير إدلب مع جماعات أخرى.. انصراف الإعلام الداخلي إلى إدانة قوى الأمن، بل والاستخبارات غير المسؤولة عن تأمين القصر العدلي (فقط لأن حقان فيدان القريب من أردوغان هو من يرأسها!)؛ فهي مشغولة بأشياء أخرى بحسب قيادة حزب الشعب الجمهوري الأتاتوركي (مع أن الأشياء الأخرى هي صميم عمل الاستخبارات وليست حراسة المؤسسات!).. مئات المغالطات على هذه الشاكلة من إعلام الخارج الغربي والعربي والداخل التركي المدعوم بالدولة العميقة وجناحها السياسي، حزب الشعب ونظرائه.
كل هذه، و لـ”المصادفة البحتة”! يقع قبل 60 يوماً من الانتخابات النيابية.. تماماً مثل “الفيلم” الذي شاهده الجميع من قبل..
أيضاً، ولـ”سوء قدر أردوغان وحزبه”؛ فإن أبواب العنف هذه، وتلك الإرهاصات المقلقة قد وقعت جميعها بعد أيام فقط من تصريح أردوغان الخطير، الذي لم يقتصر فيه على دعم عملية “عاصفة الحزم” الخاصة باليمن، بل قال: “إيران تحاول الهيمنة على المنطقة. هل يمكن السماح بهذا؟ بدأ ذلك يزعجنا ويزعج السعودية ودول الخليج. يجب أن تفهم إيران أنه ليس من الممكن فعلا التسامح مع هذا (…) يجب أن تغير ايران رؤيتها. يجب أن تسحب أي قوات مهما كان لها في اليمن وكذلك في سوريا والعراق وأن تحترم سلامة أراضيها”.. كاد أردوغان أن ينطق بالعبارات القاتلة ذاتها “المثيرة للانقلابات”.. “لبيك يا سوريا”.. “على حزب الله أن يترك سوريا..هذا كلام جاد لا مجال ولا مكان لحزب الله في سوريا”!
أردوغان يتحرك بذكاء، لا يخلو أحياناً من إفراط في التصريحات، التي تثير زوابع لا حصر لها عليه، بعضها صهيوأمريكي، وبعضها إيراني، لكنه على كل حال ليس هو ولا حزبه في وضع مريح هذه الأيام، فالأخطار محدقة، والبادي من الإعلام الغربي والصهيوني والإيراني معاً، أنه قد أصبح في مرمى نيران كثيفة، قد لا تكون بالضرورة استنساخاً بنماذج انقلابية قد جربت من قريب ونجحت في كسر خصومها، إلا أنها “تقتبس” من تفاصيلها الكثير، لكن فصل الحسم لن يكون بالضرورة مطابقاً لغيره؛ فدونهم إنجازات اقتصادية حقيقية، ونجاح سياسي غير مسبوق، ووعي أعلى لدى العدالة والتنمية، والشعب التركي، ومناخات مختلفة لا يمكن استنبات زقومها في كل أرض، ومساندة من أجنحة عديدة في أجهزة الدولة التركية.. بيد أن ما شاهدناه من حوادث متنوعة وضربات مربكة خلال تلك الأيام يشي بأن وراء الأكمة ما وراءها، وأن أشجارها تخفي أشياء يدبر لها بليل مظلم كئيب؛ فكل القوى الظالمة حول تركيا، تبدو منزعجة جداً، لاسيما مع التقارب الأخير مع السعودية ودول الخليج.. وقد ظهر القلق جلياً في إعلام “إسرائيل”، وهو يحذر من هذا التقارب، ومثله في كافة وسائل الإعلام الإيرانية الكبرى.. وإعلام أوروبا يدق ناقوس الخطر، ويحذر مراراً من “السلطان أردوغان”.
كذا، قد يبدو ما نراه إرهاصاً لفكرة الانقلاب على حكم العدالة والتنمية، وهو للتنبيه ليس بالضرورة عسكرياً مفاجئاً، ولا فجاً، ولكن دونه إفشال أمني واقتصادي، وشائعات كبرى قبل الانتخابات النيابية التي ينظر إليها كأمل باقٍ لدى الغرب لمنع استفاقة الأتراك، واستعادتهم أمجادهم العظيمة، لاسيما أن الزعيم أردوغان ربما يدرك أن الوقت لا ينتظره كثيراً فبدأ بتسريع منظومة “الأسلمة”، كسباً للظهير الشعبي، وتحقيقاً لمكتسبات يصعب التراجع عنها مستقبلاً لدى أنظمة قد تخلفه..
الانقلاب في تركيا قد يكون عبر الانتخابات، لكن بعد تسميم أجوائها تماماً؛ فأعداء العدالة والتنمية لا يطمعون في كثير هذه المرة، ليس إلا تراجعاً محدوداً للحزب الحاكم يفتح المجال لتكوين تحالف علماني يفوق في تمثيله البرلماني حاجز الـ50% ليشكل الحكومة، إذا ما نجح هؤلاء في رفع نصيب حزب الشعوب الديمقراطي، وحزب آخر صغير ليتجاوزا حد الـ10% التي تسمح لهما بالتمثيل البرلماني. هذا “ديمقراطياً” يمكن الوصول إليه، لكن حينما ينقطع الأمل لدى هؤلاء؛ فسينحصر أملهم في أسلوب الانقلابات، سواء أكانت صريحة أم مغلفة.. بعض الأعمال التي رأيناها توفر شيئاً من هذا إن زادت وتيرتها وأزعجت المستثمرين والسياح، وساهمت بسرعة في تدني الليرة التركية، ويبدو أن “الانقلابيين” ماضون في تنفيذها.. ومن يدري إن عجزوا أي سبيل انقلابي آخر سيسلكون.
تلك، ليست “خيالات شخصية”، فبمقدورنا أن نسمع صرخة أردوغان في وجه مناصريه منتصف مارس الماضي، بولاية باليكسير التركية، يقول: “إياكم أن تظنوا بأن المسلمين بالنسبة للغرب، هم أولئك البدو المساكين، الذين يعملون على رعي أنعامهم في صحارى إفريقيا، أبداً لا… فالمسلمون بالنسبة للغرب، هم نحن في المقام الأول، وهذا البلد وهذه الأرض التي نعيش عليها، لذلك، فإننا موضوعين كهدف أول، في أي حركة تشن ضد المسلمين حول العالم”