كاتبمجاهد مأمون ديرانيةمقالات مختارة

ما حَمَلك على ما صنعت؟

مجاهد مأمون ديرانية

يعاني الصفّ الثوري من الفُرقة والتصدّع، وهذه الآفة الخطيرة تُطيل الطريق وتضاعف الآلام وتفاقم الخسائر، ولا ريب أن لها أسباباً معقدة متشابكة علاجُها بعيدٌ عسير، ولكنّ لها أيضاً أسباباً هيّنة سهلة علاجُها قريبٌ يسير، فإذا فشلنا في علاجها كلها فلا عذرَ لنا في عدم علاج بعضها الذي نقدر عليه، وما لا يُدرَك كله ويُدرك قُلّه لا يُترَك قُلّه ولا يُترَك كله.

تابعت على مدى سنتين المحاولات الكثيرة المتعثرة لجمع الصفوف، ووجدت نفسي في بعض الأوقات وسط خلافات اشتدّ فيها تنازعُ المتنازعِين فوصلوا إلى درجة القطيعة واستحالة العمل المشترك، ولاحظت أن الغالبية العظمى من تلك المشكلات لم تنشأ من أسباب حقيقية جوهرية بقَدْر ما نشأت من التسرّع وسوء الظن ومن الخطأ في تفسير حادثة أو موقف تلبّسَ به أحدُ الطرفين، ولو أن الطرف الآخر منحَه الفرصةَ لتفسير الحادثة لزال اللَبْس وذهب الجفاء.

لو أن المتنازعين التزموا بالمنهج النبوي الرشيد لارتفع الخلاف وحَلّ الوئام محل الخصام. ما هو هذا المنهج؟ إنه الامتناعُ عن الظن السيّئ والمبادرةُ إلى سؤال الفاعل عن سبب فعله لما فعل. إنه يكون بسؤال واضح قصير: “ما حملك على ما صنعت؟”. خمسُ كلمات لو طرحَهنّ كل واحد فينا في موطن الخلاف لزالت أربعةُ أخماس الخلافات وسَلِمت القلوبُ من الضغائن والتقى مَن كانوا يظنون أنهم لا يلتقون.

الفضل لأخي العزيز الدكتور معن عبد القادر في بلورة هذا المنهج واستخلاصه من السنّة النبوية الشريفة، فقد استقصى جملة من الأحاديث الصحيحة التي طبّق فيها نبينا الأكرم عليه صلاة الله وسلامه هذا العلاجَ العجيب، بدءاً بواحد من أخطر المواقف في حياة الدعوة الإسلامية، في اللحظة التي انتظرها النبيُّ عليه الصلاة والسلام قريباً من ربع قرن، لحظة الحصاد بعد الزرع المُضني والصبر الطويل، يوم الفتح، حينما أقدم أحد أصحابه على عمل هو في مرتبة “الخيانة العظمى”، ولو تَمّ لقُوِّض الفتح وامتد الصراع الكبير بين معسكرَي الحق والباطل ما لا يعلمه إلا الله من الزمان.

لو أن قائداً غير النبي عليه الصلاة والسلام كان في ذلك الموقف، لو كان فيه واحد من قادة الجهاد الشامي اليوم، فكيف سيكون العلاج؟ محكمة ميدانية وإعدام فوري، هذا هو مقتضى “القانون العسكري” الذي تعرفه كل جيوش الأرض. لكن سيّد الخلق وأكرم من مشى على الأرض ليس كأي قائد من قادة الدنيا، فهو لم يتعجل بالعقاب ولم يحكم في القضية إلا بعدما منح المتهمَ الفرصةَ لكشف السبب الذي دفعه إلى فعل ما فعل؛ قال: يا حاطبُ، ما حملك على ما صنعتَ؟

يقول الدكتور معن في مقالته القيّمة الجميلة: “ولكن الذي قد لا يعلمه الكثير منا أن هذه العبارة لم تكن جملة عابرة من النبي صلى الله عليه وسلم، بل كانت منهجاً مطّرداً: أن يسأل صاحب الشأن “لِمَ فعل ذلك؟” قبل أن يحكم عليه أو يتخذ بشأنه أمراً. وهذا بعض ما وقفت عليه من سيرته صلى الله عليه وسلم…”

ثم يعرض لنا طائفة من المواقف المتنوعة التي كان كلٌّ منها كافياً لحمل أحدنا على القيام بتصرف فوري هائج، مواقف لم يتسرع فيها النبي صلى الله عليه وسلم ولم يَبنِ تصرفه على وضوحها الظاهر، بل بادر أولاً إلى طرح ذلك السؤال العظيم: ما حملك على ما صنعت؟

لن أنسخ المقالة هنا ولكني سأنسخ رابطها في الختام، وأتمنى أن يقرأها قادة الجهاد وعامة الناس، فكم يُزيل هذا المنهج الرشيد من لَبْسٍ وكم يرفع من خلافٍ وكم يقرّب من قلوب وكم يحقن من دماء، ولو أنّا وعَيناه لَتعافينا من عيوب كثيرة ولكان الحالُ غيرَ الحال.

إن كثيراً من الأخبار التي تطير في الفضاء الثوري طول الوقت تُبنَى على فهمهما الظاهري المتعجّل مواقفُ مصيرية، أكثرُها مواقف سلبية ضارة بالثورة وأقلُّها مواقفُ إيجابية نافعة. قد يتقاطع قائدان ويتعثّر اجتماعُ فصيلَيهما في كيان واحد لأن أحدهما سمع أن الثاني التقى بوفد أجنبي، وقد تدخل مؤسستان من مؤسسات الإدارة المدنية في صراع لأن إحداهما ارتبطت بالائتلاف وتلقت منه الدعم، وقد يقرر بعضُ القادة طردَ فصيل من غرفة القيادة المشترَكة لأنه سحب عناصره من إحدى الجبهات.

هذه كلها حالات حقيقية كنت طرفاً فيها أو مطّلعاً عليها في بعض الأوقات، وقد وفق الله إلى حلّها كلياً أو جزئياً بمجرد تفسير الفعل الذي بُني عليه الموقف السلبي. هذا ما حصل في الحالة الأخيرة على سبيل المثال: عند التحقّق والسؤال اتضح أن قائد الكتيبة سحب عناصره من الجبهة لأنه رصدَ تقدماً مفاجئاً للعدو عبر ثغرة خفيّة مَنسيّة، ولم يملك الوقت للتنسيق مع الآخرين فأسرع بسحب عناصره وسَدّ الثغرة ومنع تقدم الأعداء منها، ولو تأخر لقُضي على الجميع. عندما مُنح هذا القائد الفرصةَ لتفسير عمله انقلب لومُه إلى مديح، وتشبّث القادة بكتيبته الصغيرة بعدما أوشكوا أن يفصلوها من غرفة العمليات.

منهج ثوري مهم؟ نعم، ولكنه ليس خاصاً بالثورة وحدَها، بل هو وصفة نبوية ومنهج إصلاحي للحياة كلها، لدوام الودّ والوئام وانتفاء الوحشة والخصام بين الوالدين والأولاد والأزواج والزوجات والإخوة والأخوات، وبين الأقرباء والأصدقاء والشركاء والزملاء والجيران والخلاّن. تعلّموه تُرْضوا ربكم وتعيشوا في سعادة وسلام.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى