زعموا أن سبّاحاً أراد قطع قناة المانش التي يتبارى في قطعها مَهَرةُ السباحين، فلما قطع ثلاثةَ أرباع المسافة أدركه الكلالُ واستبدّ به اليأس واستبعد شاطئ الوصول فقرر الرجوع.
لعل هذه طرفة من الطّرَف لا حقيقة من الحقائق، لكن الحياة حافلة بأمثلة حقيقية من أشباهها. يُنشئ أحدهم مشروعاً تجارياً ويستثمر فيه القدر الكبير من المال، ثم يستبدّ به القلق وتَثقل عليه نفقات الإقلاع، وكل مشروع في أوله مُهلك للمال، فإذا غلبَه خوفُه أغلق المشروع وخسر كل ما استثمر، وإذا غلب خوفَه صبر وربح وصار من الأثرياء. ومثله المريض الذي وُصف له العلاج المزعج الثقيل، ربما احتمله الوقتَ الطويل ثم كَلّ ومَلّ فتركه على مسافة أيام من الشفاء، فانتكس وساءت حالته وزادت عليه الأسقام والآلام.
لا ريب أن الرزق والشفاء من الله، فهو الشافي وهو الرازق، ولكنّ ربنا تبارك وتعالى أمرَنا بالعمل والأمل وحذّرنا من اليأس والملل ونهانا عن التواكل والكسل، فإذا بذلنا الجهد على قَدْر الوُسع وصبرنا إلى غاية الصبر كنّا أليقَ بنصر الله وكنا أجرأ على مَدّ اليد إليه بالدعاء والابتهال.
لقد اشتدّ الكرب وثَقُل الحِمل وطالت المحنة، ولعلّ في الناس مَن أشرف على رفع الراية البيضاء وإعلان الاستسلام للنظام. لا نقول لمن أضناه البلاء إن الباقي من الرحلة قصير يسير، بل هو طويل عسير، ولكن العودة أطول وأشق، ومهما تكن الصعوبات التي تكتنف الجزء الباقي من الرحلة فإن ما ينتظرنا -لو رجعنا إلى حيث كنّا- أصعبُ بما لا يُقاس.
يا أيها الناس، يا أيها الصابرون المرابطون في أرض الشام: إن الثورة سفينة أقلعت بركابها من ميناء العبودية والذل والأغلال إلى ميناء الحرية والكرامة والاستقلال، وإنها اليومَ في عُرض البحر تغالب الأمواج العاتية، فلو يئس أهل السفينة وتركوها للموج ابتلعها الموجُ وهلكوا جميعاً، ولو ردّوها على أعقابها عادوا إلى ما كانوا فيه من الذل والهوان، فليس لهم إلا الاستمرار في الإبحار وسط الموج والإعصار حتى يصلوا إلى ميناء الظفر والانتصار، ولعل ما بقي أقل مما مضى بإذن الله الواحد القهار.