1- روى الطبريّ في تاريخه أن علياً وطلحة والزبير اجتمعوا ليلةَ الجمل، فتوافقوا وتكلموا فيما اختلفوا فيه فلم يجدوا أمراً هو أمثل من الصلح. فافترقوا على ذلك واطمأنت النفوس، وباتوا بخير ليلة لم يبيتوا بمثلها للعافية. وبات الذين أثاروا أمرَ عثمان بشَرّ ليلة باتوها قط، قد أشرفوا على الهلكة، وجعلوا يتشاورون ليلتَهم كلها، حتى اجتمعوا على إنشاب الحرب في السرّ. ثم غَدَوا مع الغَلَس (أي مع ظلمة آخر الليل) وانسلّوا إلى ذلك الأمر انسلالاً، فخرج مُضَريُّهم إلى مُضَريِّهم ويمانيُّهم إلى يمانيِّهم فوضعوا فيهم السلاح، فثار كل قوم في وجوه أصحابهم الذين بَهَتوهم، وبدأت الحرب.
قال الشيخ محب الدين الخطيب في تعليقه على “عواصم” القاضي ابن العربي: “وهكذا أنشبوا الحربَ بين علي وأخويه الزبير وطلحة، فظنّ أصحابُ الجمل أن عليّاً غدر بهم وظنّ علي أن إخوانه غدروا به، وكلٌّ منهم أتقى لله من أن يفعل ذلك في الجاهلية، فكيف بعد أن بلغوا أعلى المنازل من أخلاق القرآن؟”
2- إننا نعيش في سوريا اليوم فتنةً كيوم الجمل، فكلّما أوشكت نارُ الفتنة أن تخبوَ بجهود المصلحين جاء مَن يصبّ على النار زيتاً ويغذيها بالوَقود والبارود. إن الحالة التي عشناها في الأيام الماضية هي حالة هستيرية جاهلية نموذجية، خرج فيها كثيرون من إسلامهم إلى جاهليتهم وراحوا يهتفون بثارات أبي عيسى كما يهتف الرافضة بثارات الحسين! لا أشك أن أكثر أولئك المجانين الذين ملؤوا العالم الافتراضي صخباً وضجيجاً هم من المخابرات وأعداء الأمة والثورة، ولكنهم ما كان لنفخهم أن يزيد الضِّرام لولا أن النار كانت قد اشتعلت ابتداء، ولا أراها اشتعلت إلا بأيدي عملاء يخترقون الجماعات على الأرض.
إن جبهة النصرة وحركة حزم مخترَقتان بالعملاء قطعاً، وليس هذا غريباً، فإننا نعلم أن الفصائل والجماعات كلها مخترَقة، إما بواسطة النظام الأسدي أو بواسطة داعش أو بواسطة أجهزة المخابرات الإقليمية والدولية التي غزتها كغزو السوس للطعام. هذا أمرٌ لا يمكن الاحتراز منه في ظروف الحرب التي نعيشها في الشام في هذه الأيام.
لا أشك أن أولئك العملاء المدسوسين في النصرة وحزم هم المسؤولون عن إشعال النار. إذا نجح أسلافُهم في جَرّ أكرم أجيال البشر إلى الاقتتال فكيف سيمتلك ثوار اليوم في سوريا الحصانةَ من الفتنة؟ هل من طريق لدفعها واجتناب الاقتتال؟ لحسن الحظ: نعم، إذا صدقت النيّات.
3- لا يكون الانفجار إلا إذا اجتمع البارود بالنار، فإذا بقي برميل البارود بعيداً عن شعلة النار أمِنّا الانفجار. لو بقيت النصرة حيث النصرة وبقيت حزم حيث حزم لما وقع الاقتتال الأخير، وهو اقتتال سنراه في صور متكررة إذا لم نعالج الجذور والأسباب. إذا اختلفت طائفتان فتحركت هذه إلى تلك أو تلك إلى هذه كان التقاء البارود بالنار وكان الانفجار، فلا أمانَ إلا بالفصل بين المختلفَين وبأن لا يمشي أحدُهما إلى الآخر. مَن حافظ على موقعه سَلِمَ وسلم منه الآخرون، ومن تحرك إلى الآخر وتسبب في الاقتتال فعليه غضب الله.
الحكم الشرعي الذي أراه هو أنّ مَن مشى إلى الآخر فقاتله فقتله فهو قاتل متعمّد مخلَّد في النار، وفيه وفي أمثاله نزل قولُ الله تبارك وتعالى: {ومن يَقتُلْ مؤمناً متعمّداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً أليماً}. أخرج البخاري عن ابن عباس، قال في الآية: هي آخر ما نزل، لم ينسخها شيء.
يا أيها المجاهدون في الشام: إننا مقبلون على فِتَن عمياء سيَحار فيها العقلاء، وإنّ عاصمَكم من الحيرة ومن التلبّس بخطيئة قتل النفس البريئة هو الثبات في الأرض وعدم التحرك بالسلاح على فصيل آخر. إن الساعي إلى موقع الطرف الآخر هو البادئ بالقتال، فإذا أمرك قادتُك بالتحرك لقتال مسلم فاعصِ الأمر ولا تطِعْهم في معصية، بل في كبيرة من أكبر الكبائر. اعتزل القتال وألقِ السلاح، وإذا ألزموك وهدّدوك بالقتل فلا تكن عبدَ الله القاتل وكن عبدَ الله المقتول.
4- أما إذا بغى عليك فصيل آخر فهاجمك في أرضك فلا جناح عليك أن تدافع عن نفسك وأرضك بالحق، ففيك -عندئذ- يتحقق حديث أبي هريرة الذي أخرجه مسلم في صحيحه، أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أرأيتَ إن جاء رجلٌ يريد أخذ مالي؟ قال: لا تُعطِه مالك. قال: أرأيتَ إن قاتلني؟ قال: قاتلْه. قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: فأنت شهيد. قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: هو في النار.
إن قتال المسلم وقتله من أعظم الذنوب ومن أكبر الكبائر، فلا يَحِلّ قتالُه إلا لردّ العدوان الصريح كما جاء في الحديث الصحيح السابق، أو لردّ البغي الموصوف في آية الحجرات. أما استيفاء الحقوق الفردية والقصاص في الدماء فلا يكون بالقتال، بل يكون بالتقاضي إلى القضاء الشرعي. واعلموا أن العفو مقدَّم على القصاص وأن الصلح خير، فليصبر أصحابُ الحق ولو طال التقاضي وماطل الخصوم، ولا يتسببوا في قتال بين المسلمين بذريعة القصاص للقتيل من قاتليه.
ولأن القتال بين المسلمين أمر جليلُ الخطر عظيمُ الشأن يدمر الجماعة ويقضي على شوكتها ويمكّن منها عدوها فإنّ الذي يقرر حالةَ البغي ويبرّر قتال البغاة ليس أياً من طرفَي النزاع؛ قال تعالى: {فقاتلوا التي تبغي}، فوجّهَ الأمر بالقتال إلى جماعة المسلمين، ممثّلةً بقيادتهم السياسية إذا كانت لهم قيادة وإمام، أو بجماعتهم إذا لم يكن لهم إمام، كذلك فسّرها أهل العلم. وقد تحققت عندنا هذه الحالة في الثورة السورية لمّا خرجت داعش على الجماعة وقاتلت عموم الناس، فاجتمع المسلمون في الشام على وجوب قتالها ودفع شرها، وهذه حالة نموذجية من حالات قتال البغاة في العصر الحاضر تصلح للتدريس في المعاهد والكليات.
5- لأنني أبالغ في انتقاد الأخطاء القاتلة ولا أملّ من نقد المخطئين الذين يجرفون ثورتنا إلى الهاوية صنّفني بعضُ الناس في قائمة مثيري الفِتَن، وما يزالون يطالبونني بالصمت. غاب عن أولئك الأفاضل أن لكل بداية نهاية، وأنّ مَن أراد إصلاح النهايات فعليه إصلاحُ البدايات.
إذا سارت السيارة في طريق يعلم بعضُ الناس أنه ينتهي بهاوية عميقة فعليهم أن يهتفوا بالسائرين: “احذروا، إنكم تمشون إلى الهاوية والضياع”. وماذا ينبغي أن يصنع السائرون في الطريق؟ عليهم أن يقفوا ويصحّحوا الاتجاه، فإذا لم يفعلوا فسوف يصيح المحذّرون: “قفوا ويلكم، أما تسمعون؟” فإذا أصرّوا على المضيّ في طريق الموت سيتعالى صياحُ الآخرين: “قفوا يا مجانين، إنكم توشكون أن تسقطوا في الهاوية”.
هذا إذا كان السائرون في طريق الهاوية سائقين منفردين في سياراتهم الخاصة، لكن ماذا لو كانوا يسوقون حافلات فيها أولادنا وأهالينا؟ عندئذ لن نصيح بهم -بعد التحذيرات السابقة كلها- قائلين: قفوا يا مجانين! بل سنهتف غاضبين: قفوا يا مجرمون، إنكم توردون أولادنا وأهالينا مواردَ الهلاك.
إن النصيحة والتحذير من الخطأ فريضة، ومن كان محذّراً من الخطأ وقسا في النقد فله الأجر بقدر اجتهاده، أما مَن دعا إلى الثأر وهيّج شعارات الجاهلية وسعى في تسعير النار فهو شريك في الجريمة وعليه وزرها يوم الدين.