كثيراً ما ننوي فعل خير ما، لكننا لا نبادر إلى تنفيذه، بل نعلّقه على حدوث أمر أو مناسبة! فإذا حدث ذلك وقمنا بتنفيذ ما نوينا فقد ربح الشيطان منا ذلك التسويف والإرجاء والتعليق! أما إذا خضعنا لحيلة نفسية أخرى، و”سارعنا” إلى تعليق فعل ذلك الخير على حدوث أمر آخر، فقد فاز الشيطان منا بتسويف آخر وآخر. وكم من كسول مماطل انتهت حياته ولم يبدأ حياته! وانقضى عمره ولم تَنْفَدِ الأمور التي يعلق عليها فعله للخير!.
نقول للواحد من عوامّ المسلمين: أنت مسلم تحب الله ورسوله، وترجو النجاة من النار، والفوز بالجنة، فلماذا لا تصلي، والصلاة عمود الدين؟!… فيقول: إنني عازم على أن أبدأ الصلاة من يوم الجمعة القادم! وقد يأتي يوم الجمعة وينتحل لنفسه عذراً فيؤجل ذلك إلى الجمعة التالية ثم التي تليها، ثم يؤجله إلى رمضان، ليبدأ صلاته مع الصيام. وهكذا. وحين يبدأ فعلاً يكون قد فوّت على نفسه ما وجب عليه من صلوات قبل ذلك. وكلما نجح الشيطان في انتحال الأعذار وتكرار التأجيل، كان الخطْب أفدح!.
ونقول لأحد “الدعاة”: هل تقرأ كل يوم ما تيسَّر لك من كتاب الله؟ وهل تتعهد أبناءك بتعليم التلاوة وشؤون الدين وأخلاقه؟! وهل تتزود من كتب العلم والفكر ما تبني به ثقافة متينة عميقة؟ وهل “مسحتَ” الساحة حولك لتعرف العدو من الصديق، وتنظم أساليب التعامل المناسبة مع كل منهم، فتتعاون مع الصديق على البر والتقوى، وتخفف من عداوة العدو، أو تكسبه بعد حين، أو تحذَر منه؟ وهل بدأت برنامجاً للعناية بصحتك وتقوية بدنك واكتساب مهارات مفيدة؟ وهل حاولت أن تعيد النظر في إنفاقك، فتقتصد من الكماليات لتردّها إلى مشروعات نافعة لك ولأهلك وللإسلام والمسلمين؟!…
تسأل هذا الداعية مثل هذه الأسئلة، فتكون إجاباته كإجابات ذلك العامي الذي يؤجل مشروع بدئه بالصلاة: سأفعل ذلك إن شاء الله، فور انتهائي من عمل كذا، أو بعد اجتيازي مشكلة كذا.
وقد تكون الأعذار حقيقية، وتكون الظروف قاهرة، لا تدعُه لأن يبدأ بمشروع الخير من الآن. لكن الأمر في معظم الأحيان لا يكون كذلك، بل هو خداع الشيطان، فالعمر محدود، و”أنفاس الحيِّ خُطاه إلى أجله” كما قيل، فكلما أجّل العمل ساعة فقد خطا إلى أجله بمقدار ساعة، وقد فاته فعل الخير ساعة، وهو لا يدري أيعيش هذه الساعة أم يموت دونها؟! وإنه إن أنجز المشروع بعد مضي الساعة فإنما ينجز واجب ذلك الوقت الجديد، وأما الساعة التي فاتت فهيهات أن يعوض الخير الذي كان عليه إنجازه فيها، فإن لكل وقت واجباته التي تملؤه.
الإسلام الذي يغرس في نفوسنا تصوراً عن الحياة أنها محدودة زائلة (كماءٍ أنزلناه من السماء، فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيماً تذروه الرياح)، وأنها مزرعة الآخرة، ويزودنا ببرنامج يملأ أجزاء الحياة كلها، ويحذّرنا من الندم ساعةَ يقول المرء: (ربِّ ارجعونِ لعلي أعمل صالحاً فيما تركتُ) فيكون جوابه: (كلا. إنها كلمةٌ هو قائلُها). هذا الدين يأبى على المسلم حياة التبطّل والتسويف والعجز والكسل.
ومن يطالع كتب الحديث الشريف والسنة البنوية يعجب لهذا الملء في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، هذه الحياة التي رفعت لنا نبراساً نتأسى به. فلو نظرنا إلى أذكاره صلى الله عليه وسلم لوجدناها تكاد تملأ الوقت كله، ولو نظرنا إلى رعايته لأهله وأصحابه لوجدناها كذلك. فكيف وهي حياة كاملة تشغل كل ميدان: سياسة الأمة، وقيادة جيوشها، وتعليم أبنائها، ورعاية محتاجيها، وعيادة مرضاها، وإصلاح ذات بينها…
ثم من ينظر إلى حياة المسلمين اليوم، من عوام وخواص (إلا من رحم ربي)، يعجب لهذا التسويف والقعود والترهل… ويقول: أهؤلاء أتباع ذلك النبي صلى الله عليه وسلم؟!
إن لكل وقت واجباته. وإن تأجيل هذه الواجبات أو تعطيلها، مهما سُوّغ بكلمات جوفاء، وشعارات براقة وفلسفة للأولويات… إنما هو تعطيل لحياة الفرد، بدعوى أنه ينتظر الساعات الخطيرة… وإن الأمر حين يصبح “ظاهرة” في الأمة يكون تعطيلاً لحركة التاريخ… وهل يدير عجلة التاريخ إلا مجموعة أفراد الأمة؟!
وإن سِيَر العظماء من رجال الأمة الإسلامية سيرٌ حافلة بالعمل الدؤوب، من قراءةٍ وذكر وتهجّد ودعوة وجهاد وأمر بمعروف وكتابة وتأليف… ولو أنهم أجّلوا وسَوّفوا، وعلّقوا بدأهم بالعمل على حدوث أمور في مستقبل أيامهم لضاعت أعمارهم كما تضيع الآن أعمارُنا.
وإن من أقبح الأعذار دون القيام بالواجبات، أن يقول الأخ: لماذا أبذل الجهد والناس قاعدون وإخواني متقاعسون؟! أفيكون القعود والتقاعس من غيرك عذراً لك في التقصير، أمام الله وأمام الناس؟!
ورحم الله الإمام البنا حين تعجّب من أولئك الذي يُمضون أوقاتهم في تافه الأعمال، فإذا سألت أحدهم عما يحمله على ذلك قال: أقتُلُ الوقت. وما درى هذا المسكين أن من يقتل وقته إنما يقتل نفسه، فإنما الوقت هو الحياة.
ورحمه الله إذ جعل من وصاياه العشر: اتلُ القرآن، أو طالع أو استمع، أو اذكر الله، ولا تصرف جزءاً من وقتك من غير فائدة.
وجعل من هذه الوصايا كذلك: الواجبات أكثر من الأوقات، فعاون غيرك على الانتفاع بوقته. وإن كان لك حاجة فأوجز في قضائها.
المسلم الذي فَقُه دينه، وعَرَفَ دوره في الحياة، لا تغيب عن ذهنه توجيهات القرآن الكريم: (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض…) (فاستبقوا الخيرات) (ومنهم سابق بالخيرات بإذن ربه) (أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون).
فالحياة – كما هي في تصور المسلم – ميدان للمسابقة والمسارعة إلى الخيرات.
والله تعالى سائلنا يوم القيامة عما وهبنا من وقت وقوة: هل استثمرناه فيما يرضيه، أم أضعناه سدى؟! وأينا لم يقرأ قول النبي صلى الله عليه وسلم: “بادروا بالأعمال الصالحة، فستكون فِتَنٌ كقِطعِ الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً، ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً، ويصبح كافراً، يبيع دينه بعَرَضٍ من الدنيا” رواه مسلم.
وقوله صلى الله عليه وسلم: “بادروا بالأعمال سبعاً. هل تنتظرون إلا فقراً مُنْسِياً، أو غنىً مطغياً، أو مرضاً مُفسداً، أو هرماً مفنداً، أو موتاً مُجهزاً، أو الدجال فشرُّ غائب يُنتَظر، أو الساعة فالساعة أدهى وأمرّ” رواه الترمذي وقال: حديث حسن.
وقوله صلى الله عليه وسلم: “اغتنم خمساً قبل خمس: حياتَك قبل موتك، وصحتَك قبل سقمك، وفراغَك قبل شغلك، وشبابَك قبل هرمك، وغناك قبل فقرك”. رواه الحاكم وصححه، والبيهقي.
وقوله صلى الله عليه وسلم: “لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل: عن عمره فيم أفناه، وعن علمه فيم فعل فيه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن جسمه فيم أبلاه” رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.
وقوله صلى الله عليه وسلم: “نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ” رواه الأئمة أحمد والبخاري والترمذي وابن ماجه.
وهو المعنى الذي عبر عنه ابن عطاء الله السكندري في حِكَمِه عندما قال: “إحالتك الأعمال على وجود الفراغ من رعونات النفس”