بقلم: طريف السيد عيسى السويد
(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , قَالَ : إِنَّ اللَّهَ لا يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِأَنْ يَنْتَزِعَهُ انْتِزَاعًا ، وَلَكِنْ يَقْبِضُهُ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ ، حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ عَالِمٌ حَدَّثَ رُءُوسٌ جُهَّالٌ فَسُئِلُوا فَأَفْتُوا بِغَيْرِ عِلْمٍ ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا) . حَدِيثٌ صَحِيحٌ ثَابِتٌ مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ.
لقد استبيح حمى الدين والعلم الشرعي من قبل رؤوس جهال , يلبسون لباس العلم وهو ثوب فضفاض عليهم وأكبر من مقاسهم .
والحديث عن هؤلاء لاينقطع ولا يجوز أن ينقطع , بل يجب أن يستمر لتحذير الناس من خطر هؤلاء الرؤوس الجهال , ولأن الحاجة مازالت ماسة للحديث عنهم ,بسبب الإساءات المستمرة للإسلام على يدهم .
( قيل لسفيان بن سعيد الثوري رحمه الله تعالى , فيمن حدث قبل أن يتأهل . قال : إذا كثر الملاحون غرقت السفينة ).
( رأى رجل ربيعة بن أبي عبد الرحمن شيخ الإمام مالك , يبكي فقال : مايبكيك ؟ فقال : استفتي من لاعلم له , وظهر في الإسلام امر عظيم ! قال : ولبعض من يفتي ههنا أحق بالسجن من السراق !).
(قال الإمام ابن حزم رحمه الله :إنه لا آفة على العلوم وأهلها أضر من الدخلاء فيها وهم من غير أهلها , فإنهم يجهلون ويظنون أنهم يعلمون , ويفسدون ويقدرون أنهم يصلحون ).
( إنهم يطلبون العلم يوم السبت ! ويُدَرِّسونه يوم الأحد , ويعملون أساتذة له يوم الأثنين . أما يوم الثلاثاء فيطاولون الآئمة الكبار ويقولون : نحن رجال وهم رجال !!) الشيخ محمد الغزالي رحمه الله – من كتاب – السنة النبوية بين أهل الفقه ..وأهل الحديث – ص 7.
تصاب بحالة من الغثيان عندما تسمع عن بعض ( فتاوى الوجبات السريعة ) الصادرة عن الرؤوس الجهال , فلا تجد بدا من رفع الصوت:
أوقفوا هذه المهزلة !!
كفوا يد هؤلاء السفهاء الذين يفتون بغير علم !!
إلى متى يستباح حمى العلم الشرعي على يد رؤوس جهال ؟
حدثني صديق عن موقف حصل معه, يقول : تقدم لخطبة إبنتي عدة أشخاص ولأسباب عدة لم أوافق على أي منهم . ودار حديث مع نفسي خشية أن أكون قد ظلمت ابنتي , فذهبت لمسجد الحي , بغية سؤال شخص يلقبه الناس بالشيخ , وهو يؤم المصلين أحيانا , ويعطي بعض الدروس والمواعظ, فسألته عن تلك الحالة فكان جوابه :
إنك سوف تشرب دم حيض إبنتك يوم القيامة عقابا من الله !!!
فقلت لصاحبي وهل شيخك هذا يحمل أي مؤهل علمي أو شرعي ؟
فقال لي : لايحمل أي مؤهل علمي أو شرعي .
قلت له : وهل تلقى العلم على يد أهل العلم ؟
فقال لي معرفتي به تقول أنه تلقى العلم من الأنترنت .
فقلت له هذا الشيخ يهرطق , وهو ليس من أهل الفتوى , وهو وأمثاله من يسئ للعلم الشرعي , ونحن من يعطي لهؤلاء حجما لايستحقونه .
هذا مثال فاقع وفاضح على هؤلاء المتفيقهين المتطفلين على العلم الشرعي.
فأي فقه هذا ؟
وأي انحدار في مستوى العلم والفتوى ؟
إن من يفتي بمثل هذه الفتوى هو من فتيان السوء الذين يتطاولون على الفقه , فيزيدون الناس بلبلة وفرقة وحيرة وعدم ثقة في أهل العلم .
ويجب على هؤلاء أن يغلقوا أفواههم ويكفيهم إساءة لهذا الدين .
ويزداد الإنسان ألما عندما يجد هؤلاء يتقدمون الصفوف , ويفتون الناس في أمور الحلال والحرام وهم جهلة , ويؤمون الناس في الصلاة , ويحدثون الناس ويعظونهم .
والأكثر ألما عندما تجد المسؤولين عن شؤون المساجد أو المراكز الإسلامية , أو المسؤولين على شؤون الدعوة , يسمحون للرؤوس الجهال بكامل الحرية للتحدث للناس , وبسبب بساطة الناس فيعتقدون أن هؤلاء مؤهلين للفتوى .
إن هؤلاء المسؤولين شركاء ومساهمين في: الحط من قيمة العلم الشرعي , والسماح بإقتحام الفتوى من قبل الرؤوس الجهال , والترويج للفوضى , والمساهمة في تضليل الناس .
وعندما تناقش هؤلاء المسؤولين حول هذا الواقع الأليم , فتجدهم ينتقدون الرؤوس الجهال قائلين : نحن نعرفهم جيدا فلا علم عندهم , لكنك تصاب بالصدمة عندما تجد بعد ساعة أحد هؤلاء الرؤوس الجهال واقفا يحدث الناس ويتكلم في أمور الدين والشرع والفقه , عندها تدرك أن كلام هؤلاء المسؤولين كلاما للتخدير ليس إلا , ويمثل حالة من التناقض المرفوضة والتي لاتليق بمن حمل أمانة المسؤولية التي سوف يسأل عنها يوم يقوم الناس لرب العالمين .
إن هذه الإدارات شريك في تلك المجازر التي يستباح فيها العلم الشرعي , كونهم يصمتون ويسمحون للرؤوس الجهال باستخدام منابر المساجد لتمرير أفكارهم الهدامة .
لقد أصبح العلم الشرعي رهينة بيد الأدعياء الذين علا نقيقهم في الظلام الدامس .
ولما للتساهل في الفتوى من الخطورة في أحكام الدنيا والدين .. ورد التحذير من الإقدام عليها، أو التسرع في أخذ زمامها. قال الله عز وجل:
(قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما و حلالا قل آالله أذن لكم أم على الله تفترون ) يونس -59-.
(قال أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري يرحمه الله : وكفى بهذه الآية زاجرة زجراً بليغاً عن التجوز فيما يسأل عنه من الأحكام، وباعثة على وجوب الاحتياط فيه. وأن لا يقول أحد في شئ جائز أو غير جائز. إلا بعد إيقان وإتقان. ومن لم يوقن فليتق الله، وليصمت، وإلا فهو مفتر على الله ) .
(وأخرج الدارمي في سننه عن النبي –صلى الله عليه وسلم- أنه قال : أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار )
(وقال الشيخ الإمام إبراهيم ابن هلال : والفتوى بغير المشهور حرام من ناحية الحكم بالهوى, ولو كان المفتي بغير المشهور من أهل العلم والدين لما أفتى بالشواذ.
وإنما هو جاهل ضعيف الدين, ولا يستغرب مثل ذلك. ومثله في هذا الزمان كثير. تغمدنا الله برحمته وعفوه )
(قال المراكشي : ومن أغرب ما سمع ويرى، أن أكثر المتعاطين للفتوى اليوم، لا يتقنون حتى الآجرومية، ولا يستحضرون عن ظهر قلب ( الزقاقية ) ولا ( العاصمية ) وأما حديثو السن منهم فلا تسأل، ولو كنت أعجب من شئ لعجبت من هؤلاء !!)
يذكرني حال هؤلاء الرؤوس الجهال بقصة شعبية تتحدث عن مختار إحدى القرى , تقول القصة :
أن أحد سكان القرية ذهب ببقرته ليسقيها فوجد زيرا من الماء , ولما بدأت البقرة بالشرب فعلق رأسها داخل الزير , وأصبح صاحبها في حيرة من أمره فماذا يفعل , وبعد تفكير طويل لم يتوصل لحل يخرج رأس البقرة من الزير , فتذكر مختار القرية ذلك الرجل العبقري والمشهور بذكائه , فذهب إليه وقص عليه القصة , فما كان من المختار إلا أن هدأ من روع الرجل وقال له الحل عندي , فأخذ معه سكين ثم ذهبا لمكان البقرة , وقال المختار للرجل : ليس أمامك إلا أن تذبح البقرة ثم بعد ذلك تكسر الزير فيخرج الرأس لوحده …
وهكذا بفعل ذكاء – غباء المختار – ضاعت البقرة مصدر رزق الرجل .
فكم من حقوق ضاعت على يد الرؤوس الجهال ؟
وكم من أشخاص ضلوا على يد الرؤوس الجهال ؟
وكم من إساءة للإسلام حصلت على يد الرؤوس الجهال ؟
(قال الإمام ابن القيم: من أفتى الناس وليس بأهل للفتوى فهو آثم عاص ومن أقره من ولاة الأمور على ذلك فهو آثم أيضاً، قال أبو الفرج ابن الجوزي رحمه الله: ويلزم ولي الأمر منعهم كما فعل بنو أمية، وهؤلاء بمنزلة من يدل الركب وليس له علم بالطريق، وبمنزلة الأعمى الذي يرشد الناس إلى القبلة، وبمنزلة من لا معرفة له بالطب وهو يطب الناس، بل هو أسوأ حالا من هؤلاء كلهم، وإذا تعين على ولي الأمر منع من لم يحسن التطبب من مداواة المرضى، فكيف بمن لم يعرف الكتاب والسنة ولم يتفقه في الدين!
وكان شيخنا رضي الله عنه، شديد الإنكار على هؤلاء، فسمعته يقول: قال لي بعض هؤلاء، أجُعلت محتسباً على الفتوى! فقلت له: يكون على الخبازين والطباخين محتسب ولا يكون على الفتوى محتسب! ) إعلام الموقعين عن رب العالمين ج4/217.
مثال آخر على جهل الرؤوس الجهال .
روى لي أحد الأشخاص موقفا حصل بينه وبين شخص يدعي العلم الشرعي .
يقول : حضرت مجلسا وكان يحضر شخص يدعي العلم الشرعي , فقال لاتجوز مصافحة النصراني , فقال له أحد الحضور , ولماذا ؟ فقال : يقول الله تعالى : إنما المشركون نجس .
فقيل له , تفسير القرآن له أصول , وعلينا أن نرجع لأهل العلم وما قالوه في هذه الآية .
إن جمهور أهل العلم قالوا أن المقصود بالنجاسة هي نجاسة معنوية بسبب شركهم وفساد إعتقادهم , وليس المقصود بنجاستهم المادية , وإلا كيف نفسر ماثبت عنه صلى الله عليه وسلم شربه من إناء إمرأة مشركة , وكيف نفسر أن طعام أهل الكتاب حل لنا , وماذا نقول عن جواز وطء الكتابية .
ويتابع قائلا :لكن الشيخ أصر على قوله, وتصاب بالصدمة عندما تعرف أن هذا الشخص لايحمل أي مؤهل علمي أو شرعي , ولم يتلق العلم عن أي من أهل العلم !!!
وتزداد غرابة عندما تجد أمثال هذا هم من يتصدر للوعظ والحديث والفتوى , وبضوء أخضر من قبل القائمين على شؤون المساجد .
إنها مهزلة ومجزرة بحق العلم الشرعي .
سئمنا من تلك الأبواق الفارغة أصحاب البضاعة المزجاة , الذين يملؤون الدنيا صراخاً وعويلاً وتباكيا على الإسلام ،بينما هم يتطاولون على العلم الشرعي والفتوى فيهدمون أكثر مما يبنون , وعملهم هذا فتنة تطل برأسها يقودها رؤوس جهال عبر مسلسل من الفتاوى التي ما أنزل الله بها من سلطان .
تقول لأحدهم أمسك عن الفتوى فأنت لست أهلا لها , فيقول لك , أنا لا أفتي , فقط أتكلم في القضايا الخفيفة , على وزن الوجبات السريعة .
(كان الإمام مالك بن أنس رحمه الله يقول: من أجاب في مسألة فينبغي قبل الجواب أن يعرض نفسه على الجنة والنار، وكيف خلاصه؟ ثم يجيب.
وسئل عن مسألة فقال: لا أدري، فقيل: هي مسألة خفيفة سهلة فغضب، وقال ليس في العلم شيء خفيف. )
ومن أفتى بغير علم فإن كل ما يترتب على فتواه من مخالفة للشرع ومباينة للهدى فإنه يتحمل وزرها.
(عن أبي هريرة , قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من أُفتيَ بغير علم كان إثمه على من أفتاه( رواه أبو داود و الحاكم وحسنه الألباني في صحيح الجامع.
ومثال آخر على المجازر التي ترتكب بحق العلم الشرعي .
حصلت مشكلة بين زوجين , فذهب الرجل يستعين بشيخ من شيوخ مسجد الحي , فاصطحب الشيخ للبيت .
وحكى له القصة قائلا : زوجتي لاتلتزم شرع الله !!!
فقال له الشيخ وكيف ذلك ؟
فقال الرجل : أحيانا تبقى الستارة مفتوحة قليلا ولا تقوم بسحبها لتغطي كامل النافذة .
وطبعا الشيخ ماقصر , وقبل أن يسمع من الزوجة , فبدأ بسرد الآيات والأحاديث حول الموضوع , وكيف أن المرأة لاتخشى الله ولا تتقيه وأنها تتساهل في الحرام وووووو……..
ولم يترك الشيخ المجال للمرأة كي تتكلم وتشرح وتوضح الأمر لحضرة فيلسوف ومفتي زمانه , فبدأ حضرة سيدنا الشيخ رشا ودراكا بتوبيخ المرأة على سوء تصرفها وعدم تعهد الستارة بإغلاقها كاملة .
فقالت المرأة , أنت شيخ والمفروض أن تسمع للطرفين , لا أن تبدأ بتوبيخي قبل أن تسمع مني … فطبعا صار الشيخ مثل السمسمة .
فقالت ياشيخ : ماتقول في رجل لايصلي ولا يصوم في رمضان !!!
أيها الشيخ إن مشكلتي مع زوجي ليست من أجل خمسة أو عشرة سنتمتر تزاح الستارة , بل المشكلة في ركنين من أركان الإسلام لايؤديمها زوجي , وأنت تعلم ياشيخ أن هذا سبب كاف للطلاق …
فاحمر وجه الشيخ خجلا , ورغم ذلك بقي مصرا على خطورة ترك الستارة مفتوحة , علما أن الزوجة قالت أنها لم تنتبه للأمر وهي لاترضى بذلك .
فانظروا يا رعاكم الله على تلك المهزلة ,وكيف يتعامل الرؤوس الجهال مع مثل هذه القضايا الخطيرة والمهمة , حتى الأولويات لايعرفون ترتيبها , فلا يفرقون بين خطأ قد يحصل من أي شخص , وبين ترك لركنين من أهم أركان الإسلام !!!
إنها بحق مجزرة فظيعة ومروعة بحق الفتوى والعلم الشرعي …
وبعد هذه المهزلة والمجزرة , فربما مازال حضرة الشيخ يتربع على قائمة الرؤوس الجهال , ومازال الناس مخدوعين بالمظهر !!!
(أخرج الإمام مسلم في مقدمته عن الإمام محمد ابن سيرين رحمه الله تعالى أنه قال : إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم )
فرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤيد بوحي السماء , كان يسأل عن بعض الأمور فيقول لا أدري , وينتظر نزول الوحي .
فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم الموحى إليه من الله يقول لا أدري ألا يسع بعض المتصدرين للعلم فضلا عن عامة الناس والجهال أن يقولوا فيما لا يعلمون لا نعلم والله إنه لواجب عليهم، ولذلك كان السلف يأمرون طلاب العلم بل حتى العلماء يأمرونهم بأن يقولوا لا أعلم .
( أخرج البخاري ومسلم في الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: يا أيها الناس اتقوا الله , من علم منكم شيئا فليقل بما يعلم , ومن لا يعلم فليقل الله أعلم, فإنه أعلم لأحدكم أن يقول لما لا يعلم الله أعلم ) .
فعلينا التمييز بين المتصدرين، ونستفيد من قول ابن سيرين حينما قال فانظروا عمن تأخذون دينكم : فالمتصدرين لتعليم الناس في هذه الأيام أصبحوا كثر ,لذلك مطلوب منا التدقيق وعدم قبول الفتوى من شخص لايحمل أي مؤهل شرعي ولم يتلقى العلم الشرعي عن الطرق المعتبرة , فليس كل من ادعى العلم أحرزه ,ولا كل من انتسب إليه كان من أهله.
وليس كل من تصدر للناس وتكلم بين أيديهم أهلا لأن يكون عالما, وهذا دليل على أن المتصدرين على طبقات وأنواع, فمنهم طبقة العلماء المجتهدين أهل الفتوى والمرجع ,ومنهم طلاب العلم, ومنهم طبقة طلاب العلم الذين لم يبلغوا درجة العلماء, ومنهم العوام الذين تعلموا شيئا يسيرا من العلم ثم تصدروا للخطابة والدعوة, ومنهم طبقة لا يؤخذ منهم العلم أبدا.
فهذه الطبقات يجب أن تعرف ويجب أن نميز بينها ويجب أن نعلم ليس كل من تصدر للناس صلح لأن يفتيهم.
ونقطة مهمة في معرفة علم المتصدرين , فنسأل عن تحصيله ومؤهله العلمي والشرعي , من أي جامعة تخرج ؟ أو من أي معهد شرعي تخرج ؟ وهل جالس أهل العلم وتلقى منهم , فإذا لم يكن كذلك , فهو ليس أهلا للفتوى ولا يحق له أن يخوض في علوم الشرع والدين كائنا من كان .
(قال الشيخ الفوزان حفظه الله تعالى: لا يجوز الأخذ عن الجهال ولو كانوا متعالمين ومعنى قوله ولو كانوا متعالمين أي متصدرين لتدريس الناس إذا كانوا جهالا لا يعلمون دين الله عز وجل هؤلاء إذا هم الجهال والجهال لا يؤخذ منهم العلم مطلقا ولو استفتوا ولا يرجع إليهم.) .
ومن الخطأ ظن بعض الناس أن الجاهل هو ذاك الذي لا يقرأ ولا يكتب فقط , ولا شك أن هذا فهم قاصر إذ أن المراد بالجاهل في الأحاديث وفي آثار السلف كل من تكلم في دين الله بلا علم ولو كان يحسن العبارة ولو كان يدرس ولو كان يؤلف الكتب ولو كان خطيبا مفوها .
( أخرج الخطيب البغدادي رحمه الله تعالى في الفقيه وغيره عن أبي أمية الجمحي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من أشراط الساعة أن يلتمس العلم عند الأصاغر).
وفسر بعض أهل العلم الأصاغر بطلاب العلم الصغار وهذا التفسير يصح إذا ترك طلاب العلم العلماء الكبار والتفوا حول طلاب العلم الصغار فإنه يكون من علامات الساعة أن يلتمس العلم عند الأصاغر.
( يقول مالك :ما درست و لا أفتيت حتى أذن لي سبعون عالما من أهل المدينة بالفتيا والتدريس) .
وهناك من يغتر وينخدع ببعض الخطباء والوعاظ ويعتبرهم من أهل العلم ,وخاصة أولئك الذين لهم مظهر معين من اللباس , ولا أدري منذ متى أصبح اللباس دليلا على العلم , أو تجد بعض الخطباء والوعاظ يعتبرون أنفسهم من أهل العلم .
( يقول ابن رجب : قد فتن كثير من المتأخرين بهذا ـ أي بتكثير الكلام ـ وظنوا أن من كثر كلامه وجداله وخصامه في مسائل الدين فهو أعلم ممن ليس كذلك إلى آخر كلامه …) من كتاب بيان فضل علم السلف على الخلف .
ذكر لي أحد الأشخاص قصة حصلت معه .
قال : حصلت مشكلة في بيتنا , فذهبت لشخص يطرح ويقدم نفسه بين الناس على أن لديه خبرة في عملية الإصلاح داخل الأسر والبيوت , وأن لديه باع طويل في هذا المجال , ويعتبر نفسه من المنظرين في علوم الدين , وشرحت له المشكلة , وقلت له الوضع حساس ولابد من إيجاد مدخل مناسب حتى لا أحرج والدي ووالدتي .
فقال لي ذلك المصلح يمكن أن نأتي بشخص متخصص في عملية الإصلاح وهو شيخ معروف وصاحب علم شرعي وله مكانة علمية مرموقة .
فقمت بدوري بعملية تمهيد لوالدي ووالدتي حتى اقتنعا , وأخبرت المصلح , وحددنا موعد لحضور الشيخ .
جاء الموعد وحضر الشيخ , وبعد كلام ومجاملات , بدأ الشيخ بالكلام , فكنت كلما تكلم أشعر بالضيق , حيث كان كلامه عبارة عن فلسفة لا علاقة لها بالمشكلة , لكنني كنت أفضل الصمت احتراما له كضيف , وكنت أقول عله يدخل في صلب الموضوع , لكن دون جدوى , حتى إضطر والدي أن يطلب مني الحديث على إنفراد , فذهبت ووالدي لغرفة ثانية وقال لي إما أن تضع حدا لهذه المهزلة وهذا الدجل أو سأضطر لطرده من البيت .
فعدنا ومازال الشيخ يتحدث ويعفس في بعض الأحاديث والنصوص ويضعها في غير مكانها ويأتي بقصص خرافية , وكأنه يعتقد أننا جهلة لانعرف شئ عن الدين ,هنا لم أجد بدا من وضع حد لهذا الدجل , فقلت للشيخ لو سمحت , يبدوا أننا أخطأنا عندما وافقنا عليك دون أن نتعرف عليك , لذلك نرجوا أن تتوقف ويكفينا دجل .
ويتابع قائلا , فقمت بالسؤال عن الرجل , فقيل لي أنه غير معروف بالمكان الذي يسكن به , وهو ليس من رواد المسجد ولا يحضر صلاة الجمعة على الإطلاق !!!
ثم يتابع قائلا: وكانت الصدمة كبيرة عندما ذهبت ذات يوم لصلاة الجمعة في مسجد الحي الذي أسكن به وإذا بي أجد هذا الشيخ هو من يخطب الجمعة , فلم أتمالك نفسي وبقيت خارج المصلى حتى إنتهاء الخطبة , ثم أديت الصلاة , وذهبت للشخص المسؤول عن إدارة المسجد وقلت له هل تعرف هذا الشخص الذي خطب الجمعة , فقال لي نعم , فقلت له حسب علمي أنه شخص غير معروف وهو لايرتاد المسجد في مكان سكنه بل لايذهب لصلاة الجمعة , فقال لي ذلك المسؤول ونحن أيضا عندنا معلومات عنه وقد حذرنا البعض منه ,
فهنا غضبت وقلت للمسؤول وتسمحون له بالصعود للمنبر ليخطب الجمعة !!!
إنها مهزلة …
إنها مجزرة …
مما ينبغي التنبيه له أن الوعاظ والمذكرون ليسوا بعلماء على الإطلاق قد يكون الواعظ والمذكر عالما وقد يكون جاهلا فكونه يذكر الناس ويوعظهم ليس هذا دليلا على أنه عالم فلا ينبغي أن نغتر بهم.
إننا في عصر السرعة, ولكننا لم نرَ من أثرٍ لهذه السمة لعصرنا إلاَّ في الوجبات السريعة، وفي الفتاوى السريعة، التي يطهونها لنا الرؤوس الجهال في دقائق معدودات، لعلَّ المتضورين جوعاً إلى الفتاوى من أبناء مجتمعنا يهتدون!
إنَّ كثيراً ممن يمنحون أنفسهم حق الإفتاء في أمور تبدو صغيرة؛ ولكنها كبيرة في معانيها، لا يملكون شيئاً من سلطان المعرفة بوجهيها الديني والدنيوي، فهم متخلِّفون قراءةً، ومتخلِّفون في فهم ما يقرأون.
وياليت الأمر توقف هنا , فهم ايضا رواد الفتاوى الثورية , التي تثير الشباب وتزيد من حماسهم دون ضبط ولا ربط ولا انضباط ولا تأصيل شرعي , وفيهم قال الشاعر اليمني عبد الله البردوني :
والأباة الذين بالأمس ثاروا — ——- أيقظوا حولنا الذئاب وناموا .
فتراهم يصدرون الفتاوى التي تثير ذئاب الدنيا حولنا لتزيد من نهش جسدنا أكثر مما تنهش , فهؤلاء الرؤوس الجهال يحسنون إشعال الفتن والحروب , ويتقنون فن الفتوى بقتل الأبرياء وخاصة من المسلمين والمستأمنين , كما يجيدون فن القتل العشوائي , لكنهم لايملكون خطة أو منهجا أو رؤية لكسب معركة واحدة .
قلت لأحدهم هل من الإسلام في شئ أن يتم قتل مئات المسلمين بحجة لادليل عليها أن المبنى فيه شخصية كافرة مهمة , فقال لي الشيخ الجاهل , يقتلون على نياتهم !!! هكذا بكل بساطة تزهق أرواح المؤمنين الموحدين , التي نهى ديننا عن إزهاقها فهي دماء معصومة , فيأتي جاهل أحمق ليعبث في دماء المسلمين …
الذكي العاقل والحكيم هو الذي يستطيع أن يحقق الأهداف الكبيرة بأقل ثمن من الدماء .
وهاهو رسول الله صلى الله عليه وسلم خاض عدة حروب ومعارك , وحقق الهدف وبأقل ثمن من الدماء .
بينما الرؤوس الجهال تسببوا في إزهاق مئات الألوف من أرواح المسلمين , وبسببهم سقطت بعض الدول وأصبحت دولا تحت الإحتلال , بينما بعض الرؤوس الجهال يتقاضون المساعدات المالية الشهرية من قبل الدول الكافرة التي يحرضون الناس على قتالها .
إن العنف الأهوج طريق مسدود , وأصحابه منبتون لامحالة , وها نحن نرى المراجعات والتراجعات من قبل تلك الجماعات التي كانت تصدر الفتاوى الثورية , وهام هم يعودون للعلم الشرعي والتأصيل الشرعي , والعودة لأهل العلم الثقات المعتبرين .
إن من واجبنا محاصرة هذا الفكر حتى لايستفحل شره .
وكل من يعرف حال هؤلاء الرؤوس الجهال ويصمت ولا يتكلم فهو آثم , ويوم القيامة سيسأل عن موقفه .
إنَّنا نعيش أزمة تصدر الرؤوس الجهال , ولابد من ثورة إصلاحية ضد كل من يتصدر للعلم الشرعي وهو جاهل ,وقد حان لمجتمعاتنا الإسلامية أن تكتشف خلاصها بما يتفق مع قاعدة أصل الشريعة مصلحة الناس, وليس لنا من مصلحة ببقاء هؤلاء هم المتصدرون …