علمنا أن أحداً لا يقدّم معونة لأحد في عالم السياسة إلا بثمن، وأن الثورة لا بد لها من تقديم بعض التنازلات إذا أخذت دعماً ومساعدة من الدول. وقد قيّدنا حكمَ تلقي الدعم وتقديم التنازلات بالقدرة على إسقاط النظام، فإذا لم يمكن إسقاطُه إلا بتقديم تنازلات فإنها تصبح واجبة وليست جائزة فحسب، لأن بقاء النظام مفسدة عظمى تهون في جنبها سائرُ المفاسد ما لم يكن فيها ذهاب الدين. وليس المقصود بذهاب الدين العجزُ عن الحكم به كاملاً أو حالاً، فإن هذا مما يُتدارَك إذا تحررت البلاد وسَلِم العباد، بل يُقصَد ضياعُه ضياعاً كلياً كما حصل لمسلمي الأندلس (المورسكيين)، فقد كانت عاقبةُ بقائهم في الأندلس بعد سقوطها ضياعَ دينهم ودين ذراريهم إلى الأبد.
هذه المفسدة العظمى لا تقارَن بالتخلي عن بعض أهداف الثورة أو تأخير تنفيذها أو التضحية بجزء من القرار الحرّ المستقل، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة، حينما همّ (بمعنى أنه رضي وأراد) بالتنازل عن جزء من واردات المدينة وثروتها للكفار، في سبيل حماية الأصل الأكبر الذي هو الدين وجماعة المسلمين.
لقد قامت الثورة لدفع الشر والفساد ولتحقيق المصالح التي صادرها نظام الاحتلال الأسدي الطائفي، وهي مصالح دينية ودنيوية، فصار لها هدفان: دفع الشر وتحصيل الخير. فإذا أمكن الجمع بينهما لم يَجُزْ التفريط بأي منهما، وإذا لم يمكن فلا مناصَ من الموازنة والترجيح وفق الميزان الشرعي في تحقيق المصالح ودفع المفاسد.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: “إن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها بقدر الإمكان، ومطلوبُها ترجيح خير الخيرَين إذا لم يمكن أن يجتمعا جميعاً ودفع شرّ الشرين إذا لم يندفعا جميعاً”. ومنه قول سلطان العلماء العز بن عبد السلام في “القواعد الصغرى”: “إذا اجتمعت مصالح ومفاسد فإن أمكن دفع المفاسد وتحصيل المصالح فعلنا ذلك، وإن تعذّر الجمع فإنْ رجحت المصالحُ حصلناها ولا نبالي بارتكاب المفاسد، وإنْ رجحت المفاسد دفعناها ولا نبالي بفوات المصالح”.
من هذه القواعد الكلية يأتي جواب السؤال الذي طرحَته المقالة. إن الدول الداعمة يمكن أن تصادر جزءاً من قرارنا الوطني المستقل، ولكن بقاء النظام يصادر هذا الحق كله. قد نعجز عن تطبيق الشريعة كاملة في الحال، ولكن بقاء النظام سيحرمنا منها كاملة في كل حال. ربما فُرضت على جيش سوريا المستقلة قيود في التسليح والأعداد، ولكن جيشاً وطنياً ضعيفاً أفضل من جيش احتلال. وحتى لو ضغط علينا المجتمع الدولي لعقد هدنة طويلة مع اليهود الذين يحتلون أراضي المسلمين، فإن أي هدنة مهما طالت لن تبلغ في السوء الهدنةَ الأبدية التي طبقها النظام مع اليهود.
إذن فإن الشر المطلق والمفسدة العظمى هي بقاء النظام. وبقاء أي جزء من النظام كبقاء النظام كله لأنه نظام حكم شمولي، والأنظمة الشمولية غيرُ قابلة للتجزئة ولا للتغيير ولا للإصلاح، ولا يفيد معها إلا الاقتلاع من الجذور. ليس هذا كل شيء، فإن للنظام الذي يحتل سوريا ويحكمها صفةً أخرى. إنه ليس نظاماً شمولياً فحسب، على ما في مثل هذا النوع من الأنظمة من شر كبير، بل هو أسوأ بكثير؛ إنه نظام حكم طائفي، حيث تحتل طائفةٌ قليلةُ العدد البلادَ كلها وتسيطر على مقدراتها وتتحكم في سكانها جميعاً، من الأكثرية السنية ومن سائر الأقليات.
هنا نصل إلى خط الثورة الأحمر الكبير. إنه بقاء أي جزء من النظام الأسدي الطائفي في الحكم، ولو حتى لمرحلة انتقالية قصيرة، واستمرار هيمنة الطائفة النصيرية على السلطة ومفاصل الحكم في سوريا بعد الثورة.
إنّ إسقاطَ النظام كاملاً (كاملاً غيرَ منقوص) وتحريرَ سوريا من الاحتلال الطائفي النصيري هو هدف الثورة الأكبر الذي يُبنى كلُّ ما بعدَه عليه، وأي تنازل عن هذا الهدف يعني التضحيةَ بكل ما بعده. لو تنازلنا عنه -لا قدّر الله- فسوف تنهار كل الأحلام بدولة الحرية والعدالة والإسلام التي سالت من أجلها أنهارُ الدم وقُدِّمت لتحقيقها كرائم التضحيات. إنه خط الثورة الأحمر الذي لا يجوز التفاوض عليه ولا الاقتراب منه ولا التفكير فيه، ولو استمرت الثورةُ مئة عام.