شهدت الثورة السورية خلال الأشهر الأخيرة ما يمكن أن نسمّيه “حمّى مبادرات سياسية” انطلقت من القاهرة وموسكو وطهران، ولا ننسى المبادرة السيئة الذكر للمبعوث الأممي ستيفان دي مستورا التي ما يزال صاحبُها يحاول نفخَ الروح في جسدها الميت منذ أطلقها أولَ مرة. كما أفاق بان كي مون أخيراً من رُقاده الطويل ليحدثنا عن ضرورة تنشيط العملية السياسية المتعثرة، وبدأ التحضير لمؤتمر جنيف الثالث، فيما يعيدُ السّاسةُ الغربيون التصريحَ الذي لم يَمَلّوا من تكراره في بضع سنين: “لن تُحَلّ الأزمة السورية عسكرياً، ليس لسوريا إلا الحل السياسي، والنظام السوري سيكون جزءاً من الحل”.
هذا التصريح لا يمثل “توقعات” القُوى الدولية لنهايات ومآلات الثورة السورية، بل إنه يمثل “إستراتيجيتها” في التعامل مع الثورة، فإنّ هذه القوى تكافح منذ خريف عام 2011 لمنع أي نهاية خارجة عن السيطرة، سواء لصالح الثورة أو لصالح النظام، ومن أجل ذلك حرصَتْ على تكريس حالة “التوازن السلبي” بين الطرفين، بحيث تكون المحصّلة على الدوام: “لا غالب ولا مغلوب”.
لقد اتخذت الإدارة الأمريكية قراراها الإستراتيجي في التعامل مع الثورة منذ نهاية عامها الأول، وهو القرار الذي عبّر عنه عدد من السياسيين الأمريكيين والأوربيين في لقاءات متكررة مع قيادات المجلس الوطني (الذي كان يمثل الثورةَ في ذلك الوقت)، وكان عنوانه العريض هو “الاستنزاف”. قالوا تلميحاً بلسان المقال وتصريحاً بلسان الحال: سنغلق الصندقَ على أطراف الصراع ونتركها تصطرع حتى ينهكَ بعضُها بعضاً، ثم سنفتح الصندوق ونستخرج منه ما بقي من تلك الأطراف فنفرض عليها الحل السياسي الذي يحفظ مصالحنا في سوريا والإقليم.
إذن فإن الطرق الدولية كلها تقود إلى الحل السياسي، وثمة مؤشرات كثيرة توحي بأن اللاعبين الكبار يريدون أن يكون العام الحالي أو العام القادم عامَ الحل، وها قد بدؤوا يتحدثون عن دورة ثالثة لمؤتمر جنيف سيحشدون لها الحشود ويجتهدون في جعلها بوّابة تُفضي إلى الحل النهائي لما يسمونه “الأزمة السورية”، ويلمّحون إلى أن ما سيخرج من المؤتمر من مبادرات سياسية سيكون مُلزماً لجميع الأطراف.
هذا كله يضع الثورةَ في اختبار صعب ويمثل تحدياً كبيراً للفصائل المجاهدة، ويطرح عدداً من الأسئلة المهمة التي تحتاج إلى جواب: هل نمشي مع المجتمع الدولي في طريق الحل السياسي؟ ماذا ينبغي أن يكون موقفنا من جنيف؟ هل يوافقنا حلٌّ نهائي قائم على المحاصصة؟ هل نتواصل مع الدول والمنظمات الدولية؟ هل نقبل الدعم الخارجي؟ وهل يجوز أن نقدم تنازلات للحصول عليه؟ هل نوافق على خطة مرحلية لوقف إطلاق النار؟ ماذا عن موقفنا من الأقليات؟ وأخيراً: ما هو الخط الأحمر للثورة الذي لا يمكن تجاوزه أبداً بأي حال؟
هذه الأسئلة الكبرى تحتاج إلى اجتماع العقول والكفاءات ولا يستطيع أن يتصدّر لها رجل فَرْدٌ مهما كان. لذلك سأطرحها في حلقات متتالية -بإذن الله- خلال الأيام القادمة وأقدم فيها ما عندي من بضاعة مُزجاة، فيقتصر دوري على فتح الحوار وقدح الزناد، تاركاً لإخواني الكرام من مفكري الثورة وقادة الجهاد تكملةَ المهمة الصعبة: نقاشِ هذه الموضوعات الخطيرة وإثرائها بالتفكير والاجتهاد.