أكاد أقول: لا، لا يجوز، بل هو واجب. لو قلت “يجوز” لكان الاتصال وعدم الاتصال متساويَين، وهما ليسا كذلك بميزان المصالح والمفاسد، فإنّ الإعراضَ عن التواصل والانقطاعَ عن المجتمع الدولي سيجرّ على الثورة خسائرَ كثيرةً ويطيل الطريق ويزيد المعاناة، وقد يتسبب في فشل المشروع الثوري بالكامل أو تجييره للأعداء.
إنّ الاتصال بالخارج ضرورةٌ وليس اختياراً، فالدول لا تعيش معزولةً في هذه الدنيا، والثورة السورية التي تسعى إلى إسقاط النظام هي “مشروعٌ تحت التنفيذ” للدولة الجديدة، فإما أن تفشل لا قدّر الله، أو تنجح وتتحول إلى دولة حرة مستقلة بأمر الله. فالثورة يجوز لها -بهذا الاعتبار- ما يجوز للدولة من اتصالات وعلاقات، هذا أولاً.
ثانياً وهو الأهم: إن الجهاد العسكري الذي يبذل فيه المجاهدون كرائمَ التضحيات في الميدان ليس سوى جزء من المعركة، وبقيتُها تخوضها النّخَب السياسية خارج سوريا. فإذا لم يشكّل المجاهدون جهازهم السياسي المحترف فسوف يحتكر غيرُهم التفاوضَ مع القوى الدولية وجَنْيَ الثمار، وعندها ستتكرر -لا قدّر الله- مأساةُ الجهاد التي عرفَتها البلدان الإسلامية أيامَ حروب الاستقلال، حيث برع المجاهدون في الحروب وفشلوا في السياسة، فكانوا جسوراً عبر عليها عملاء الغرب وحكام الجَور والاستبداد.
علينا الاعتراف بأن جزءاً كبيراً من حل المشكلة السورية ليس في سوريا، بل خارجها. لماذا؟ لأنها قضية محلية وإقليمية ودولية، ولو كانت محلية فقط لانتهت منذ زمن بعيد. إذا كان الحال كذلك فلا بد للمجاهدين أن يتقنوا السياسة كما يتقنون القتال، وأن لا يترددوا في الالتقاء بالقوى الدولية والحوار معها، فإن لم يفعلوا فسوف يتقدم لملء الفراغ آخرون لا يُؤمَن أن يكون كثيرٌ منهم من الوصوليين والانتهازيين والفاسدين.
إن الاتصال بالدول والمنظمات الدولية مهم، بل إنه في حكم الضرورات، وكما رأينا آنفاً: إن دولاً كثيرةً مهتمةً بسوريا ستحرص على الاتصال بأطراف تمثل ثورتها، فإذا لم يجدونا سيتصلون بغيرنا لا محالة. ولكنْ يمكن أن تترتب على هذا الاتصال مفاسدُ كبرى لو أنه نُفِّذَ بأسلوب ارتجالي عشوائي، فلا بد من ضبطه بعدة ضوابط لاجتناب تلك المفاسد وتحقيق المصالح المرجوَّة، وهذه أهم الضوابط فيما أرى:
1- الاستعانة بأهل الاختصاص والخبرة، لأنّ مَن يتقن القتال لا يُتقن السياسة بالضرورة. وهذا يقتضي أن تشكّل الفصائلُ الثورية الكبرى مكاتبَها السياسية من سياسيين محترفين، سواء من أبناء الفصائل أو من غيرهم من أهل العلم والخبرة والدين، وهؤلاء يوجد كثيرون منهم في الخزّان البشري الكبير الذي تملكه الثورة.
2- اتفاق الفصائل الكبرى على جوهر المشروع الثوري لكيلا يناقض بعضُها بعضاً، فإن القوى الدولية تَنفَذُ إلى الجسم الثوري من ثغرات الخلافات والتناقضات، فإذا فعلت فإنها تفتّته وتعزل بعضَ أجزائه عن بعض وتصطادنا فُرادى، وهي لعبة تحبّها القوى الدولية وما تزال تمارسها معنا بنجاح من أيام مفاوضات رودس (التي ضيعنا فيها فلسطين) إلى اليوم.
3- الحرص على اللقاءات الجماعية ورفض اللقاءات الفردية، فلا نلتقي بهم فُرادى مهما تكن المبررات والضغوط، بل تلتقي بهم وفودٌ يضمّ الواحدُ منها مجموعة لا تقل عن ثلاثة، فإن القاعدة في اللقاءات الرسمية مع الدول والقوى الدولية هي حديث النبي صلى الله عليه وسلم: “الراكب شيطان والراكبان شيطانان والثلاثة ركب”.
4- الحرص على أن تكون اللقاءات “شفافة”، بحيث يشترط الوفد المشارك فيها أن يُكشَف كل ما يدور في أروقتها لجمهور الثورة (وليس فقط لعناصر الفصيل الذي يمثله) ولا يقبل بمفاوضات وشروط سرية.
5- الامتناع عن تقديم أي جواب آنيّ في أي مسألة يطرحونها في اللقاءات، فإنهم كثيراً ما يلجؤون إلى مصيدة الاستعجال: “الآن أو أبداً”. الجواب الذي ينبغي التشبث به دائماً هو الإصرار على فرصة للتشاور مع القيادات التنفيذية ومجالس الشورى قبل البتّ في أي مسألة. هذا التريّث من شأنه أن يمنحنا الوقتَ للتفكير والفرصةَ للتشاور، وهو يحول دون الإملاء والخداع.