كاتبمجاهد مأمون ديرانيةمقالات مختارة

المجاهدون والسياسة 3 – هل نقبل الدعم الخارجي؟

مجاهد مأمون ديرانية

هل نقبل الدعم الخارجي أم نمتنع عنه؟
وهل يجوز تقديم تنازلات في سبيل الحصول عليه؟

لا توجد هدايا مجانية في عالم السياسة، فكل مساعدة تقدمها دولة من الدول لدولة أخرى هي قَيد يقيّدها ويحد من حريتها، وكل دَين هو باب للتدخل حتى يُرَدّ الدَّين. لذلك نقول إن الدول الضعيفة التي تتلقى المساعدات والقروض من الدول الغنية القوية إنما تَجني على شعوبها وتضحي بحريتها وكرامتها، فهي محرّمة قطعاً، إلا لو كانت مسألة حياة أو موت، كقوتٍ بعد جفاف ومجاعة أو دواءٍ لوباء فتّاك.

رأينا في الحلقة الماضية أن الثورة هي مشروع تحت التنفيذ للدولة القادمة، أو أنها جَنينُ دولةٍ في طور التكوين، فما يقال عن الدول يقال عن الثورات، وبهذا الاعتبار نقول إن الأصل في الدعم الخارجي هو المنع، لأن أي دعم يأخذه الثوار من أي دولة سيمنح تلك الدولةَ تلقائياً حقَّ التدخل والوصاية، فتفقد الثورة استقلالها وتتدخل القُوى الخارجية في قرارها، وغالباً ستطلب منها جملة من التنازلات ثمناً للدعم الذي قدمته.

يبدو -إذن- أن الجواب هيّن قريب يعرفه العوام فضلاً عن المتعلمين: “لا يجوز أن تأخذ الثورة دعماً من أي دولة”. لكنه في الحقيقة ليس كذلك، بل أكاد أقول إنه جائز أو واجب في حالة الثورة السورية، والذي يقرّر جوازَه أو وجوبه ليس أنا ولا الفقهاء والمُفتون، بل الثوار أنفسهم. إذا قالوا: “نستطيع إسقاط النظام بلا مساعدة ولا دعم من أحد” فإن تلقي الدعم وأخذ المساعدة من الآخرين حرام، وإذا قالوا: “لا نستطيع، لقد حاولنا في أربع سنين ولم نستطع لأن عدونا تمدّه دول قوية بكل أنواع السلاح ولا بد لنا من سلاح قوي كسلاحه، ولا نستطيع الحصول على هذا السلاح إلا من الخارج”، فعندئذ يصبح تلقي الدعم واجباً ولو كان ثمنُه تقديمَ بعض التنازلات والتضحية بجزء من استقلالية القرار الثوري السوري.

الحكم السابق يأتي من الموازنة بين الشرَّين، شَرّ بقاء النظام وشرّ تدخل الآخرين في الثورة. إن مصادرة جزء من القرار الثوري شرٌّ أدنى وبقاء النظام شرّ أعلى بلا جدال، لأنه يمارس عدواناً سافراً على أعظم الأصول: الدين والنفس والعرض والمال، فضلاً عن الكرامة والحرية وإنسانية الإنسان. لو كان ثمن تدخل الدول الداعمة في ثورتنا أسوأ فإن أخذ الدعم منها ممنوع، ولو كان بقاء النظام أسوأ فإن أخذه واجب بمقدار رفع الضرر ودفع الشرّ الأكبر.

هذا هو الحكم الذي نأخذه من ثلاث قواعد مهمة هي من رؤوس القواعد الفقهية التي اتفق عليها أهل العلم: “الضرورات تبيح المحظورات”، و”ما أبيح للضرورة يقدَّر بقدرها”، و”الضرر الأشد يُزال بالضرر الأخف”. ولهذه القاعدة المهمة لفظ آخر مشهور: “إذا اجتمع ضرران ولم يمكن الخروجُ عنهما وجبَ ارتكابُ أخفّهما”، كذا وردت بصيغة الوجوب: “وجب”، أي أن ارتكاب الضرر الأخف في هذه الحالة واجبٌ لا مندوب.

الخلاصة: إن أحكام الاضطرار ليست هي نفسها أحكام الاختيار، فالميتة في الأصل حرام، هذا الحكم يعرفه تلاميذ المدارس، لكنْ لو أن رجلاً ضَلّ طريقه في البرّية ثم عثر على دابة ميتة، فتذكر هذا الحكم فلم يقربها حتى مات، ما حكمه؟ حكمه أنه آثم مسيء وأن الله سائله عن الروح التي ضيّعها. هذا وهي روح واحدة قتلها اجتهادُ صاحبها، فكيف بأرواح الملايين يقتلهم اجتهادُ القاعدين على الأرائك في النعيم؟ لم أجد جواباً لهؤلاء المانعين أبلغَ من الكلمة التي سمعتها من مفتي القاعدة السابق أبي حفص الموريتاني، قال: إن الفرد إذا خاف على نفسه الهلاك أبيحت له ميتة اللحم، فكيف لا تُباح للأمة ميتة السياسة إذا أوشكت الأمة على الهلاك؟

لكن هل يمكن أن يرضى الثوار بأي قدر ونوع من التنازل في سبيل الحصول على الدعم الخارجي؟ قطعاً لا يمكن. فما هو التنازل الذي لا يجوز؟ أو بصيغة أخرى للسؤال: ما هو خط الثورة الأحمر الذي لا يجوز للثورة تجاوزه بأي حال من الأحوال؟ الجواب في الحلقة الآتية إن شاء الله.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى