قبل الجواب عن هذا السؤال علينا أن نتذكر أمراً مهماً جداً، وأن نتذكره جيداً: إن المبادرات السياسية التي قُدِّمت لحل ما يسمونه “الأزمة السورية”، منذ منتصف عام 2012 وحتى الآن، مَبنيّةٌ كلها -بشكل أو بآخر- على نتائج مؤتمر جنيف الأول. فإذا أردنا أن نحدد موقفنا من جنيف الثالث فعلينا أولاً أن نتعرف على مُخرَجات الأول الذي ما يزال يظلل طريقَ الحل السياسي المفترَض بظلاله الكئيبة حتى اليوم.
للتذكير: في الثلاثين من حزيران عام 2012 التقت في جنيف بدعوة من المبعوث الأممي لسوريا، كوفي عنان، “مجموعة العمل” التي ضمت وزيرة الخارجية الأمريكية كلنتون ووزيرَي الخارجية الروسي لافروف والبريطاني هيغ ومندوباً عن الحكومة الصينية. هذا اللقاء عُرف لاحقاً باسم “مؤتمر جنيف الأول”، وصارت قراراته قاعدةً لكل المبادرات السياسية اللاحقة، وقد طالب بإنشاء “كيان حكم انتقالي يتمتع بسلطات تنفيذية كاملة، ويتكون من أعضاء في النظام الحاكم والمعارضة يجتمعون على أساس القبول المتبادَل”.
للتذكير أيضاً: هذا اللقاء الذي يُراد له أن يحدد مستقبل سوريا لم يُدعَ إليه ولم يشارك فيه سوري واحد. أي أن “الأقوياء” يكررون مرة أخرى ما فعلوه قبل تسعة وتسعين عاماً، إلا أن الإعلام كان أضعفَ في ذلك الوقت فلم يسمع أحدٌ بما جرى إلا بعد عدة سنوات، وعندها أدرك العرب -الذين ظنوا أنهم يقاتلون من أجل أنفسهم- أنهم إنما كانوا يقاتلون من أجل المشروع الاستعماري الفرنسي البريطاني الذي قسّم واقتسم بلاد الشام والعراق.
للتذكير أيضاً (منقول بالنص): كشفت مصادر في المعارضة السورية لوكالة رويترز (18/12/2013) أن الدول الغربية نقلت إليها رسالة تفيد بأن محادثات جنيف2 قد لا تؤدي إلى خروج الأسد من السلطة وأن الأقلية العلوية ستبقى طرفاً أساسياً في أي حكومة انتقالية. وقال دبلوماسي من الشرق الأوسط إن زعماء المعارضة يجب أن يتبنَّوا أفكاراً خلاقة فيما يتعلق بقبول المشاركة في ترتيبات خاصة بمرحلة انتقالية يبقى فيها العلويون في مواقع حيوية. وقال مصدر في المعارضة السورية على صلة بالمسؤولين الأمريكيين إن أمريكا وروسيا تعملان لوضع إطار انتقالي يحتفظ فيه العلويون بدورهم المهيمن في الجيش وأجهزة الأمن، وقال: “حتى اذا هُمِّش الأسد وترأس سنّيٌّ سلطةً انتقاليةً فلن يكون له سلطان، فلا واشنطن ولا موسكو ترغبان في إنهاء هيمنة العلويين على الجيش وأجهزة الأمن”.
عندما تحدث وزير الخارجية الأمريكي الشهرَ الماضي عن دور للأسد في مستقبل سوريا أثار ضجة عارمة، وسرعان ما حاول الناطق باسم البيت الأبيض رتقَ الفتق وتداركَ الزلّة بالقول إن الإدارة الأمريكية لم تغير موقفها من الأسد. هل يطمئننا هذا الاستدراك؟ أيَسُرّنا أن أمريكا راغبةٌ في عزل الأسد وإخراجه من المشكلة؟ لا والله لا يسرّني، بل لعله من أخوَف ما أخافه على ثورة سوريا وجهادها المبارك.
إنني لا أكاد أرى أخطرَ على الثورة السورية من عزل الأسد أو قتله أو هربه قبل سقوط النظام الطائفي العسكري الأمني كله واقتلاعه من الجذور، لأن الثورة ستواجه عندها فتنة كبيرة، وقد ينقسم جمهورُها المنهَك إلى فريقين: فريق ينادي بوقف القتال وإنهاء الثورة لأنها حققت هدفها، وفريق آخر ينادي بالاستمرار لأن الأسد ليس سوى جزء شرير من كل شرير، ولأن الثورة لن تحقق نصرها الحقيقي إلا بسقوط النظام كاملاً من الأساس إلى الراس.
بعد ذلك كله: ما موقفنا من مؤتمر جنيف؟ هل نوافق على المشاركة فيه؟ أحسب أن الجواب صار واضحاً. إذا كان خط الثورة الأحمر ومحرَّمها الأكبر هو بقاء النظام واستمرار سيطرة الطائفة النصيرية على مفاصل الحكم، وإذا كان الخط الأحمر لأمريكا وروسيا والأساس الذي قامت عليه سلسلة مؤتمرات جنيف هو بقاء النظام واستمرار سيطرة الطائفة النصيرية على المؤسستين الأمنية والعسكرية، فما الفائدة من المشاركة؟ شخصان على ضفتين حجَزَ بينهما النهر، لا هذا يرضى بعبوره ولا ذاك، أنّى يلتقيان؟