بقلم: محمد البادي
إن المتصفح لسفر التاريخ والقارئ لقصة الإنسان مع الحضارة لابد له أن يرصدأمرين اثنين:
الأول: أن يرى عمل الإنسان الحضاري وميراثه الذي يمثل عصارة جهده الفكري والمادي وفيها الحلقات المضيئة التي أنارت البشرية ولطالما كانت تاجاً منمقاً يعلو جبينها .
الثاني: ولابد للقارئ أيضاً أن يلمح تلك النقاط السوداء، التي يعبس لها وجه التاريخ غضباً مما جنته يد الإنسان من جرائم ومجازر بغير وجه حق، وأخطرها تدمير مخرجات جهد الإنسان وطمسها للأبد، ولا تغيب عن صفحات التاريخ جرائم حرق الكتب وماوراء ذلك من قتل للأفكار وإضاعة الإنسان ومجهوده، ليضيع بذلك سبيله وغايته في الحياة، ولتكون فكرة خلافة الله في أرضه شيئاً بعيداً عن أفهام البشر… لقد بدا وجه التاريخ متجهماً حين روى لنا كيف أتلف التتار مكتبة بغداد حافظة نتاج فكر المسلمين لمدى ستمائة عام، والتي كانت تجمع كتباً لشتى العلوم الشرعية والدنيوية واللغوية فضلاً عن ترجمات هذه العلوم إلى لغات مختلفة. ولاتقل فظاعة تلك الجريمة التي ارتكبها أصحاب الصليب بحق المجهود الثقافي والحضاري متمثلاً بمكتبة قرطبة ذات الأربعمائة ألف مجلد تولى أحد القساوسة النصارى شخصياً حرقها بالكامل…
وتزاحم مثيلات هذه الحوادث بعضها في كتب التاريخ. وفي العصر الحديث في عام 1933 أطلقت رابطة الطلبة النازيون حملة ضد الروح غير الألمانية!! حيث تجمع بعدها سبعون ألف طالب في ليلة العاشر من أيار في ساحة برلين، وقاموا بنقل عشرات الآلاف من الكتب إلى ساحة برلين لتحرق أمام جماهير الناس.
وأيضاً في العصر الذهبي لما أسماه القومجيون العرب بالقومية العربية، قامت الحكومة المصرية بإتلاف أصول كتب لمفكرين إسلاميين، لتختفي بعضها إلى الأبد وذلك في إطار حملتها القمعية على الحركة الإسلامية في ذلك الحين. وبمثل ذلك فعل النظام السوري وغيره من الأنظمة، وليخصص التاريخ لهؤلاء سطراً وسخاً يرويهم فيه تحت بند أبشع جرائم التاريخ. هل انتهت قصة حرق الكتب؟
ربما لا..فقد وصلتنا الأخبار عن حادثة وحملة جديدة في مصر بدوافع من حكامها القدماء الجدد لإتلاف الكتب الإسلامية في مكتبات المدارس تحت شعار محاربة مايسمى “التطرف” في ظل موجة مسمومة برائحة الصليب يخبرها كل متابع للشأن المصري تهدف لطمس الهوية الإسلامية في أرض المسلمين.
إن ماحدث في مصر ماهو إلا تكرار لما يرويه لنا التاريخ بمسميات جديدة وبوسائل جديدة ولكن الهدف لم يزل هو.. إنها حرب الهوية التي لطالما مكر بها أعداء الأمة مكرهم، لينشأ بعدها جيلٌ لا يدري وجهته فيخبط في مسيره خبط عشواء ليأوي في مقتل،إنها حرب الهوية حتى وإن استعانوا هذه المرة بعمائم السوء ولحى الدجل…فالغاية عندهم تبرر الوسيلة!!