المجاهدون والسياسة 6 – ما موقفنا من حل مؤسَّس على المحاصَصة؟
لم أكتب هذه الحلقات لافتراض ما لا يُتوقَّع وقوعه، فهي ليست من باب فقه “الأرأيتيّين” الذين يفترضون المسألة ثم يبحثون عن حكمها: أرأيتَ لو كان كذا؟ لقد كتبتها وفي نيّتي أن أقتصر فقط على الأفكار والمشروعات التي تُطرَح في الساحة، ولو على سبيل الاختبار، ومنها هذا المشروع الخطير: حل سياسي للمشكلة السورية يُبنى على المحاصصة، تُقتسَم فيه السلطة وتوزَّع المناصب السيادية -كرئاسة الدولة ورئاسة الحكومة ورئاسة البرلمان وقيادة الجيش- توزع كلها على الطوائف بحصَص يُنَصّ عليها في دستور البلاد.
فهل نقبل بحل سياسي يقوم على المحاصصة للخروج من الأزمة وإنهاء الصراع؟
لو اقترح الأطباء على أحد المرضى إجراءَ عملية جديدة لم يسبقه إليها أحد فإنه يفكر ويستشير ويستخير ويقلّب المسألةَ على وجوهها الشهرَ والشهرين ثم لا يطمئن إلى قرار، ولكن لو كانت العملية المقترَحة من نوع معروف وقد خضع لها كثيرون قبلَه فإنه لا يحتاج إلى أكثر من سؤالهم وفحص حالتهم، فإذا كان نجاحُها هو الغالب أقدم عليها متوكلاً على الله، وإذا كانت إلى الفشل أقربَ تجنّبَها وبحث عن غيرها، وصبر على ألم المرض ولو طال.
فماذا عن حل سياسي على أساس المحاصصة؟ أليست له سوابق؟ بلى. وماذا تقول تلك السوابق؟ إنها تقول -يا سادة- إن الذين قبلوا بها حلاً لنزاعاتهم وطبقوها في بلدانهم خرجوا من تحت الدلف إلى تحت المزراب.
لقد طبق الفرنسيون هذا النظام السقيم العقيم في لبنان عندما منحوه الاستقلال، فلم يصبح لبنان دولة بل صار “كانتونات” طائفية تنطوي على خطر الانفجار الكامن على الدوام، حتى كان الانفجار الكبير في الحرب الأهلية. لعل أكثر قراء هذه المقالة لا يعرفون ما جرى في تلك الحرب من فظائع لأنهم وُلدوا قريباً من نهايتها قبل خمسة وعشرين عاماً. لقد بدأت بحادثة تافهة ولكنها استعرَت بنيران الجحيم لأن الأرضية كانت مهيأة لها بسبب البناء الطائفي الهشّ للبلاد، فاستمرت خمس عشرة سنة وحصدت مئتين وثلاثين ألف إنسان.
ولم يستطع أحدٌ من اللبنانيين أن ينهي تلك الحرب المجنونة التي كانت حرباً طائفية بامتياز، القتلُ فيها على الهوية الدينية والعرقية وليس بأي معيار آخر، حتى تدخلت الدول القريبة لإنهائها. ولمّا أرادوا حل المشكلة حلّوها بالأسلوب نفسه الذي صدّعَ البلاد وسبب الانفجار أول مرة؛ جمعوا أطراف الحرب وفرضوا عليهم حلاً سياسياً على أساس المحاصصة الطائفية، فلم يصبح لبنان دولة مستقلة مستقرة قط وبقي إلى اليوم تحت سيطرة المليشيات الطائفية، وفوق ذلك كله: عاد مجرمو الحرب الكبار قادةً سياسيين وكأن شيئاً ما كان!
لقد صار هذا الحل هو الوصفة الأمريكية المفضلة لحل الصراعات في بلدان المسلمين (حلها في الظاهر وزرع بذور الصراع والفوضى والاضطراب على الحقيقة)، فقد طبقوه في أفغانستان والعراق بعد غزو البلدين، فمزّق أفغانستان ومزّق العراق ونشرَ الفوضى وفتح الباب العريض لتدخل إيران وسيطرتها على القرار الداخلي، لأن الطائفة الضعيفة التي تحس بغربتها في البحر السنّي بحثت عن امتدادها خارج الحدود ولم تتردد في تسليم القرار الوطني ورهن الإرادة المحلية لإيران، مقابل الدعم والحماية واستجابةً للدافع الطائفي. هذا هو أيضاً ما حصل في لبنان، وهو ما ستؤول إليه اليمن لا محالة إذا تحول الحوثيون إلى حزب سياسي بعدما تجذّروا في البلاد.
إن هذا المشروع الخطير هو التجلّي النموذجي للأفكار التي خرجت من مؤتمر جنيف الأول والتي صارت أرضية مشتركة وإطاراً جامعاً لكل مبادرات الحل السياسي في سوريا. ألم يقترح مؤتمر جنيف إنشاء كيان انتقالي يجمع المعارضة بالنظام؟ وحيث إن الثورة قسمت سوريا طائفياً فإن هذا الاقتراح يمكن فهمه حرفياً في إطار المحاصصة الطائفية: “كيان سياسي توافقي بصلاحيات كاملة يتكون من المعارضة السنّية والنظام النصيري”.
ولا بد أن يكون للأكراد أيضاً تمثيل (لا تنسوا العراق) فإن التصنيف الغربي محيّرٌ تماماً: هل يقوم على العِرْق أم على الدين؟ عندما يتعلق الأمر بالمسلمين فإنهم يُفرَزون أولاً عن غيرهم دينياً، ثم يُفصَل عن الكتلة السنّية الكبيرة مَن ليس عربياً، فيصبح “الكوكتيل العجيب”: سنّة، علويون، دروز، إسماعيليون، مسيحيون، أكراد، تركمان، آشوريون. ولو استطاعوا أن يفتّتوا العرب السنّة إلى سلفية وأشاعرة لما قصّروا، ولكن يبدو أنهم لم يهتدوا إلى طريقة فعّالة لمثل هذا الفرز حتى الآن.
أعوذ بالله أن نقبل في سوريا بحل سياسي مبني على المحاصصة الطائفية، فإنه واحد من أسوأ الحلول التي يمكن اللجوء إليها لإنهاء الصراع، وهو وبال على سوريا وعلى أهلها في مستقبل الأيام.