في لقائه على قناة العربية فاجأ الرئيس الأمريكي باراك حسين أوباما جماهير الأمة أجمع بالمزيد من الرسائل العدمية ، رسائل الاستخفاف والاستفزاز والتحدي . وليس من المجدي أن يعتذر البعض لرئيس دولة عظمى بالجهل في مواقع الكلام ، كما حاولوا يوما أن يعتذروا للرئيس بوش الابن عندما أفصح عن عزمه على شن حملة صليبية جديدة على أمة الإسلام ..
الحملة الصليبية التي باشرها بوش لم تنته ؛ بل لعل من الصواب أن نقول إن الحملة الصليبية التي أطلقها أوربان الثاني في القرن الثاني عشر لم تزل ، ساخنة وباردة، تنتقل في كل عصر من طور إلى طور .
فلم يكن مصادفة ، ولا زلة لسان ، ولا سوء تقدير لمواقع الكلام ، أن يعلن اللورد ألنبي الانكليزي يوم دخوله القدس في مطلع القرن العشرين إعلانه الشهير : اليوم انتهت الحروب الصليبية ، متزامنا مع إعلان الجنرال غورو الفرنسي ، في التوقيت نفسه على قبر القائد الناصر صلاح الدين : ها نحن قد عدنا يا صلاح الدين ..
من جهتنا كنا نتمنى أن الحروب الصليبية لم تكن . وحكمة من أجدادنا في امتصاص وقعها المباشر الصادم يومها أطلقوا عليها حروب (الفرنجة) . فقد كانوا يدركون التداعيات المدمرة لمعركة قاطعة ظالمة : تعلن باسم الله على خلق الله . إن أشنع الظلم والبغي والقتل ما كان باسم الرب . باسم الحي القيوم الذي وهب الحياة وصانها .
وودنا أيضا أن هذه الحروب كتبت نهايتها مع الكلمات التي نطق بها ألنبي ، كما زعم ، فطوى الغرب المتنور المتحرر من سلطان الكنيسة ، ومن البابا أوربان ، ومن نداءات بطرس الناسك المسعورة أعلامها ؛ وقبل باللقاء مع أمتنا ،على قاعدة السواء التي دعا إليها القرآن الكريم ، وأقام عليها بنيانه الديني والسياسي على السواء . ولكن لا الأمنيات التي تمنينا ، ولا الدعوة الربانية الكريمة التي دعا إليها قرآننا أغنت من واقع البغي والظلم والعدوان الذي ما زال الفرنج على تعدد هوياتهم يفرضونه علينا .
هذه المقدمة ليست عودة إلى لتاريخ ، ولا هي محاولة للتذرع به لتفسير واقع سياسي أصبح عصيا على كل معطيات القراءة السياسية لحقيقة ما يجري في فلسطين وفي سورية ، وفي العراق ، وفي لبنان وفي اليمن وفي ليبية وفي مصر أيضا …
وحين نستحضر كل ما يعلنه ويتدارى به الإنسان ( الفرنجي ) من مبادئ الحرية وحقوق الإنسان وكل ما صدر عما يسمى مجلس الأمن الدولي من قرارات بغض النظر عن قربها للحق أو مجافاتها له ؛ ثم نقرن كل ذلك بما يجري في عالمنا بشكل عام وفي أقطارنا التي ذكرناها بشكل خاص ، سنضطر تحت ضغط العقل العملي إلى البحث عن معطى مفتاحي يفسر لنا كل هذا الذي يقرر وكل الذي وكل الذي يتم السكوت المتعمد عنه ، ثم كل هذا الذي يمرر..
معادلة معقدة صعبة يتناقض فيه القول مع الفعل والظاهر مع الباطن ؛ يفرض علينا قراءتها والتعامل معها ، وإظهار القناعة بها ، وأن نقنع بها أجيالا من أبناء أمتنا درسوا كل قوانين الطبيعة والفيزياء والأحياء وتعلموا كيف تحل في كل العلوم جميع المعادلات .
إننا ومع إقرارنا بخلل كبير في معطيات واقعنا الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، ندرك أنه ليس من الإنصاف أن يُحمّل جيل واحد من أبناء الأمة مسئولية اختلاله ؛ وفي الوقت نفسه فإنه ليس من الروح العلمية والعملية التسليم لاختلاله ، والنزول على أحكامه ..
إن ما صرح به الرئيس الأمريكي ( باراك أوباما ) في لقائه على قناة العربية في 14 / 5 / 2015 عن أمة العرب والمسلمين جديد وصريح وقاس .. حين قصر دورها على حماية رمزيات مقدسة ربما ينازعها آخرون على الحق في حمايتها في ظل تحالفاته المريبة ..
وما قاله الرئيس أوباما عن فلسطين ، والتزامه بأمن الإسرائيليين ، وتشاغله عن مأساة الفلسطينيين معطى آخر ، لا يمكن أن يُستقبل فقط ، بالاستنكار والتنديد …
وما اختصر فيه الرئيس أوباما ثورة الشعب السوري ، ثم تجاهله لتضحيات هذا الشعب الحر البطل ، وطمسه لتطلعاته في الحرية والعيش الكريم ومقابل كل ذلك ما أكده من رفض حازم لانتصار هذه الثورة ، ثم اتهامها واتهام ثوارها بالتطرف والإرهاب ، وهو قد كان له دور مباشر في تأجيج أوار المتطرفين ؛ إن كل أولئك هو بعض قديم الرئيس أوباما الجديد ..
فأوباما الذي يعلن صراحة التزامه المطلق في فلسطين بأمن الإسرائيليين ، يعلن ضمنا في سورية الحرة الأبية التزامه بأمن الطائفيين المستبدين من القتلة والمجرمين ، التزامه بأمنهم ، وضمانه لمستقبلهم ، على حساب أمن وبقاء كل السوريين .
إن الجديد الذي أعلن عنه أوباما في لقائه على قناة العربية أن الزمن المتاح لمشروع إبادة السوريين بكل أنواع الأسلحة ، بما فيها الغازات السامة سيظل مفتوحا ، وأن حق تدخل كل أشرار الأرض للاشتراك في مشروع إبادة الشعب السوري سيظل متاحا ، على مدى ما تبقى من زمن ولايته ولا أحد يدري بعد ولايته ماذا يكون …
هذا هو الجديد العجيب الذي يفصح عنه الرئيس أوباما ربما للمرة الأول في عهده غير الرشيد ..
هذا الجديد الذي يعلن عنه الرئيس أوباما وهو على مقعد التحبب والتودد للأمة وشعوبها ، كما قال ، يحتاج إلى مستقبلين عقلاء ، يستمعون القول فيتتبعون موارده ومستقراته ، مفاصله وانعكاساته وتردداته ، ثم يضعونه موضعها في صناعة قرارهم وحزم أمرهم .
ما صرح به أوباما على قناة العربية ليس قولا عابرا مرسلا بل هو قول من أعلى المصادر ، في أوثق اللحظات ، إنه القول العريان يصدر عن رجل بلغ به الاستهتار بالأمة أن يسب تاريخها وأجيالها على منابرها ثم نجد من حوله بعض أبنائها يضحكون ..
إن أي شيء ننجزه في إطار العمل الصعب في الظرف الصعب أكثر جدوى من الوقوف على باب من أعلمنا أن النار والعار والخزي والشنار هي وحدها مكافأة هذا الوقوف …