تمخضت أربعُ سنوات من الثورة المسلحة عن تكتّل الجزء الأكبر من القُوى العسكرية في كيانات كبرى. هذه الكيانات لم يعد ممكناً تجاوزُها في أي حل للمشكلة السورية، فهي جزء من هذا الحل بحكم الأمر الواقع، ولكن القوى الدولية التي أطالت عمرَ الثورة وضاعفت معاناة الأبرياء في سبيل فرض حل سياسي يحقق مصالحها في سوريا لا يسرّها وجود قوة تفاوضية صُلبة مستقلة، فماذا تفعل؟
صحيحٌ أن تحييد الفصائل الرئيسية ليس ممكناً، لكن وجودها لم يعد مشكلة طالما أنها متفرقة عسكرياً وسياسياً، فمهما بلغ أيُّ فصيل منها من القوة والتأثير فإنه لن يقترب من القوة والتأثير اللذين يملكهما المحور الآخر، العدو الذي اجتمعت مكوناتُه كلها تحت قيادة عسكرية وسياسية واحدة برؤية موحدة ومشروع واحد.
إنها مشكلة خطيرة، ولكنها ليست الأخطر؛ المشكلة الأخطر هي تضاؤل حجم الفصائل قياساً إلى الجسم الكبير المتوقَّع إنشاؤه لتمثيل المعارضة في جنيف وغير جنيف من المؤتمرات السياسية. إن رعاة الحل السياسي يَبْنون مبادراتهم على مشاركة واسعة لأطياف المعارضة (كما يسمّونها)، وهم يعتبرون المعارضةَ المسلحة كلها نوعاً واحداً من مكونات المعارضة أو لوناً واحداً من ألوان الطيف، وعندما ينظمون المؤتمرات الكبرى التي يُنتظَر أن تحدد مصير الثورة ومستقبل سوريا فسوف يَدْعون بقيةَ الطيف مع الفصائل المسلحة: الائتلاف الوطني ومنظمات المجتمع المدني والأقليات والمرأة ورجال الأعمال والمستقلين.
الخبر السيئ هو أن المنظمات الدولية (التي بدأت بالعمل مع بداية الثورة) نجحت مع الوقت في تكوين شبكة واسعة من العلاقات مع هيئات ومنظمات وناشطين مستقلين من كل الأنواع، وفيما تتحرك “المعارضة المسلحة” تحت الضوء الساطع في الميدان فإن عشرات الكيانات غير العسكرية تولد وتنمو في الظلام وتُهيَّأ للظهور على المسرح في الوقت المناسب. وفيما بقيت الفصائل مشتّتةً مفرّقةً لا جامعةَ تجمعها ولا مشروعَ يوحدها فإن المظنون (بل الراجح، إن لم يكن المؤكَّد) هو أن المنظمات الدولية التي تتحرك وراء الستار (بروكنغز وكارتر وأمثالهما) قد نجحت أخيراً في جمع شريحة واسعة من المعارضة غير العسكرية على رؤية واحدة ومشروع واحد.
لم يعد تحييد الفصائل وإبعادُها مشكلةً عند القوى الدولية الراعية للحل السياسي طالما أن احتواءها وتقزيمَها سهلٌ متاح، وهو الأمر الذي تساعد الفصائلُ نفسُها على تحقيقه عندما تدخل إلى المسرح السياسي متفرقة في الرأي والمشروع، فضلاً عن التفرق العضوي في الكيانات. إن كل فصيل منها قط كبير، ولكن القط يبقى كبيراً طالما بقي محاطاً بفئران صغار، وهو حتماً سيغدو صغيراً عندما يوضع بين الدببة الكبار.
ما الحل لهذه المعضلة؟ إنه قريب موجود، ولكن الفصائل الكبرى مصمّمة على تجاهله وكأنه ما كان. إنه المشروع الذي أُنفق فيه من الجهود والأوقات ما لو أنفق في الأمة الإسلامية كلها لجمعها في كيان واحد ودولة واحدة، ولكن السوريين أشدُّ استعصاءً على الاتفاق من الشعوب المسلمة المتعددة اللغات والأعراق.
إنه مجلس قيادة الثورة الذي أنشئ ليضم الفصائل الثورية كلها، صغيرَها وكبيرها وما يُسمّى منها إسلامياً وما يسمى جيشاً حراً (وهي التسميات والتصنيفات التي ساهمت في تفتيت الجسم الثوري بلا طائل). إن مجلس قيادة الثورة هو الأمل الأخير لاجتماع كلمة الفصائل عسكرياً في الميدان، وهيئته السياسية هي الأمل الكبير لصياغة وحمل المشروع الثوري السياسي الجامع.
لقد آن لمجلس قيادة الثورة أن يصحوَ من الرُّقاد، وأن يستقطب خيرة الكفاءات السياسية من الثوريين المستقلين، وهم كثيرون، وأن يمد جسور التفاهم مع المنظمات الثورية المدنية ومع مجالس الإدارة المحلية، وأن يسعى إلى التصالح مع الائتلاف الوطني والالتقاء معه على المشترَكات الكبرى، فإن الائتلاف مؤسسة سياسية ثورية عامة وليس ملكاً لأفراد أو تكتلات، وهو ما يزال إلى الآن الممثلَ الرسميَّ الوحيد للثورة في الخارج وسوف يكون جزءاً من أي حل سياسي قادم، وفيه خَيّرون صالحون كثيرون (وفيه كثيرون من غيرهم). فإذا فشل مجلس قيادة الثورة في التصالح مع الائتلاف فلا أقلَّ من استقطاب أفضل أعضائه ليكونوا جزءاً في محور الخير وسنداً للتجمّع السياسي الوطني المخلص الذي يضمّ جماعات المجاهدين.