المجاهدون والسياسة 8 – ما هو المشروع السياسيّ للثورة؟
الجواب أكبر من حجم كاتب هذه السطور، فهو أمر جلل ينبغي على المكاتب السياسية للفصائل الكبرى أن تتصدر لتنفيذه، ولا أرى له أفضلَ من الهيئة السياسية لمجلس قيادة الثورة، الذي صار تفعيلُه ودخولُ كل الفصائل المهمة فيه واجبَ الوقت، فإن استثمار هذه المظلّة الجامعة التي بُذلت فيها جهودٌ هائلة وأوقاتٌ طويلة أفضل من البدء بأي محاولة جديدة، كما أن حالة الثورة اليوم لا تسمح بالمزيد من المغامرات.
لا أستطيع أن أقرر مشروع الثورة السياسي، ولكني أعلم أنه يجب أن يحقق الحدَّ الأدنى من الأهداف التي قامت الثورة من أجلها، فلا أتوقع أن يسمَّى مشروعاً سياسياً ثورياً أيُّ مشروع يتجاوز “خط الثورة الأحمر”، فيقبل باستمرار سيطرة الطائفة النصيرية على مفاصل الحكم في سوريا، لا سيما الجيش والأمن، أو باشتراك أي جزء من النظام المجرم، صغيراً كان أو كبيراً، في أي مرحلة سياسية قادمة، انتقاليةً كانت أو نهائية.
وأعلمُ أيضاً أن المشروع السياسي قابلٌ للتجزئة والتنفيذ على مراحل، فيمكن أن يُقتصَر منه في مرحلة الثورة المسلّحة على ما لا يمكن تداركُه بعدَها، ويمكن أن نقبل فيه بانتصارات وإنجازات جزئية على أمل استكمالها في مراحل لاحقة بعد سقوط النظام، بخلاف المشروع العسكري الذي لا يحتمل إلا نتيجة واحدة: نصراً كاملاً (نسأل الله أن يكرمنا به) أو هزيمة كاملة (أبعدَها الله).
وأعلمُ أيضاً أن مشروعنا السياسي الثوري ينبغي أن يكون عملياً قابلاً للتحقيق في عالم الواقع، فالمشروعات تختلف عن الأحلام والآمال التي نَبنيها في عالم الخيال. لكل واحد من الناس أحلام يحلّق معها في خياله، ولكنْ كم منها يتحقق في العالم الواقعي؟ في حياة الأفراد وفي حياة الأمم توجد دائماً فجوات بين الممكن والمأمول، وعندما يرفع المرءُ سقفَ أحلامه عالياً فإنه قد يُصاب بالإحباط ويفشل في تحقيق القدر الأدنى من تلك الأحلام. ولا يكاد يوجد فرق بين الأمم والأفراد في هذا الباب.
كما أعلمُ أخيراً أن المشروع السياسي الجيد ينبغي أن يُصاغ بمفردات يفهمها المجتمع الدولي، وأن يقدم إجابات صريحة واضحة عن جملة من المسائل الشائكة، كالمواطنة والأقليات الدينية والعرقية، والعلاقة مع الدول المختلفة والاتفاقيات الدولية، والديمقراطية والتعددية السياسية والحريات العامة.
إن الحديث العام المبهَم عن الشورى وعدالة الإسلام وتاريخه الناصع مع الأقليات الدينية لا يفيد، لأن العالم ينتظر منا إجابات صريحة واضحة. مثلاً: هل ستملك الثورةُ الجرأةَ على التصريح بأن الدستور لن يفرّق بين أهل سوريا بحسب دياناتهم ومذاهبهم وأجناسهم، وأن الجميع سيكونون متساوين في حق المواطنة الكاملة، باستثناء رئاسة الدولة التي ستكون من حق الأغلبية (وهو مبدأ مطّرد تنص عليه كثير من دساتير دول العالم)؟ هل ستعترف الثورة بحق السوريين في اختيار حكامهم وتُقرّ التعددية السياسية وتداول السلطة ضمن الأطر السلمية والأعراف السياسية ودون استخدام القوة لفرض أي رأي على الشعب؟
مهما كان موقف العالم سيّئاً من ثورتنا (وهو كذلك) فإنه يستطيع دائماً أن يكون أسوأ. حتى لو أردنا أن نتجاهل المجتمع الدولي (وهذه ليست نصيحة جيدة، رغم أننا لم نرَ منه خيراً يُذكَر) فإن المجتمع المحلي، وهو وعاء الثورة وحاملها الأكبر، يحتاج إلى التحام وطمأنة. فلماذا اندرسَتْ منذ زمن بعيد الصورةُ الزاهية لثورة شعبية عامة؟ وكيف انحسرت رايةُ الثورة التي مشى تحتها ذات يوم ثلاثةُ ملايين إنسان في كتلة بشرية واحدة غطت التراب السوري كله، انحسرت لصالح رايات لا تكاد تختلف في شكلها ولونها كثيراً عن رايات خوارج العصر الذين حوّلوا ثورة الشام إلى إرهاب دولي؟
إن الثورة لم تنتج بعدُ مشروعَها السياسي، ليس لأن المجاهدين الذين يقدّمون التضحيات الهائلة في الميدان عاجزون عن إنتاج هذا المشروع، فإن فيهم عقولاً كبيرة قادرة على إبداعه بالتأكيد، بل يغلب على الظن أنهم أخّروه لأنهم لم يدركوا حتى الآن قيمتَه ودورَه في “المعركة الكلّية” التي لا تقلّ فيها أهميةً قوةُ السياسة عن قوة السلاح. لقد بذل المجاهدون جهوداً هائلة في المشروع العسكري، وآن لهم أن يبذلوا بعض الجهد في المشروع السياسي لكيلا تضيع التضحيات ويقطف غيرُهم ثمرةَ الانتصارات.