ليس بعد. سوف نضطر في آخر الأمر إلى المشاركة في المسار السياسي، لأن الحل النهائي سيخرج من أروقة السياسة ولن يتحقق في ميادين القتال. من أجل ذلك ينبغي على المجاهدين أن يؤسسوا هيئة سياسية قوية لكي يكملوا طريقَ التحرير الصعب الذي بدؤوه (وقد اقترحَت مقالةٌ سابقة أن تكون هي نفسها الهيئة السياسية لمجلس قيادة الثورة)، ولكن علينا أن لا ننسى قاعدة القواعد في هذه المسألة المصيرية:
إن الحرب هي التي تقرر نتيجة المفاوضات السياسية، فهي إما أن تصنع ظروف النصر أو تصنع ظروف الهزيمة. إن المشاركة في المسار السياسي قبل امتلاك شروطه وأدواته انتحار، وأهم هذه الشروط ثلاثة: الأول مشروع سياسي واضح ناضج، والثاني جبهة موحدة عسكرياً وسياسياً قادرة على حمل المشروع والدفاع عنه، وقد ناقشت هذين الشرطين في الحلقات السابقة.
الشرط الثالث والأهم على الإطلاق هو القوة. لو اتحدت الأطراف الثورية كلها في كيان واحد وتوافقت على أعظم مشروع سياسي، ولكنها كانت ضعيفة عاجزة عن تحقيق أي إنجاز يُذكَر على الأرض، فلن تكون لها قيمة في أي مفاوضات وسوف يَفرض عليها الطرفُ القوي مشروعَه ورؤيته. إن الطرف الضعيف في أي مفاوضات سياسية مأكولٌ حتماً، ولا يكون المفاوض على الطاولة قوياً إلا إذا كان جزءاً من كيان عسكري قوي على الأرض، كيان يستطيع التأثير في الصراع وإعاقة مخططات الآخرين والصمود في المعركة.
لا بد من الاعتراف بأن صمود الثورة حتى اليوم غيّرَ قواعد اللعبة واضطَرّ القُوى الدوليةَ إلى إدخال المجاهدين طرفاً في المفاوضات النهائية لحل الصراع. لا بد من الإقرار بأن القوى الإقليمية والدولية حاولت لوقت طويل احتواءَ الثورة والسيطرةَ الكاملة عليها ولكنها فشلت في تحقيق هذا الهدف، وإن استطاعت في كثير من الأوقات التحكمَ في زخمها واندفاعها عندما ضيّقت الخناقَ على المجاهدين وحرمتهم من السلاح. حتى في أسوأ الأوقات استمر المجاهدون بالمعركة بقدرات ذاتية متواضعة وبما يحصلون عليه من غنائم في معارك التحرير، وهو قَدْرٌ كافٍ للصمود ولكنه لا يكفي لحسم المعركة.
لقد عجز المجاهدون عن حسم المعركة حتى الآن، هذا صحيح، إلا أنهم استطاعوا حرمان الخصم من هذا الإنجاز رغم أن كل الظروف الموضوعية كانت في خدمته: دعم مفتوح من حلفائه بغير حدود، وتضييق وحصار على المجاهدين، وكارثة إنسانية هي الأضخم في القرن الجديد، ومساعدة أخرى مجانية قدمها الثوار للنظام بتفرقهم وعجزهم عن تكوين تحالف حقيقي وهيئة أركان موحدة تدير المعركة على كامل التراب السوري.
سوف تستمر الثورة ما بقي الثوار قادرين على الصمود هم وحاضنتُهم الشعبية، وهذا الصمود مكلف ومنهك بالتأكيد، ولكنه يهون إذا ما قورن بكارثة بقاء الاحتلال الطائفي النصيري أو بقاء النظام الحالي أو جزء منه في الحكم. إذا اتفقنا أن هذا هو “خط الثورة الأحمر” (وأرجو أن نكون متفقين) فإن على الثورة أن لا تلقي السلاح قبل تحقيقه بالكامل، وأن تقاوم كل الضغوط الخارجية وتضع الخطط العملية التي تضمن الصمود والاستمرار.
الخلاصة: سوف يكون الحل النهائي في سوريا سياسياً بالتأكيد، على أن الخلاف بيننا وبين أعداء سوريا هو أنهم سيحاولون تمريره عن طريق معارضة مفصولة عن الجسم الثوري ومنحازة إليهم بشكل أو بآخر، ونحن نريده من داخل “المنظومة الثورية”. بأبسط تصوير: على طريقة “حماس” التي يقوم فيها العسكريون بعملهم في الداخل ثم يكمل السياسيون المهمة في الخارج.
سيزداد الضغط الدولي على المجاهدين للقبول بحل سياسي مُجحف، وسوف يكونون قادرين على مقاومة هذا الضغط إذا استطاعوا الصمود في الميدان. ولكن الصمود وحده لن يحسم الصراع لأنه لم يعد صراعاً محلياً كما رأينا في الحلقات الأولى؛ لقد صار صراعاً إقليمياً ودولياً أكثرُ مفاتيحه موجودةٌ خارجَ سوريا، لذلك يحتاج المجاهدون إلى جهاز سياسي ناضج، فإذا كان جهازاً قوياً محترفاً واستمدّ قوته التفاوضية من صمود المجاهدين في الميدان فإنه سيحقق الحد الأدنى من أهداف الثورة ويحميها من تجاوز خطها الأحمر بإذن الله.
إن المجاهدين ما يزالون غيرَ مهيئين للدخول في المسار السياسي، وأرجو أن لايستعجلوا الدخول -مهما تكن الضغوط- حتى يستوفوا الشروط الثلاثة الأساسية: المشروع السياسي، والكيان الموحد الحامل للمشروع، والوضع العسكري القوي الذي يستطيع أن يفرض شروطَه بالحد الأدنى. وبعد ذلك كله لا بد من فريق تفاوضي محترف تتحقق في كل أفراده صفة “القوي الأمين”.