في كل عام في مثل هذه الأيام تتاح لي العودة إلى معارض الكتب العربية ، ودور النشر ومكتبات بيع الكتب في عمان . وعاما بعد عام تتكرس في ذهني ظاهرة خطيرة ودالّة في الوقت نفسه ، وهي محتاجة إلى تدابير علاجية على أعلى مستويات القيادات الفكرية والثقافية في الأمة ..
وتتجلى هذه الظاهرة في زحف الكتاب التراثي بكل ما فيه من خير عميم وداء وبيل في الوقت نفسه على أرفف المكتبات ، وإقصاء هذا النوع لكل أنواع الثقافة الأخرى على اختلاف فنونها وألوانها …
حتى المكتبات التي كانت تحاول أن تقدم شيئا مختلفا بدأت تشعر بالحاجة لتفسح مجالا أوسع للمطبوع المطلوب . وزارات الثقافة العربية التي كانت تحاول أن تحافظ على بعد ثقافي في اختياراتها المترجمة بدأت تؤثر الاستقالة شيئا فشيئا أو الانغماس في السياسة أكثر منها في الثقافة . القارئ العربي الذي لم يجد في شبابه فرصة للتعاطي مع القراءة في اللغات الأم لكتاب معاصرين أصبح يجد نفسه أسير ( محابس كثيرة ) وليس أسير محبسين فقط كما كان أبو العلاء . حتى المؤسسات الفكرية ذات الطابع التبشيري السياسي والحضاري ، وبعد أن هدأت رحى الحرب الباردة لم تعد تجد نفسها في سباق محموم على العقول والقلوب …
وبعد أن كان الإنسان إذا دخل معرضا لكتاب لا يلجم نهمه للشراء إلا قلة ما في جيبه من مال أخذ يدخل ويخرج وقد اشترى من المعرض بعض الكتب على استحياء من بائع الكتب الذي أصبح كصاحب المطعم الذي يبدئ ويعيد في طبيخه الكاسد منذ أسبوع فيلقي عليه كل اليوم المزيد ظنا منه أنه سيجعل منه طازجا أو جديدا …
والظاهرة التي أشير إليها هنا ليست ظاهرة تجارية ، ولا هي ظاهرة ترفية بل هي ظاهرة جد خطيرة في بنية تشكيل العقل العربي ، والارتقاء بالوعي العام لأبناء الأمة …
وإن التحذير من خطورة الظاهرة لا يمكن أن يفهم منه موقف معاد لكتب التراث وما في كتب الماضي من ذخائر وكنوز . على أن توضع هذه الكتب في إطارها التأسيسي لأي بناء .
في تعامل أمتنا وأجيالها مع كتب التراث يجب أن نشير إلى ثلاثة محددات أساسية …
أولا – ألا نغفل عن أن في كتب التراث على اختلاف علومها وفنونها الكثير من الغثاء التاريخي . كتبٌ عن الجن والعفاريت والسحر والتنجيم ، وأخرى عن تاريخ الكون والحياة وخلق آدم وقصص الإسرائيليات تذخر بالأساطير والخرافات . وكتب هي إلى الإرشادات الاجتماعية لعصور غبرت أقرب منها إلى الأحكام الفقهية .
قرأ كاتب هذه السطور ( بدائع الزهور في وقائع الدهور ) لابن إياس الحنفي وهو في الصف السابع . وكاد يكون فتنة عليه . لو لا أن عالما جليلا قال في حق الكتاب ما يستحق لنفيه من عالم العلم ومن عالم الدين على السواء . وما زال العامة من المسلمين يتداولون قصة المعراج المنسوبة زورا لابن عباس . وما زالوا يقرؤون قصص الرعب فيما يسمى عذاب القبر في روايات قصاص ما أنزل الله بها من سلطان . بل ما تزال تسمع روايات أسطورية رافقت ما يحكى مولد الرسول الكريم ويعتبره بعض المسلمين دينا يدينون الله به . آلاف الكتب التي يمكن أن تحفظ أصول منها لتكون وثائق شاهدة على تطور الفكر الإنساني ؛ ما زالت تطبع وتعرض وتباع وتسمم العقول والقلوب وتفسد الحاضر وتقطع الطريق على المستقبل ..
ثانيا – في الموقف من كتب التراث لا بد من انتقائية منهجية علمية ، فما كتبه الأقدمون حتى العلماء الراسخون منهم ليس صحيحا دائما لأن كاتبه من الأقدمين . بل إن الكاتب أو العالم الواحد من الأئمة الأعلام الأثبات يؤخذ من قوله ويرد بلا تردد ولا تثريب . ويؤكد خطورة الإقبال المفتوح على أقوال الأقدمين ما نراه ونلحظه لدي جيل من شباب الأمة من اعتبار أقوال بعض هؤلاء الأئمة وكأنها تنزيل من التنزيل أو آي من الذكر الحكيم . فما أفتى به عالم في القرن الثاني أو الثاني عشر ما زال يصلح في رأي البعض قانونا ومنهاجا في القرن الخامس عشر . مع اعتماد جميع العلماء حقيقة أن الفتوى تقدر زمانا ومكانا .
يجب أن نميز في تعاطينا مع كتب التراث بين كتب العلم وكتب الثقافة . فكتاب العلم مرجع للعلماء . وليس معطى ثقافي للراغبين في البحث عن مستند لتطلعاتهم أو أهوائهم . وهذا السيل من المراجع العلمية التي تطبع بشكل كتب الثقافة الشعبية أصبحت مهددة للعلم ومفسدة للثقافة المجتمعية في آن …
وأخيرا فإن الذي نخشاه أن يكون طغيان كتب الماضي أو الكتب التي تتحدث عن الماضي هو نوع من الهروب من واقع الأمة البئيس ، ونكوص عن مواجهة تحديات الحاضر والمستقبل . ووأد لوعي الأمة بعد عن آفاق الحياة المنتجة البناءة …
إننا ومع اعتدادنا بكل ما نملك في كتب تراثنا من حق ومن ذخر نحتاج في الوقت نفسه إلى الإفادة من ثمرات العقول لدى كل الأمم والشعوب ، لنكون قادرين على التفاعل الإيجابي البناء …
ولتبقى الحكمة دائما ضالة المؤمنين في جمعهم واجتماعهم ويومهم وغدهم. وما يحتاجه رجال الفكر والدعوة من أمتنا هو مراجعة منهجية منذرة مبشرة ؛ منذرة تحذر مما في كتب التراث المطبوع من زيف وغثاء وخطل ، ومبشرة بما يجب أن يكون عليه العقل المسلم من وعي وانفتاح ..ومن المطبعة أو المكتبة يمكن أن تكون البداية …