ما أبأس أن يكون المؤمن صاحب قضية عظيمة فينساها، وينشغل عنها بسفاسف الأمور؟ “.
وهل تخلو الأمة المسلمة، أو أي شعب من شعوبها، بل أي فرد من أفرادها، من قضية عظيمة يجب أن تَشْغَل البال، وتستحوذ على الهمّ، منذ فقد المسلمون الكيان الذي ينافح عن الدين، ويحمي البيضة، ويذود عن الديار والحرمات؟!
وحين تستمع إلى نشرات الأخبار، من أي مصدر شئت، في صباح أو مساء، في صيف أو شتاء، فستلاحظ أن القاسم المشترك الذي لا يكاد يغيب، هو الحديث عن مطاردة الدعاة، واتهام المجاهدين، والتطاول على المقدسات، وإقصاء الشريعة عن ميادين الحياة، وقتل الشباب والشيوخ أو اعتقالهم أو مداهمة بيوتهم… أو إبراز دعاة جهنم، من أبناء جلدتنا، وإغراؤهم باضطهاد المؤمنين والتضييق عليهم، وجعل هذا “الواجب” ثمناً لدعم هؤلاء الأعداء وتمكينهم…
ويترافق هذا كله بتشويه سمعة أصحاب الدين المستقيم، ووصفهم بالرجعية تارة، والإرهاب والتشدد تارة، والعمالة حيناً، وتجفيف المنابع التي يمكن أن تُمدّهم بأي نوع من أنواع المدد، بمقابل إضفاء صفات التنوُّر والتقدمية والاعتدال، على الذين ينسلخون من الدين، ويرضون أن يكونوا سياطاً بأيدي الطغاة البغاة، ويبقون محسوبين على الدين الحنيف!.
أمام هذا كله تغدو بعض المواقف والتصرفات، من مسلمين غيورين على إسلامهم، غريبة كل الغرابة.
فالمسلم الذي يشتدّ ويحتدّ على أخيه المسلم، لرأيٍ فقهيّ رآه أو تَبِعَ فيه عالماً من العلماء، بحجة أن هذا الرأي مرجوح، وأن دليله ضعيف!.. ينسى أن سَعَة الاجتهادات تستوعب هذا الرأي وغيره، وأن الترجيح بين قول وآخر لا يقتضي خصومة وشدة وحدّة، وأن اختلاف الرأي لا يفسد للود قضيّة، وأن القضايا الكبرى للمسلمين لا تُخدَم بهذه الخصومات بل تزداد تعقيداً، وأن حل الإشكالات الفقهية، وترجيح الاجتهادات ميدانُه حلقات العلم، وفرسانُه العلماء المحققون.
والمسلم الذي يبحث عن نقاط الخلاف بينه وبين المسلمين الآخرين، الذين يعملون مثله على نصرة دين الله، ويضخّم هذه النقاط، بحجة أن طريقهم خاطئة، ويتخذ منهم أعداءً، تستهلك عداوته لهم جُلّ اهتمامه، وتَشْغَلُه عن عدوه الحقيقي، بل قد يتحالف مع عدوّه عليهم، يغفُل عن أن ميادين العمل والجهاد ليست حكراً على الطريق الذي ارتآه هو، وأن حماسته لرأيه لا تسوّغ له أن يخاصم إخوانه في العقيدة، فضلاً عن محاربتهم باللسان، أو بالسنان، والاستعانة عليهم بالعدوّ!.
والمسلم الذي يرى الكبائر والصغائر من المعاصي تملأ عليه الأفق، وتزكم منه الأنف، فيألف ذلك، أو يسكت عليه، ثم يقيم الدنيا على أمر تختلف في الاجتهادات، أو على ترك مندوب، أو فعل مكروه، لهو إنسان اضطربت في نفسه الموازين.
وتندرج صور كثيرة من أمثال ما ذُكر، من مواقف شاذّة أو خاطئة، فتدل على فراغ في الذهن، أو اختلال في الموازين، أو نضوب في مشاعر الحب في الله.
فقد جمعت بعض ظروف العمل الإسلامي بين شابّين، كانا ينتميان إلى توجّهين إسلاميين من شأنهما التناحر والتباغض، وانهمك هذان الشابان في العمل الدؤوب الجادّ الذي لا مكان فيه للتفكير في جزئيات ثانوية، واهتمامات صغيرة. وبعد حين قال أحدهما لصاحبه: أليس من المعيب أننا كنا متباعدَين متنافرَين، لا يكاد أحدنا يتصور اللقاء بالآخر؟! قال له صاحبه: بلى! وإن السبب في ذلك التباعدِ، فراغُ قلوبنا من الاهتمام بقضايا الأمة الكبرى، حتى كنا نحسَبُ أن ما نختلف عليه كان “شيئاً”!.
وعلى مستوى آخر نتذكر قضية المرأتين اللتين اختصمتا إلى سيدنا سليمان عليه السلام، في طفل، كل منهما تدّعي أنه ولدها. فلما قال لهما سليمان: لابد أن أشقّه بينكما – يريد بذلك أن يختبر شعور كل منهما تُجاه الولد – قالت إحداهما: بل هو ابنُها يا نبي الله!. فعرف أن القائلة هي أمّ الولد الحقيقية، فهي تشفق على الولد أن يقتل، وترى أن حيازة ضرّتها له، أهون من قتله.
فهلا شعر المؤمن الذي يخاصم إخوانه أنه أم الولد؟!
اللهم ألهمنا رُشدنا، واجمع كلمتنا على ما يرضيك عنا، وأرِنا الحق حقاً، وارزقنا اتّباعه وحبّبنا فيه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه وكرّهنا فيه.