-1- يكاد يعجز العادّون عن إحصاء الجرائم التي ارتكبتها داعش، ولعل أسوأها هي وَسْم الأمة كلها بوحشية داعش وساديّتها وإجرامها الفظيع، بحيث صار من المتعذر في أذهان مئات الملايين من البشر التفريقُ بين داعش والإسلام أو بين الدواعش وعامة المسلمين. لقد قدّمَت داعش للعالم صورةً سوداء عن العرب والمسلمين يحتاج تبييضُها إلى عشرات السنين، فصدَّت عن سبيل الله وكرّهت البشريةَ كلها بالإسلام، وجعلت العرب والمسلمين قوماً همجاً رَعاعاً ليس بينهم وبين الإنسانية نَسَبٌ وليس لهم منها نصيب.
وكذلك صنعت المليشياتُ الكردية الطائفية مع الأكراد، فلا يجوز أن نطلق عليها تعبيرَ “الأكراد” بعمومه فيدخل فيه البَرّ والفاجر والضحية والجلاد، بل ينبغي أن نميّز بين أبرياء الأكراد ومجرميهم كما ميّزنا بين أمة المسلمين وعصابة داعش، وليكن الاسم المتداوَل -منذ اليوم- لوصف المليشيات التي اجتمعت تحت مظلّة وحدات الحماية الشعبية الكردية الانفصالية هو “واحش” وليس الكرد على الإطلاق.
-2- لئن يكن العرب المسلمون ضحيةً لإجرام “داعش” فإن إخوانَنا الأكراد ضحيةٌ لإجرام “واحش”، وكما نقول إنّ من الظلم تحميلَ المسلمين السنّة مسؤوليةَ الأعمال الوحشية التي ترتكبها عصابة داعش، فكذلك نقول إن من الظلم تحميلَ أكراد سوريا مسؤوليةَ الجرائم البشعة التي ترتكبها المليشيات الكردية الانفصالية. كلا التنظيمين عبء على الأمة، وكلاهما عدو لسوريا وثورتها ولمسلمي سوريا الذين يتكوّنون من عرب وأكراد وشركس وتركمان، بل ولسكان سوريا جميعاً من كل الأديان والطوائف والأعراق.
إن مصيبة الأكراد في واحش لا تكاد تختلف عن مصيبتنا في داعش: تسلّط وبغي وإجرام وقوانين جائرة يفرضها حَمَلةُ السلاح بقوة السلاح على ضعفاء المدنيين. وكما أن العرب والكرد كليهما يتعرضان لبغي داعش وإجرامها فإنهما يتعرضان معاً لبغي وإجرام واحش، لأن الإجرام لا يعرف هُويّةً ولا يعترف بدين. فلا يجوز أن نستعمل مفردة دينية لوصف إجرام داعش فترتبط في الأذهان بدين الإسلام، ولا يصحّ أن نستعمل مفردة عرقية لوصف إجرام واحش فترتبط بجمهور الأكراد. لا ينبغي أن نأخذ العامة بجريرة الخاصة أو نحمّل الأمم والأقوام جرائم المليشيات والعصابات.
-3- لقد آن الأوان لتصحيح خطأ تاريخي في الذهنية السورية، خطأ يصوّر الأكرادَ شعباً غيرَ متدين وغير وطني، لا ينتمي لسوريا ويسعى إلى الانفصال. إن الكرد هم إخواننا في الدين وشركاؤنا في الوطن، وهم مسلمون متدينون في جملتهم، ولكنهم يعانون من الجهل والتغريب اللذين عانى منهما أهلُ سوريا جميعاً بسبب الحكم البعثي الأسدي الطائفي، الذي ظلّل سوريا بظلاله الكئيبة خلال العقود الخمسة الماضية.
لا بد أن في الأكراد يساريين وقوميين أصوليين يعادون العربية والإسلام، ولكنهم قليلون، وللأسف فإنهم هم الذين يحظَون بالدعم الغربي والرعاية الخارجية، مما جعلهم مسيطرين على الأكثرية الوطنية المتديّنة. ولا بدّ أن في الأكراد قلّةً يريدون الانفصال ويسعَون إليه، لكن الأكثرين يريدون البقاء ضمن الدولة السورية. وهؤلاء لا تتجاوز أقصى أمانيّهم جموحاً الحصولَ على نوع من اللامركزية، وهي مشكلة هيّنة نسبياً، يمكن حلها ضمن معادلة مُنْصفة لسكان الشمال الشرقي السوري كلهم دون التضحية بحقوق الجماعات المختلفة ولا بوحدة سوريا وهويتها الجامعة.
-4- آن الأوان لإنصاف الأكراد من ظلم السنين الطوال، فلا يجوز أبداً أن يبقى مليونا إنسان محرومين من حقوقهم الثقافية أو يتعرضوا للتمييز والرفض والنفور. وليس هذا بمألوف في ثقافة أهل “الشام الكبرى” الذين فتحوا بلادهم منذ الأزل لكل مُقْبل إليها وافِد عليها، فلم يشعر بالغربة بينهم غريب، إنما كان هذا التمييز والإقصاء من ثمرات الديانة البعثية القومية التي كان السوريون كلهم ضحايا لها بدرجات، أعلاها المحنةُ التي تعرض لها إخواننا الأكراد، فحُرموا من لغتهم وثقافتهم وأسماء أولادهم وبناتهم ومدنهم وقراهم، وبلغ الظلم غايتَه بحرمانهم من الجنسية السورية.
ما لم يُمنَح أكرادُ سوريا في الدولة الحرة المستقلة الجديدة حقوقَهم اللغوية والثقافية والسياسية الكاملة فسوف يصبحون هدفاً سهلاً لأعداء سوريا ومدخلاً من مداخل الاختراق، وهي قاعدة تنطبق على سائر الأقليات في سوريا كما تنطبق على الأقليات كلها في كل بلد من بلاد الدنيا، وإنّ في التاريخ لَعبرةً لمن أراد الاعتبار، فما أكثرَ ما تدخل الأعداء والأجانب في بلادنا بذريعة حماية الأقليات.
-5- إن التردّدَ في إنصاف إخواننا الكرد السوريين واستعداءهم جميعاً بسبب الجرائم التي يرتكبها فريق منهم سيفتح على سوريا بابَ التدخل الخارجي القبيح. ولكنني لا أدعو إلى إنصافهم والمبادرة لمنحهم حقوقَهم الطبيعية لهذا السبب حصراً، بل لسبب أخلاقي وديني في المقام الأول، فإن حرمانهم من حقوقهم وأخذ عامّتهم بجريرة القلّة منهم ظلمٌ لا شكّ فيه، والظلم قبيح مردود في الميزان الأخلاقي والشرعي على السواء.
لا يجوز أن يتأخر ثوارُ سوريا وأحرارُها في حسم هذا الملف الخطير فيما تعبث به أيادي الأعداء في السر والعلن، فلتبادر القُوى الثورية الممثلة للثورة (وعلى رأسها المجلس الإسلامي السوري) إلى إصدار إعلان يُقِرّ لأكراد سوريا بحقوقهم الثقافية والسياسية الكاملة، ويتضمن هذا الإقرارُ الاعترافَ بلغتهم واحدةً من اللغات الوطنية في سوريا، وضمانَ الجنسية السورية للكرد السوريين جميعاً.
بالمقابل فإننا نطالب القوى الثورية الكردية الوطنية بإعلان موقف مبدئي من المشروع الذي تقوده القوى الكردية الانفصالية المعادية لسوريا والمتحالفة مع أعدائها، وبإدانة واضحة لجرائم التطهير العرقي التي تمارسها “واحش” بحق العرب والكرد والتركمان والسريان وغيرهم من المجموعات الإثنية والدينية في شمال سوريا الشرقي، وبالإقرار بانتماء الشعب الكردي لسوريا والاندماج الكامل في الدولة السورية الجديدة المستقلة.