عن طبعة دار جسور لظلال سيد قطب
بقلم: شريف محمد جابر
هناك كلمة ينبغي أن تقال بخصوص إصدار دار جسور لكتاب “في ظلال القرآن” بطبعته الأولى قبل تنقيحات سيّد قطب الأخيرة عليه، وبتحقيق عصام تليمة.
أول ما يقال عن هذا الفعل بأنّه مريب من الناحية العلمية المحضة، فعندما يحقق المحققون اليوم الكتب التراثية، ومنها كتب التفسير، يحاولون الوصول إلى النسخة الأخيرة التي ارتضاها المؤلّف ويقدّمونها بالطبع على ما سبقها من نسخ، بصرف النظر عن طبيعة أفكاره التي أضافها (ودون تجاهل باب دراسة تطور الأفكار).
المنزعج من أفكار سيد قطب التي انتهى إليها بما يعتبره سيّد نفسه زيادة نضج له أن يبدي انزعاجه ونقده لأفكاره، لكن عند عرض سيد قطب وآثاره ينبغي أيضا عرضها كما هي، وبالصورة التي أرادها هو في تعديلاته وتنقيحاته الأخيرة.
لا يوجد في الواقع غير “في ظلال القرآن” واحد هو الذي وضع المؤلف بصمته الأخيرة عليه. هذا كله بصرف النظر عن إبداء الرأي بأفكار الكاتب، فالأمر قد يُحدِث تشوّشا حين تنتشر هذه الطبعة ويُنقل عنها تحت اسم “في ظلال القرآن”، ويكون النقل مخالفا لما ارتضاه المؤلف في الطبعة الأخيرة.
كنت منذ زمن بعيد، في بدايات أيام الدراسة الجامعية، مولعًا بتتبّع آثار الأستاذ سيد قطب رحمه الله، وكانت مكتبة الجامعة توفّر عددا كبيرا منها، وكان من بينها نسخة قديمة من “في ظلال القرآن”، أي أنّ هذه النسخة متوفّرة في بعض المكتبات بل ولعلّ بعضهم قد رفعها على الشبكة كما أذكر، أي أن مادة الطبعة الأولى متوفّرة للباحثين عن تطوّر الأفكار، لكنّ فِعل إعادة صفّ النصّ القديم وإصداره بطبعة تسمّى “جديدة” وهي لا تأخذ بعين الاعتبار آخر تعديلات المؤلّف؛ هو فعل غير علمي، ويحمل في ثناياه أبعادا أيديولوجية تتعلّق بنظرة المشرف على المشروع إلى الدين التي من الواضح أنّها مخالفة إلى حدّ بعيد لِما انتهى إليه سيد قطب رحمه الله. أو أنه يريد إظهار سيّد قطب بصورة يرتضيها هو له، مع أنّنا لا يمكننا أن نخالف التاريخ وعلينا أن نعرض فكر الرجل بأمانة، سواء اتفقنا معه أم لم نتفق.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى ينبغي على القراء أن يعرفوا ما الذي أضافه سيد قطب وأين ولماذا؟ ولِمَ تحمّس عصام تليمة إلى إصدار “في ظلال القرآن” قبل تلك الإضافات؟
بحسب كتاب “مدخل إلى ظلال القرآن” للدكتور صلاح الخالدي، وهو جزء من رسالته للدكتوراة، فقد كتب سيد قطب الظلال في ثلاث مراحل:
– المرحلة الأولى: مقالات في مجلة “المسلمون” بدأها في شهر شباط 1952، ووصل فيها حتى الآية 103 من سورة البقرة. ثم أعلن عن توقف الحلقات لأنّها سينشرها في كتاب مستقبلي في دار إحياء الكتب العربية.
– المرحلة الثانية: وهي قبيل اعتقاله، وقد ظهر الجزء الأول من الظلال في تشرين الأول 1952، وبين تشرين الأول 1952 وكانون الثاني 1954 أصدر 16 جزءًا من الظلال.
– المرحلة الثالثة: إكماله للظلال في السجن، فقد سجن للمرة الأولى في 1954 لثلاثة أشهر وأصدر فيها الجزئين السابع عشر والثامن عشر. ولم يلبث طويلا خارج السجن حتى أعيد إليه بعد حادث المنشية. لم يكتب في الفترة الأولى شيئا من الظلال. ولم يكمله حتى هدأ التعذيب وحكم عليه 15 عشر عامًا واستقرّ في سجن “ليمان طرة”. وكان الشيخ محمد الغزالي في تلك المرحلة رقيبًا دينيّا يُعرض عليه الظلال قبل طبعه، ولم يحذف منه إلا تعقيب سيد قطب على تفسير سورة البروج، حيث أشار فيه إلى التعذيب الذي لقيه هو وصحبه في السجن (نُشر لاحقا تحت عنوان “هذا هو الطريق” مع تغييرات طفيفة في العبارة في كتاب “معالم في الطريق”).
في هذه المرحلة تعمّقت تجربة سيد قطب الدينية والروحانية، وقد ذكر ذلك في رسائل أرسلها لبعض أصدقائه، تحدث فيها عن كونه يجد نفسه خيرا من أي وقت مضى في عقيدته وإيمانه، ووضوح العقيدة والإيمان في قلبه، ووضوح إدراكه وتصوره لهذا الأمر ومقتضياته، ووضوح الهدف والوسيلة والطريق والغاية. وقال إنه وجد الله كما لم يجده من قبل، وعرف منهجه وطريقه كما لم يعرفه من قبل قط. ولا شكّ أن هذا قد أضاف إليه الكثير في كتابة الظلال، بل قال عنه شريكه في زنزانته مصطفى العالم في مقال له: “فها هو يجوب الزنزانة كل يوم، يذرعها قارئًا لسورة من كتاب الله بصوت عذب رخيم، ومعه قلمه يدوّن به كل ما يخطر له من خواطر وأفكار على هامش المصحف، وهو فرح مسرور بما يجول في خاطره من معانٍ جديدة لم تكن تلامس ذهنه قبل أن يدخل السجن ويأنس فيه بكتاب الله”.
وفي ظل ذلك تحوّل القرآن عنده من معان مدركة إلى حقائق متذوّقة معاشة، وقد ذكر ذلك في تفسيره لقوله تعالى من سورة فاطر: {ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها، وما يمسك فلا مرسل له من بعده} (وهو مما كتبه في تلك المرحلة) حيث قال: “يسّر الله لي أن أطّلع على حقيقتها، وأن تسكب حقيقتها في روحي، كأنّما هي رحيق أرشفه وأحس سريانه ودبيبه في كياني، حقيقة أذوقها لا معنى أدركه. فكانت رحمة بذاتها تقدّم نفسها لي تفسيرا واقعيّا لحقيقة الآية التي تفتّحت لي تفتّحها هذا. وقد قرأتها من قبل كثيرا، ومررت بها من قبل كثيرا، ولكنها اللحظة تسكب رحيقها، وتحقق معناها، وتنزل بحقيقتها المجرّدة وتقول: هآنذا.. نموذج من رحمة الله حين يفتحها، فانظر كيف تكون…”. كما ذكر شيئا من هذه المعاني في مقدمّة الطبعة المنقّحة من الظلال فقال: “الحياة في ظلال القرآن نعمة. نعمة لا يعرفها إلا من ذاقها. نعمة ترفع العمر وتباركه وتزكّيه.. والحمد لله.. لقد منَّ عليّ بالحياة في ظلال القرآن فترة من الزمان، ذقتُ فيها من نعمته ما لم أذق قط في حياتي. ذقتُ فيها هذه النعمة التي ترفع العمر وتباركه وتزكيه…”.
وفي ضوء ذلك كله لم يعد الظلال “تسجيلا لخواطر متنوّعة حول الآيات، وبيانا لما فيها من جمال وفن وتصوير، وعرضا لما تضمّنته من مبادئ ومناهج وتشريعات” كما يقول الدكتور صلاح الخالدي، فبعدما طالت حياته في ظلال القرآن، وتعمّقت تجربته العملية وفّقه الله إلى إدراك طبيعة هذا الدين الواقعية الجدية والحركية. وقد فسّر الأجزاء الثلاثة الأخيرة من الظلال وفق منهجه الحركي الجديد، ثم قرر إعادة النظر في تفسير الأجزاء الأولى لإعادة تنقيح الظلال على أساس هذا المنهج، فكانت الطبعة الثالثة المنقّحة. وما ميّز هذه الطبعة – بحسب الدكتور الخالدي – كان وقوفه الطويل عند الآيات، وتسجيل كل خواطره حولها، وتعرضه للحديث عما توحي به من قضايا في العقيدة والحركة، أو الفقه والتشريع، أو السياسة والاقتصاد، أو التاريخ والاجتماع، أو غير ذلك. وكانت أطول وقفاته وأعمقها وأنضجها، تلك التي تتعلق بالعقيدة والحركة، والألوهية والعبودية، والحاكمية والتشريع.
ويذكر الدكتور الخالدي أيضا أن الجزء السابع كان أكثر الأجزاء تركيزا وأنضجها فكرا، حيث توسع في الحديث عن العقيدة ومباحثها، في مقدّمته المطوّلة لسورة الأنعام، وأثناء تفسيرها.
والآن، تخيّلوا الآن أن يأتي رجل عام 2022 يريد تجاوز هذه التجربة الثرية كلها، وإعادة طبع “في ظلال القرآن” وترويجه بطبعته الأولى التي خلتْ من كل ذلك! هل يرضى مؤلّف أن يُفعل هذا بكتبه؟ وهل يعبّر تليمة بهذا الفعل عن تقديره فعلا لفكر الأستاذ سيد واحترام حقّه في التعبير عن رأيه؟ وما المشكلة في أن يبقى الظلال في نسخته المنقّحة الأخيرة، فتكون الخواطر القديمة بجوار الخواطر الجديدة؟
لهذا كله أقول إنّ فعل تليمة لا يخلو من أدلجة، فهو يحب سيد قطب ولكنه – كما يبدو – يريد ظلالًا بغير هذا المنهج الحركي الذي يركّز على مسائل الحاكمية وارتباط العقيدة بالشريعة كما اتّضح في تجربة سيد قطب الناضجة بعد طول معايشته للقرآن وخوضه للتجارب وزيادة عقله وحكمته.
أما الحديث عن سوء حالته النفسية بسبب التعذيب فكل من قرأ سيد قطب مع قراءة تطوّره الفكري وتجربته الحياتية وكيف كان يكتب يدرك أنّ الرجل حافظ على اتّزانه حتى آخر لحظة في حياته (انظر مثلا كتاب “مقومات التصور الإسلامي” وهو آخر ما كتب سيد قطب)، بل صارت كتاباته أعمق وأبعد عن الانفعالية التي تميّزت بها مقالاته القديمة في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي.