#خطبة_الجمعة #الشيخ_محمد_أبو_النصر
من دروس سورة الكهف (5)
فتنة العلم ومسمَّى السياسة الشرعية!!
(صفحات سوداء من صفحات تدمير الجهاد والأمَّة بدعوى السياسة الشرعية)
التاريخ: 16/ جمادى الآخرة/1437هـ
الموافق: 25/آذار/2016م
المدة: 32 دقيقة
الأفكار الرئيسة في الخطبة الأولى:
1. حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ.
2. دروس التاريخ عبرةٌ لأولي الألباب.
3. تاريخ النصيرية وأمثلةٌ من إجرامهم.
4. قصَّة تيمور لنك مع ابن مفلح، وخراب دمشق.
5. تجاربنا مع المفاوضات من مطلع القرن العشرين إلى اليوم.
6. نصف ثورة يعني تدمير البلد والقضاء على الثورة والثوار.
7. مؤتمر جنيف، لم نوكِّل أحدًا ليوقِّع ورقة استسلامنا.
الأفكار الرئيسة في الخطبة الثانية:
8. خطورة انشغال طلبة العلم بالجزئيات والصغائر على حساب الكليَّات والعظائم، عيد الأم على القنوات العربية مثلًا
لتحميل الخطبة كتابيا بصيغة PDF
تابعوا كل مميز عبر قناتنا على التليغرام على الرابط التالي
https://telegram.me/do3atalsham
* ملاحظة: ما بين معكوفتين [ ] فهو شرح مُدرج في سياق ذِكرِ الدليل.
الخطبة الأولى
الحمد لله مُعِزِّ الإسلام بنصره، ومذلِّ الكفرِ بقهره ومصرِّف الأمور بأمره، ومُديم النِّعمِ بشكره. الذي قدَّر الأيام دُولًا بعدله، فاستدرج الكفار بمكرِه وجعل العاقبة للمتقين بفضله، وأظهر دينه على الدين كُلِّه.
القاهرُ فوق عبادهِ فلا يُدافع، والظاهر عليهم فلا يُمانَع، والآمرُ بما يشاء فلا يُراجع ولا يُنازع، أحمَدُه جلَّت قدرته وعزّ سلطانه وأعوذ به مما أحاط به علمه وأحصاه كتابه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، شهادة من طهَّر بالتوحيد قلبه، وأرضى بها ربَّه، وأشهد أنَّ نبيَّنا محمداً عبده ورسوله رافِعُ الشكِّ وداحِضُ الشرك، بلّغ الرسالة وأدّى الأمانة ونصح الأمّةَ وكشف الله به الغُمّة، وأقام في الناس كلمة التوحيد، مَن آمن بها وعمل بمُقتضاها فقد أفلح وفاز فوزاً عظيماً، فصلوات ربِّي وسلامه عليه وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين وأصحابِه الغُرِّ المحجَّلين ومن سار على دربهم واهتدى بهداهم وتبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد إخوة الإيمان:
لقاؤنا بكم يتجدد ونحن نتدارس أصول الفتن التي ذكرتها وبيَّنتها سورة الكهف، وقد كان آخر العهد بكم الحديث عن فتنة العلم… والحديث عن هذه الفتنة يطول، والحديث عن هذه الفتنة له شجون، كيف لا!؟ وهي التي قصمت ظهر ثورتنا … وقد تحدَّثنا في اللقاء الماضي عن فتنة العلم التي أغرت بعض المجاهدين بدماء بعض، تحدَّثنا عن فتنة العلم التي نمَّت الشقاق والنفاق والفرقة، وحديثنا اليوم عن فتنة العلم التي يقع فيها بعض السياسيين، وبعض المتظاهرين بالحكمة فيقعون في هذه الفتنة إذ تُزيِّن لهم شياطين الإنس والجنِّ الباطل، فيحسبونه من السياسة الشرعية، والله تعالى مخاطبًا نبيَّه معلِّما لنا معاشِر المسلمين: (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ) (البقرة:120)
حديثنا اليوم أيُّها السادة عن فتنة العلم التي يقع فيها بعض الساسة وبعض العلماء، حديثنا اليوم أيها السادة والمؤتمر قائمٌ (مؤتمر جنيف ثلاثة) ولا ندري فلعلنا نبلغ يومًا نسمع فيه بمؤتمر (جنيف ثلاثين) … وإن حُلَّت قضيَّت فلسطين وعادت حقوق الفلسطينيين بالمؤتمرات، فستحلُّ الأزمة السورية بالمؤتمرات!! والله تعالى علَّمنا مُنبِّهًا نبيَّه قائلًا: (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) ثمَّ هدَّده ربُّنا محذِّرًا: (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ) فإذا كان هذا الخطاب وهذا التحذير وهذا التهديدُ والوعيد للنبيِّ فكيف بمن هو دونه من المسلمين؟!
إذا كان النبي يقول الله له: (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ) (البقرة:120)
فكيف بنا إن اتبعنا نحن أهواءهم من بعد ما جاءنا من العلم!! بل ثمَّ بعد ذلك نتمنَّى أن يكون لنا من الله وليٌّ أو نصير!!
كيف نطلب النصر بمعيَّةِ أولئك والله تعالى حذَّرنا وأخبرنا من حال أولئك القوم قائلًا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ [يريدون لكم العذاب والمآسي، سنواتٌ طويلة، عشرات السنين وأنتم تُسامون سوء العذاب على مرأى ومسمع دول العالم، ولم يحرِّكوا ساكنًا، ولم تتحرك إنسانيتهم، المهمُّ أن تبقى مصالحهم قائمة… ] قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) (آل عمران: 118)
بيَّن الله لكم الآيات إن كنتم تعقلون إن كنتم تتفكرون، فلتعملوا عقولكم أيُّها الناس فلا تجرِّبوا المجرَّب، ولتتفكَّروا في دروس التاريخ ففيها العظة والعبرة، وما أكثر دروس التاريخ لو أردنا عدَّها، وما أكثر دروس التاريخ لو أردنا ذكرها …
من أين أبدأ لكم الحديث بضرب الأمثلة عن تاريخ النصيرية المجرمين وحلفائهم من الشيعة الرافضة؟؟
أأبدأُ لكم من القرن التاسع الهجري سنة (802 ثمانمئة واثنتين للهجرة) يوم أتى تيمور لنك (تيمور الأعرج) أتى بجيوش التتار وقد كانوا من الشيعة الرافضة، أمَّا تيمور فقد كان من النصيريَّة الحاقدين، أتى بجيوش التتار من بلاد ما وراء النهر (من الدول التي نسمِّيها اليوم أوزبكستان وتركستان وأفغانستان …)، أتى بهم ليجتاح ديار المسلمين، ليجتاح ديار أهل السنَّة، أتى بهم وإن كانوا مختلفين نظريًّا عن تتار الحملة الأولى (الذين دخلوا بغداد وخربوها بقيادة هولاكو) فأولئك الأوَّلون كانوا وثنيين، أمَّا تتار تيمور فقد كانوا شيعةً حاقدين، ومع ذلك لم تختلف ممارساتهم ولا وحشيتهم، ولا حقدهم تجاه أهل الإسلام …
أتى تيمور، فبلغ بلاد الشام، بلغ حلب، وقد كان أميرها يومئذِ نصيريًا، كما كان تيمور، وهذا بشهادة الكتَّاب النصيريين أنفسهم، [ومنهم في عصرنا غالب الطويل، إذ يقول في كتابه تاريخ العلويين بأنَّ تيمور لنك كان نصيريًا من طائفتهم]، فلما بلغ تيمور حلب، وقد كان أهلها عزموا العزم على قتاله، فأعانه أميرها على دخول حلب، فأعمل في أهلها قتلًا شنيعًا، فقتل عشرات الآلاف منهم، وجعل من رؤوسهم أربع تلالٍ عظيمة يراها الناظر من خارج حلب، ثمَّ سبى نساء المدينة ونهبها، وكلُّ ذلك بمساعدة ذلك الأمير النصيري الذي أدخله حلب…
ورحم الله شيخ الإسلام ابن تيمية، إذ ذكر في فتواه حول النصيرية ومن شابههم من الطوائف الباطنيَّة بأنَّهم لا يستأمنون على ثغرٍ من ثغور المسلمين، فغدرهم بأهل الإسلام معروفٌ ومشهور، وهو دينٌ يتقربون به لأربابهم… ولكنَّ الناس لم تسمع لكلام العلماء ولا لكلام الناصحين، حتى رأوا بأعينهم العذاب الأليم …
ثمَّ سار تيمور إلى دمشق فبلغها سنة (803 ثمانمئة وثلاثة للهجرة) فماذا حصل في دمشق؟؟ ومازال حديثنا عن فتنة العلم، وعن فتنة السياسة الشرعية… وفتنة دمشق صفحة سوداء من صفحات تدمير الجهاد والأمَّة بدعوى السياسة الشرعية
[***انظر القصَّة تفصيلًا في كتاب النجوم الزاهرة في ملوك مِصر والقاهرة، لابن تغري بردي]
سار تيمور إلى دمشق، فسمع أهلُها بمقدَمِه واستعدَّوا وتجهَّزوا لقتاله… أمَّا أمير دمشق وحاشيته – جواز سفرهم كان جاهزًا !! – غادروا دمشق إلى مِصر وبقي نائبه في القلعة، وبقي أهل الشام بلا جيشٍ نظاميٍ يحميهم، فرتَّبهم نائب امير القلعة وتجهَّز الناس واستعدُّوا للحرب، وأحكموا أسوارهم وتحصيناتِهم، ووصل تيمور بجيوشه إلى محيط دمشق، وحاولت قوَّةٌ من جيش تيمور أن تدخل بوابة دمشق فردَّهم المسلمون وقتلوهم شرَّ قِتلة … احتار تيمور في أمره، كيف سيدخل الشام، وقد استعدَّ الناس للجهاد، وعقدوا العزم على دفعه … تفكَّر ذلك النصيري الخبيث في الأمر، وهو النصيريُّ قائد جيش الروافض، وهو الذي رُبِّي على التُّقيا وعلى الغدر بأهل السنَّة وعلى إظهار أمرٍ وإبطان غيره، فما كان من ذلِك الخبيث إلَّا أن أرسل رجلين من أتباعه بجوار سور دمشق منادين بأنَّ تيمور يريد أن يؤمِّن أهل دمشق وأن يدخلها مسالِما، وأنَّه لن يفعل بأهلها كما فعل بمدن الشام الأخرى … وطلبوا أن يُرسل أهل دمشق معهم رجلًا حكيمًا ليُفاوض تيمور، وليتفق معه … فنظر أهل الشام في حالهم وتشاوروا في الأمر، فرفض أمير القلعة عرض تيمور وتوقَّع بأنَّه خدعة، وقرَّر أهل دمشق أن يرسلوا ابن مفلحٍ الحنبلي، وكان حينها قاضي قضاة دمشق، (وهذا للدقَّة العلمية غيرُ ابن مفلح الذي عاصر ابن تيميَّة رحمه الله بل هذا حفيده)… قالوا نرسل قاضي القضاة، صاحب المؤلَّفات وصاحب الفهم، فذهب الرجل العالِم وأنزلوه من السور، (على ما يُعرف عن مشايخ الشام من اللطف واللين) فاستقبله تيمور وأحسن استقباله وألان له الكلام وتأدَّب معه مُحسِنًا ضيافته قائلًا: “يا شيخ المسلمين، أنا مسلمٌ أشهد شهادة التوحيد، وما أتيت إلى الشام إلّا معظِّمًا لقبور أصحاب النبي وآل بيته الذين دفنوا في الشام، أدخلوني الشام بسلام وتأمنون على أنفسكم….”
وبعد معسول كلام تيمور، اغترَّ ابن مفلِحٍ بكلامه وانطلى عليه خداع تيمور، فذهب إلى الشام وبدأ يخذِّل الناس عن القتال محدِّثًا لهم عن تواضع تيمور وأدبه وأنَّه أتى الشام تعظيمًا لمقامات آل بيت النبي ، ولتلاحظ معي أخ الإسلام كيف يتشابه، بل كيف يتطابق هذا الكلام مع كلام الشيعة الروافض الغزاة اليوم بعد أكثر من ستة قرون… أولئك التتار الروافض أتوا إلى دمشق حاقدين بعد أن أرسل لهم النصيريَّة المجرمون أربعين من بناتهم دخلوا على تيمور يبكين وينتحبن، بدعوى أنَّ أهل دمشق وحلب يتعمّدون الإساءة إلى آل بيت النبي ومزاراتهم !!! يا للسخرية نفس التمثيلية تتكرر بعد أكثر من ستة قرون بدعاوى من أتى يحتلُّ أرضنا ويسفك دماءنا وهو ينادي (يا زينب!!) وهو يدَّعي أنَّه أتى لحماية المزارات الشيعية!!
وهكذا فعل تيمور، وغزا دمشق، حاقدًا على أهلها بعد ما سمع من تلك النسوة … وكان ما ذكرنا من لقائه مع ابن مفلح، الذي أخذ يحدِّث الناس ثانيًا لهممهم عن القتال، بحجة أن يأمنوا على الأموال والدور والأنفس [ نأمن على المصانع، نأمن على الورش، نأمن على التجارات …] فانقسم الناس قسمين، قومٌ يريدون السلم والمسالمة والاستسلام، وقومٌ يريدون الجهاد ودفع العدو بالتضحية والفداء، ونائب الأمير في القلعة ومعه بعض الجنود أبى إلّا القتال ورفض فتح أبواب القلعة…
نام الناس يومها، فأصبحوا وقد غلب رأي أصحاب ابن مفلح، فأرسلوه إلى تيمور لينظر شروطه، فأخبره تيمور بأنَّ عرف الملوك في قومه يقضي بأن يأخذ من كلِّ بلدٍ يدخلها هدايا ومبالغ تدلُّ على خضوع أهل تلك البلدة لسلطانه، وأنَّه عاد منتصِرًا، فطلب من ابن مفلح أن يجمع له الناس عشرة آلاف آلاف دينار (أي عشرة ملايين ليرة ذهبية) فذهب ابن مفلح وأمر من معه بجمع الأموال من الناس طوعًا وكَرها، فجمعت الأموال حتى لم يبق في الشام مال، واشتدَّ البلاء بالناس وغلت الأقوات، فجاع الناس وضاقوا بذلك ذرعًا، وفتحت أبواب سور دمشق الخارجي أمام جيش تيمور، ولمَّا يدخل الشام بعد…
فأخرج له ابن مفلح ومساعدوه المال فما بلغ ربع أو ثُلث ما طالبهم به تيمور، فغضب منهم وعليهم غضبًا شديدًا، وشرط أن يأتوه بكلِّ ما في دمشق من دوابٍّ وسلاح، تعويضًا عن نقص المال …
[ … والآن ومؤتمر (جنيف 3/2016م) قائم سترون أيُّها السادة كيف أنَّ أوَّل الشروط أن يُنزع سلاح أهل السنَّة في الشام، يريدون أن ينقلب أبناؤنا المجاهدون كلابًا مسعورةً تنزع سلاحنا منَّا بالقوة، لكي نعود أذلّةً عزَّلا لا نملك دفع الظلم عن أنفسنا…]نعود لتيمور، وقد طلب كلَّ ما في دمشق، من سلاحٍ ودواب، فوافق أولئك المنهزمون نفسيًّا، وظنوا ذلك حكمةً مِنهم وسياسةً شرعيَّة!! … فخرج ابن مفلح ومنم معه بالسلاح والدواب إلى تيمور، فما كان منه إلّا أخذ سلاحهم، وحبسهم وضربهم وأمرهم بأن يرسموا له خُطط الشام وطرُقها، فرسموها له، فقسَّم طرُق الشام وحواريها بين أمرائه، كلُّ حارةٍ لأمير يفعل فيها ما يشاء، فاستبيحت دمشق، عن بكرة أبيها، فكان الرجل يؤتى به، فتوطئُ امرأته، وتفضُّ بكارة ابنته، ويلاطُ بولده، ويؤخذ ماله أمام عينيه، ثمَّ يُقتل وتحرق داره … وبقي الحال على هذا في الشام ثمانين يومًا، ففعلوا فيها ما فعله حفيدهم حافظ أسد بحماة يوم أباحها أخوه رفعت لجنوده ثلاثة أيام فقتلوا فيها أربعين ألفا … وتيمور الشيعي الرافضي بل النصيري فعل ذلك بأهل دمشق يوم سالموه وسلَّموه سلاحهم وهم يتوهَّمون بأنَّه صاحب عهدٍ وميثاق …
أين هؤلاء الذين يتذرَّعون بالسياسة الشرعية ليقدموا التنازلات اليوم، أين هم من دروسِ التاريخ، أين هؤلاء الذين دبَّ الخور في قلوبهم فوهنت نفوسهم وضَعُفت عزائمهم، فتوهَّموا بأنّا قد استسلمنا … من قال لهم أننا استسلمنا؟!! من قال لهم : بأنَّ هذا الشعب وكَّلهم ليوقِّعوا عنه ورقة استسلامه ؟؟!!
ولعلَّ بعضكم قد يقولُ بأنَّ ما ذكرتُه، من عصورٍ غابرة، من أزمنةٍ لا يُقاس عليه !!
أقول لكم أيُّها الإخوة: بأنَّ دعاة الحرية والمدنية والديموقراطية، أمُّ العلمانية فرنسا، يوم أتت إلى سوريا مطلع القرن العشرين، ثار عليها الشعب السوري ثورته الكبرى سنة (1925م ألفٍ وتسعمائة وخمسٍ وعشرين ميلاديَّة) فماذا حصل حينها؟
قاوم الناس المحتلُّ وقارعوه، فاتبع معهم نفس الأسلوب الذي يتبعه طغاة زماننا، عمدوا إلى إطالة زمن الثورة، حتى يأس العوام، وقلَّ النصير، وعزَّ المؤازِر، فلم يؤازر شعب سوريا أحد إذ كانت الدول العربية كحالها اليوم خاضعةً لدول (الاستعمار) الاستخراب الصليبية … فطالت الحرب سنتين … فبدأت الناس تمل، وبدأت الهمم تفتر، واختلف المجاهدون على الغنائم والمكاسب الدنيوية … حتَّى أتى دور المعارضة السياسية في الخارِج، فتشكَّل وفد المعارضة في بيروت حينها ليتفاوض مع الفرنسيين فعرضت فرنسا التفاوض وقدَّمت ما يعتبره بعض السُذَّج تنازلات: فعرضت أن تُعطي المعارضة حق وضع دستور جديد للبلاد وإجراء انتخابات نيابية وتشكيل حكومة … الحكومة يا حبيبي الحكومة !!
لعلَّ بعضكم نسي أيُّها السادة بأنَّ الوزارة ورئيسها كانت زمن حافظ أسد ومِن بعدِه ابنه بشَّار تتشكل من أبناء الطائفة السنِّيَّة … ولكنَّ مساعدًا في الأمن ( في المخابرات) كان يوجِّه الوزراء ويتحكَّمُ بهم كما يريد …
فرنسا يومها سنَّت هذه السنَّة، فقدمت لهم أن اعملوا انتخابات ودستور وحكومة … المهم أن تهدأ الثورة وأن يقف القتال … وبالفعل هذا ما حصل، توقفت الثورة وانشغل الناس بأشغالهم الدنيوية، وأجريت انتخابات، فنجحت الكتلة الوطنية بالأغلبية في البرلمان فشكَّلت الحكومة، ولكنَّ الجيش، ولكنَّ الأمن، ولكنَّ القوة الحقيقية، والسلطة الفعليَّة بقيت بيد فرنسا، فالسلطة الحقيقية أيُّها الإخوة لمن يملك القوَّة … ماذا حصل بعد ذلك؟ توقف الجهاد، وعاد المجاهدون، وسُحِب السلاح وصودِر، فإذا بالمندوب الفرنسي بعد عامٍ من ذلك يعطِّل الحكومة والبرلمان ويمنعهم من العمل واعتقل بعض الناشطين، وبقي الأمر كذلك بين شدِّ وجذب عشرين عامًا، (مفاوضات ومؤتمرات ولقاءات وانسحابات ومؤتمر بيروت ومؤتمر باريس ومؤتمر كذا و…) ثمَّ ماذا حصل؟
ما حصل أيُّها الأحبة، هو أنَّ فرنسا في تلك الفترة جهزت أزلامه وجنودها، وعملاءها فسلَّمتهم مفاصل الحُكم والسلطة … حلَّت الجيش القديم الذي ربٍّي في مدارس الدولة العثمانية الحربية على فكرة الجهاد، وشكَّلت جيش المشرق، الذي غلبت عليه الأقليَّات الدينية والعرقية، والذي ما زال يحكم سوريا حتى اليوم ويُجرم في حقِّ شعبها … تضخم الفساد وعمَّ التذمُّر، فقام الشعب ثائرًا مرّةً أخرى، سنة (1945م) خمسٍ وأربعين وتسعمائة وألف، وصبَّ الفرنسيون نيران مدافعهم على الشام، فحاولت فرنسا مرَّةً أخرى أن تلعب لعبة المفاوضات ولعبة الإغراء بتشكيل الحكومة (الوزارة) فكتب أمير الشعر أحمد شوقي قصيدته المشهورة يحذِّر أبناء الشام من تلك المكائد، معلِّمًا ومذكِّرًا للجهال بأنَّ نصف ثورة يعني تدمير البلد وفناء الثورة والثوار… ولعلَّه لو كان في زماننا لنبَّهنا بأنَّا إن اكتفينا بنصف ثورة، بحجَّة أن نحمي الناس من البراميل، فهذا يعني بأنَّنا نسلِّمهم نعاجًا للذبح في أقبية مخابرات المجرمين … هذه نتيجة نصف ثورة …
نصف ثورة أيها الإخوة، يعني بأنَّ نصف مليون شهيد قدَّمناهم ذهب دمهم هدرًا، فأولئك الذين بذلوا أرواحهم إنَّما بذلوها لتعيش أنت بعزَّةٍ وكرامة، فنحن قومٌ أعزَّنا الله بالإسلام … تذكروا أيُّها الأحبة بأنَّ ملايين المشردين، وعشرات آلاف بل مئات آلاف الشهداء والأسرى إنَّما قدَّموا دماءهم، ليحيا أبناؤنا من بعدنا حياة كريمةً عزيزة… فحذار حذار من خدع السياسة ومكر الدول ورحم الله شوقي إذ قال حينها:
سَلامٌ مِن صَبا بَرَدى أَرَقُّ *** وَدَمعٌ لا يُكَفكَفُ يا دِمَشقُ
أَلَستِ دِمَشقُ لِلإِسلامِ ظِئرًا *** وَمُرضِعَةُ الأُبُوَّةِ لا تُعَقُّ
بِلادٌ ماتَ فِتيَتُها لِتَحيا *** وَزالوا دونَ قَومِهِمُ لِيَبقوا
بَني سورِيَّةَ اطَّرِحوا الأَماني*** وَأَلقوا عَنكُمُ الأَحلامَ أَلقوا
فَمِن خدَعِ السِياسَةِ أَن تُغَرّوا ***بِأَلقابِ الإِمارَةِ وَهيَ رِقُّ
وَقَفتُمْ بَينَ مَوتٍ أَو حَياةٍ ***فَإِن رُمتُمْ نَعيمَ الدَهرِ فَاشْقَوا
وَلِلأَوطانِ في دَمِ كُلِّ حُرٍّ *** يَدٌ سَلَفَت وَدَينٌ مُستَحِقُّ
فَفي القَتلى لِأَجيالٍ حَياةٌ *** وَفي الأَسرى فِدًى لَهُمُ وَعِتقُ
وَلِلحُرِّيَّةِ الحَمراءِ بابٌ * * * بِكُلِّ يَدٍ مُضَرَّجَةٍ يُدَقُّ
فمن أراد أن يحيا حرًّا عزيزًا كريما، فلا بدَّ له من أن يبذل الدماء، ولابدَّ له من الجهاد، ولابدَّ له من أن يكمل المشوار وأن لا يخون دماء إخوانه … نحن صامدون أيُّها الإخوة بعون الله، ولم نوكِّل أحدًا ليوقِّع ورقة استسلامنا … والله غالبٌ على أمره ولكنَّ أكثر الناس لا يعلمون …
أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه فيا فوز المستغفرين
الخطبة الثانية:
الحمد لله وكفى، وصلاةً وسلامًا على عبده الذي اصطفى، عباد الله، خيرُ الوصايا وصيّةُ ربِّ البرايا: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ) [النساء:131]، فاتقوا الله عباد الله، فبتقوى الله العِصمة من الفتن، والسلامة من المِحَن.
أمَّا بعد أيها الإخوة الكرام: طالما أننا نتحدَّث عن فتنة العلم، فأودُّ أن أختم بملاحظةٍ مهمَّة لكل الناس عامَّة ولطلبة العلم خاصَّة، ألا وهي ضرورة اختيار الكلام المناسب في الوقت والمكان المناسب، ولابدَّ لك أيضًا من أن تهتمَّ وتركِّز على كبار الأمور وعظيمها وأن لا تنشغل بسفاسفها حال وجود الأهم الأعظم …
فلكم تمنَّيت في الأيام الماضية، من علماء ومشايخ الدول العربيَّة الإسلامية، ممن خرجوا على مختلف القنوات يتحدثون عن حكم عيد الأمِّ جوازًا أو منعًا … تمنيتهم لو تكلَّموا عوضًا عن ذلك عن ملايين الأمَّهات الثكلى في أرض الشام … تمنَّيتهم لو شغلوا تلك الساعات بتذكير أقوامهم بملايين الأمهات الثكلى ممن فارقن أبناءهنَّ المشرَّدين أو فقدنهم في سجون الظَلَمة … تمنَّيت من أولئك المشايخ لو تحدَّثوا عن عشرات آلاف الأسيرات اللواتي يُغتصبن ليلًا ونهارًا في سجون الطواغيت، ولكن شغلتهم الجزئيَّات عن الكلِّيات، وانشغلوا بالصغائر عن الكبائر، وبالأحرى انشغلوا بما أذِن لهم طواغيتهم بالحديث عنه … أمَّا الحديث عن الثكالى والأسيرات والمعتقلات في الشام اللواتي لا يجدن نصيرًا … فذاك لا يجوز الحديث عنه …
أيُّها الإخوة الأحبَّة: لابدَّ أن تعلموا بأنَّ جهادكم وثباتكم ونصركم، نصرٌ ونورٌ تترقبه أمَّة الإسلام، إذ ما من مكانٍ اليوم على الأرض يقول العالِم فيه الحق ولا يخاف في الله لومة لائم كمثلِ المناطق المحرَّرة في أرض الشام، فلنجدد يقيننا بالله، ولنرفع عنَّا الخور، وإياكم أن تتأمَّلوا الخير من عدوِّنا عدوِّكم، فلقد خبرناه عشراتٍ من السنين
اللهم انصرنا على أعدائك نصرًا مؤزَّرًا …
إنِّي داعٍ فأمِّنوا