العشائرية في سوريا
من صلة الرحم إلى ألعاب السياسة والجاهلية المنتنة!
الجزء الأول
مقدمة وتوضيح والعشيرة بمعيار الإسلام
المناسبة
الحوداث الأمنية الأخيرة في الشمال المحرَّر وما اعتراها من تجييش عشائري، ومِن قبلها تخصيص مقاعد محددة لبعض العشائر في الائتلاف المعارض، وحوادث أخرى قبلها، تدفعنا بقوة للحديث عن موضوع استغلال رابطة العشيرة واستثمارها بالشكل السلبي بغير وجه حق بعيدًا عمَّا تحمله من معاني سامية من التراحم والتماسك الاجتماعي…
توضيح مهم
وقبل أن أبدأ حديثي أحب أن أوضِّح بأني أتحدث عن سلوكيات واستثمارات لموضوع العشيرة والقرابة على صعيد الوطن والسياسة، وليس حديثي عن فكرة العشيرة بحد ذاتها، فهي في النهاية صلة قربى موجودة في أعراف بعض مجتمعاتنا ومناطقنا العربية، ولكل مجتمع خصوصيته وطريقته في تنظيم علاقاته الاجتماعية…
ولأن مجتمعاتنا بأغلبيتها لا تخرج عن عباءة الإسلام سأبدأ بذكر جملة من الأحاديث النبوية تمثل بمجموعها نظرة المسلم للعشيرة وضوابط علاقته بها، ثم سأنتقل للحديث عن السياسة وعن المجتمع السوري وعن التطورات في هذا الملف مؤخرًا.
العشيرة بمعيار الإسلام
وهنا سأبدأ بالأحاديث النبوية التي حددت لنا كمسلمين معيار التفاعل مع الانتماء العشائري والقبلي… وأشهرها حديثان صحيحان،
ففي البخاريِّ أنّ رجُلًا مِن المهاجرين كَسَعَ رجُلا من الأنصار [كسَعه: أي ضربه على قفاه بيده او رجله] فتنادى الناس يا للمهاجرين ويا للأنصار فقال رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-: “ما بالُ دعوى الجاهلية؟! … دعوها فإنها مُنتِنة”.
وقد صح من قول رسول الله – فيما أخرجه الترمذي – أنه قال: ” تعلَّموا مِن أنسابِكم ما تصِلون به أرحامكم، فإنَّ صِلة الرَّحم مَحَبَّة في الأهل، مَثراةٌ في المال، مَنسأة في الأَثر”.
إذن قرابة العشيرة في الإسلام لصلة الرحم وما يتعلق بها من المشاركة في الأفراح والمواساة في الشدائد والنُّصرة للمظلوم…
أمَّا عصبية الجاهلية وفخرها بالآباء فالقرآن يُذكِّرُنا دائما بتحطيم عصبيات الجاهلية لصالح ولاية الإيمان (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض) وكلَّما قرأنا مذمّة عمّ الرسول صلّى الله عليه وسلّم في القرآن (تبَّت يدا أبي لهَبٍ وتَب) عرفنا معنى أن لا كرامة للقرابة إذا كانت على الباطل الذي يُغضِب الحقّ سبحانه وتعالى.
ولقد جاءت سُبَّة من يفاخر بنسبه على طريقة أهل الجاهلية صريحةً في الحديث الحسن الذي أخرجه الإمام أحمد عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال: “من تعزّى بعزاء الجاهلية فأعِضُوهُ ولا تَكْنُوا”. أي من افتخر تفاخر أهل الجاهلية بآبائه فقولوا له اعضض ذَكَرَ أبيك؛ ولا تَكْنوا: أي لا تتأدبوا معه بل قولوها له بالاسم الفاحش!! كل هذا تنفيرا عن عودة مثل تلك النعرَات إلى المجتمع المُسلِم…
المجتمع المسلم القائم على العدل، حيث لا تنفع العشيرة الكبيرة في الشفاعة للمجرمين، ولعل الكثير منّا يحفظ الحديث الصحيح الذي أخرجه البخاريّ ومسلم عن عائشة رضي الله عنها، أنَّ قُريشًا أهمَّهم شأنُ المرأة المخزومية التي سَرَقت، فقالوا: ومَن يُكلِّم فيها رسولَ الله؟ فقالوا: ومَن يَجترِئ عليه إلا أسامة بن زيد، حِبُّ رسولِ الله. فكلَّمَه أسامة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: “أتشفع في حد من حدود الله، ثم قام فاختطَب، ثم قال: إنَّما أهلك الذين قَبلَكم، أنَّهم كانوا إذا سَرَق فيهم الشريفُ تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيفُ أقاموا عليه الحدّ، وايم الله لو أنّ فاطمةَ بنتَ محمدٍ سرقت لقطعت يدها”.
ومعنى الشريف: أي شريف النسَب، من له قرابة وعشيرة وجماعة هو سيِّدٌ بينهم… وإذا كانت هذه ردَّةُ فعل النبي – صلّى الله عليه وسلّم- على الشفاعة، فكيف تتوقعون ردة فعله على من يحمل السلاح نُصرةً لقريبٍ له أخطأ أو أجرم، فتراه يريد نُصرته في وجه القانون والقضاء؟!!
هذه الأحاديث مجتمعة هي أبرز الأحاديث التي تحدد موقف المسلم من عشيرته، فهي بابٌ لصلة الرحِم وللوساطة بالخير، لا للفخر والتكبُّر والدفاع عن المجرمين الخارجين على القانون…
وللحديث عن ملف العشيرة في المشهد السياسي السوري الحالي تتمة تصلكم في الرسالة التالية إن شاء الله.
الجزء الثاني
المجتمع السوري وخطورة وتداعيات الاستثمار السياسي لملف العشائر
المجتمع السوري
تحدثنا في الجزء الأول من هذه المقالة عن ضوابط الشريعة الإسلامية المتعلقة بفكرة العشيرة، والحمد لله فمجتمعنا السوري تجاوزت الأغلبية العظمى من سكانه مشاكل العشائرية والعصبية الجاهلية، فأكثر من ٨٠% من سكان سوريا يسكنون حواضرها ومدنها الكبرى ولا ينظرون إلى العشيرة إلا من منطلق صلة الرَّحِم…
ولمّا قامت الثورة السورية لم يكن في سنواتها الأولى ذكر لجماعات مسلحة قائمة على القبيلة والتعصب لها خلا بعض المجموعات المغمورة في أقصى شرق سورية، وإن كانت العشيرة حاضرة بقوة في باقي المناطق في إطار فكرة المعونة والمواساة والمساندة، إذ من الطبيعي في الظروف التي يضمحل أو يتلاشى فيها دور الدولة فيها أن يلجأ الناس إلى نُظُم وتكتلات (ما قبل الدولة) لكي تؤمن لهم الشعور بالأمان والحماية…
لكنَّ الخطير في الموضوع هو أننا بدأنا منذ سنوات نشهد تناميًا ملحوظًا لظاهرة التكتلات العشائرية في أوساط أو مناطق أو مجموعات لم تكن تهتم بهذه الفكرة أصلًا! قيل يومها بأن المخابرات البريطانية (بحكم خبرتها التي تتجاوز 100عام في هذا الملف) هي أول من أدخلت يدها في هذا الموضوع انطلاقا من الشرق السوري وصولا إلى المناطق الغربية المحررة، ولكن البريطانيين استعانوا بالطبع بمنفِّذين عرب ليكونوا قنوات التواصل، ثم ما لبثت باقي القوى المتحكمة بالملف السوري أن تنبهت للموضوع وغدت تسعى لاستثمار هذه الظاهرة بقوة.
وبدأ الأمر يتوسع، والأموال لأجل هذا تُصرَف والمؤتمرات في الداخل وفي تركيا تُعقَد، وحصص التمثيل في مؤسسات المعارضة تُحَدَّد وتُفرَض.
وبدأت النزاعات الداخلية على الزعامة التي تتجاوز القضاة والمحامين والأطباء والمهندسين والصناعيين والمثقفين وطلاب العلم الشرعي… من أبناء العشيرة إلى مَن مَلك الأموال، وتفرّغ للديوانيات والولائم والوجاهات أو ورث ذلك!!
الخطورة والتداعيات
تعزيز الظهور العشائري في الواجهة السورية المعارضة للأسد، خُطَّة واضحة، لها عدة تبعات خطيرة على الساحة السياسية للثورة السورية:
- أولها استثمارُها في مصادرة رأي الأكثرية السورية المُتمَدِّنة (وجزء لابأس به منها هم من أبناء العشائر) بمجموعات متكتلة بالعصبية العشائرية، على طريقة حافظ أسد**
- منع أبناء العشائر من دعم من يقتنعون به إذا كانوا مقتنعين بكفاءة شخص من خارج عشيرتهم، ما يعني تعطيل كتلة كبيرة، وتوجيهها إلى خيارات قد لا تقتنع بها.
- عمل شرخ ضمن المجتمع السوري، يُقسِّم المقسَّم، من خلال تخصيص مقاعد خاصة في بنى المعارضة كالائتلاف وغيره للعشائر، وكأن العشائر جزء مغاير عن باقي المجتمع لا يشملها تمثيل سائر أطياف المجتمع في المدن التي توجد فيها!
وهنا قد يسأل ملايين السوريين من أبناء المدن السورية لماذا ليس لنا تمثيل خاص بناءً على عوائلنا؟! والتجاوب مع هكذا أفكار يعني تدمير بنية المجتمع ومزيد شرذمة للسوريين المعارضين للأسد.
- ترويج صورة عن المجتمع السوري وطبيعة علاقاته وبنيته الاجتماعية لوصفه بأنه مجتمع بدائي النُّظُم، غير مؤهل لحياة ديموقراطية حقيقية، فأي ديموقراطية في مجتمع تقوده عصبية القرابة بعيدا عن اعتبارات الكفاءة والنجاح لمصلحة الوطن!
- تصدير رسالة للرأي العام العالمي تؤكد رواية النظام السوري التي تتحدث عن بشار الأسد المجرم الدموي بأنَّه هو ومن معه الواجهة المدنية لسوريا وأنه اضطر لاستخدام العنف في مواجهة تكتلات متخلفة بعيدة عن الدولة والقانون!
- هذه التكتلات ستغدو في القريب العاجل عبء على من غذاها، وستكون عقبةً كبيرة في وجه بسط سلطة مؤسسات الدولة والقانون… والأحداث الأخيرة التي شهدناها في أكثر من منطقة محرَّرة أكبر شاهد على ذلك.
- كما أنَّ هذه التكتلات ستكون عبءً أكبر على من نمّاها وعزَّز وجودها، إذ سيفقد السيطرة عليها بسهولة يوما ما عندما تمد يدها الدول التي تدفع أكثر والتي لديها خبرة أكبر في إدارة هذه الملفات! (وهذه الرسالة بالذات أتمنى أن تصل للحكومة التركية).
وفي الحقيقة إذا كانت تركيا ومن يديرون الملف السوري يتوهمون بأنهم سيحققون مكاسب آنية من خلال تعزيز دور العشائرية في سوريا، فيجب أن ينبَّهوا إلى أنهم بذلك يفتعلون عداوة استراتيجية مع الأكثرية السورية… ويقدِّمون يومًا بعد يوم نماذج في قمة السلبية عن إدارتهم للمناطق الخاضعة لنفوذهم، بطريقة لن ينساها التاريخ كما لم ينسى لغيرهم، (وهذا سأذكر عنه أمثلة خطيرة في مقالة قريبة ان شاء الله).
أختم قائلا بأن العشيرة بالمعنى الإيجابي في المجتمع السوري كانت ولازالت رابطة اجتماعية تضمن تماسك المجتمع وتكاتفه عند الشدائد، وصمَّام أمان يساهم في احتواء الخلافات وحل المشاكل، من باب صلة الرحم وتحكيم العقل تحت مظلة القانون والشرع، أمَّا غير ذلك من الاستثمارات السياسية فهي متاجرةٌ سلبية يستثمر فيها أعداء المجتمع سيكون ضررها أكبر بكثير من نفعها… وحسبنا الله ونعم الوكيل.
** استطراد: كلكم يذكر تناوب آل بري على تمثيل حلب في مجلس الشعب، ومن يراهم ويسمعهم يظن أهل حلب هكذا ثقافتهم وهذه بيئتهم؛ لا تعييرا لأولئك بثقافتهم -وإن عيرناهم بتشبيحهم وتجارتهم للمخدرات وتسليح النظام لهم من قبل الثورة ليقفوا معه فيها- ولكنَّ أهل حلب وأبناء العشائر فيها لم ولن يكونوا كذلك، إنما أراد النظام الأسدي تصدير هذه الصورة!!