حياة ذبابة إلكترونيه
بقلم: محمود الجسري
تخرج منصور من الجامعة وهو بحدود الثالثة والعشرين من عمره وبعد استراحة عدة أشهر بدأ رحلة البحث عن عمل لكنه لم يوفق بإيجاد العمل المناسب لدراسته في إحدى فروع علم الاجتماع أو على الأقل ما كان يطمح إليه.
تنقل بين خمسة وظائف مختلفة خلال ثلاث سنوات ثم انتهى به الحال إلى عاطل عن العمل يتنقل بين المقاهي والاستراحات وسهرات الاصدقاء حتى انفق جميع مدخراته وضاق به الحال فعاود البحث المكثف عن عمل وأتى الفرج أخيرا بعد عدة أشهر حين تم قبوله في مركز لإدارة المعلومات في إحدى الدوائر الحكومية.
كان العمل الجديد بسيط. أعجبه قصر وقت الدوام وسهولة الأداء. كان كل ما عليه فعله هو استلام بعض الرسائل البسيطة من مديره في العمل ثم إعادة إرسالها إلى أكبر عدد ممكن من المجموعات والأفراد التي كان يتم إضافته إليها أو يُطلب منه محاولة الدخول والانضمام لها إضافة لقائمة من مواقع التواصل الاجتماعي المرتبطة بعدة حسابات.
في فترة التدريب قالوا له أن ما يقوم به هو واجب وطني للحفاظ على سمعة الوطن أو تشويه صورة أعداء الوطن أو إلهائهم وتشتيت أفكارهم أو حتى غرس أفكار جديدة في أوساطهم.
تجاوز فترة التدريب بنجاح وأحب عمله الجديد خاصة بعد تجارب السنوات الماضية التي استهلكت بعضا من عمره.
أتاح العمل الجديد لمنصور شراء بيت والزواج وأصبح لديه ولدين وبنت وتطور في السلم الوظيفي حتى أنه خلال سبع أعوام ترقى بين عدة أقسام ثم أصبح مديرا لقسم يحوي 20 موظفا وأصبح لديه إطلاع أكبر على ما يجري في ذلك المركز وأقسامه المختلفة التي كان أولها قسم الأخبار العامة الذي يقوم بمجرد نشر أخبار عامة هدفها تحسين سمعة الوطن والقائد ثم كان هناك قسم الأخبار الغريبة التي كان هدفها الإلهاء وإضاعة وقت بعض المجموعات فقط وملحق به قسم الأخبار الحقيقية التافهة التي لا تفيد في شيء إلا إضاعة الوقت وتشتيت انتباه الهدف ومما لفت انتباهه أيضا القسم الديني حيث كان الشغل الشاغل للموظفين في ذلك القسم إثارة المواضيع التي تثير الجدل الديني باستمرار والتركيز على المواضيع المثيرة الجاذبة للناس وكان يعاد تدويرها بشكل مستمر كأنها مجدولة لإبقاء عدد كبير من الناس مشغولين بها عن ما يفعله أفراد عائلة الحاكم وما يحصل من ظلم في البلاد على العباد.
بعد تلك المرحلة كان هناك قسم للأخبار المضللة التي هدفها غرس معلومات خاطئة أو إثارة بلبلة وجدل وحتى مشاكل بين عدة فئات من الشعوب والأديان والأعراق.
الذي لم يستوعبه منصور لفترة طويلة هو تفاعل بعض الناس مع كل هذه المعلومات وكيفية تطوعهم لنشرها وحماس البعض لإعادة تدويرها وتحويلها لأحاديث في المجالس والمنتديات والتجمعات مما يضاعف التأثير بشكل كبير.
بعد عشر سنوات من العمل في المركز واكتساب الثقة أصبح لديه بعض الاطلاع على أقسام ومجموعات الجيش والامن والاستخبارات التي كانت توجه كل المجموعات التي في ذلك المركز وغيره وتقوم بالتجسس وتحليل المعلومات.
خلال تلك الفترة مات قائد البلد الذي قام بتأسيس المركز وتحولت القيادة لشخص أخر كان واضح الاستبداد والقسوة حيث أنه قام بتصفية جميع المعارضين خلال فترة قصيرة وسيطر بالحديد والنار على كل مراكز القوة والتأثير في البلد ومن أهمها مراكز المعلومات بالطبع وأصبح معظم عمل الموظفين يتعلق بالدفاع عن سمعة القائد الفذ المفدى لأن سمعة البلد مرتبطة بشخصه كما أخبروهم وأصبح هناك قسم للمجموعات الخاصة في المركز يقوم بعمليات تتعلق بالتجسس والاختراق وتلفيق قصص وفيديوهات تشوه صورالمعارضين وعائلاتهم أو حتى تصفية بعضهم.
كان منصور يراقب كل ذلك وكان هناك شيء داخله يرفض ما يحدث ويريد الابتعاد ويشعر أنه مع كل هذه التسميات والمناصب ما هو إلا جزء مما يطلق عليه مجموعات الذباب الإلكتروني ولكن تعقيدات الحياة وقساوتها وقلة الموارد ومتطلبات عائلته كانت تفرض عليه البقاء في الوظيفة، إضافة لتطوره في السلم الوظيفي وإغراء المناصب والترقيات الجديدة.
كان ذلك أيضا يتطلب منه الدوام لفترات أطول والابتعاد عن أسرته وأولاده وعندما يجتمع بهم أو بأصدقائه القدامى كان يشاهد كيف أنهم مصدقين ومتأثرين بالأخبار التي يقوم المركز بنشرها في أوساط الشعب وهو يعلم أنها مجرد أكاذيب لتلميع صورة القائد وكان ضميره يؤنبه ولكنه لم يكن يظهر الحقيقة لأحد حتى أقرب الناس إليه. كان أيضا يحس أن كل هذا الكذب والتلفيق يؤثر على حياته وأخرته سواء في فقد البركة في حياته المالية وعلاقاته الأسرية أو بعد موته وتفكيره كيف سيكون حسابه عندما يسأل كيف جمع ماله وكيف أنفقه وكيف قضى وقته في الدنيا. كان أيضا يشعر بحسرة داخلية غريبة عندما يشاهد أصدقائه الأحرار الذين اختاروا العمل التجاري أو حتى المعارضين الذين رفضوا الذل وهاجروا وتجاوزوه فكريا وماديا بمراحل كثيرة وكان ينوي التوبه بعد تقاعده أو على الأقل الاستقالة بعد الانتهاء من مشروع بناء بيته الجديد الفخم.
تجاوز منصور الخمسين بعدة سنوات وذات صباح لم يستيقظ من نومه.
لم يكن به أي مرض ولكن الطبيب الذي أكد موته أخبرهم أن قلبه قد توقف وأن وقته قد حان والأعمار بيد الخالق مع بعض كلمات التعزية اللطيفة.
أجرى أولاده وأقاربه عملية الدفن ولم يستطع زملاء عمله الحضور لانشغال البعض بعمليات جديدة لتلميع صورة ابن القائد المفدى بعد دهسه عدة فقراء بسيارة جديدة والبعض الأخر لأسباب أمنية ولكن حضر واحد من زملاء العمل السابقين الذي استقال من ذلك المركز بحجة ايجاد عمل تجاري حر وعندما سأله أحد الفضوليين، ماذا كان يعمل المرحوم؟
أجاب: المتوفى كان ذبابة إلكترونية.