المصدر: مدونة المؤرخ م. محمد إلهامي
في ظلال الحج
- الحج.. فريضة في قلب الصراع الحضاري
1- الشهادتين
2- الصلاة
3- الزكاة
4- الصيام
5- الحج - كيف نظر المستشرقون والغربيون إلى الحج؟
1- المستشرقون والحج
2- الرحلات الغربية إلى الحج - الحج.. الفريضة المقاوِمة
- الحج الممنوع والقلب المفجوع
- هذا يوم عرفة.. اليوم الفارق بين تجديد الدين وتحريفه
- الرحلات الحجازية.. عالم من المتعة
- كتب متعلقة بالحج تأليف د. محمد موسى الشريف
1- الرحلات الحجازية
2- المقالات النفيسة في الحج إلى الأماكن الشريفة
3- الشوق والحنين إلى الحرمين
1- الحج.. فريضة في قلب الصراع الحضاري
أركان الإسلام من أظهر الفوارق ودلائل التناقض بين طبيعة الإسلام ومنهجه وبين الفكر الغربي المادي ونموذجه الحضاري.
1- الشهادتين
إن النطق بالشهادتين يرتب أوضاعا جديدة قانونية وشرعية وحقوقية لمن تلفظ بهما في الدولة الإسلامية، لأن قاعدة الدولة الإسلامية وصلبها وروحها وقطبها هو “الدين”.. مع مساحة واسعة من الحرية والتسامح مع الأديان الأخرى، ولكن في ظل الهيمنة الكاملة للإسلام.. ولئن كان ثمة خلاف حول تولي غير المسلمين وظائف مهمة في الدولة الإسلامية، فإن الذي لا خلاف فيه بين العلماء هو هيمنة النظام الإسلامي على وظيفة الدولة.
بينما لم يزل الأساس النظري (ودعنا الآن من الأوضاع العملية) في النموذج الغربي أن يكون الدين أمرا شخصيا بحتا.. ومن المكفول لكل أحد أن يتنقل بين ما شاء من الأديان، أو يخرج من دين ثم يعود إليه ثم يخرج منه، أو أن يبقى بلا دين بالكلية.. ذلك أن عمود هذا النموذج هو “الدولة” لا الدين! ففي حين يتحسس النظام الإسلامي لكل ما يهدد “الدين”، بل ولا يعتبر تهديد الدولة الإسلامية نفسها خطرا إلا لكونه تهديدا للدين التي هي قائمة على شأنه.. يكون النظام الغربي حساسا لما يهدد “الدولة”، ولهذا فإن قانون “الدولة” يعاقب على كل ما من شأنه تقسيمها أو إنشاء كيانات لا تعترف بسلطتها أو التعامل مع أطراف تعتبرهم تهديدا لها أو الدخول في مساحات تراها الدولة من خصوصياتها واحتكارها.
2- الصلاة
وتبدو الصلاة هنا مثالا في غاية القوة والوضوح على هذا الموضوع.. ففي الإسلام تحوز الصلاة قدرا كبيرا من مساحة القرآن وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وهي فرض على المرء في السفر والحضر والصحة والمرض، يصليها قائما أو قاعدا أو نائما أو يصليها إيماء أو بعينيه أو بقلبه.. ولا يُسمح بترك الصلاة، بل يختلف العلماء حول تارك الصلاة: هل هو مسلم أم كافر؟ ولا يعني اختلافهم هذا مجرد حكم أخروي ديني بل هو يرتب لأوضاع وعقوبات قانونية دنيوية، فهم لا يختلفون في عقوبته بالقتل (وانظر وتأمل ضخامة العقوبة) ولكن يختلفون هل يُقتل ردة أم يُقتل حدا.. يعني: هل عقوبة قتله هي عقوبة لارتداده عن الإسلام أم عقوبة على فعل يستوجب القتل مع كونه مسلما (كالقاتل، والزاني المحصن، والمفسد في الأرض).
بينما لن يحفل النموذج الغربي بشأن العبادة أصلا، ولن تجد في دساتيره أو قوانينه شيئا يوجب أو يحث على الالتزام بالعبادة.. بل هو يتكون ويقوم من أوله إلى آخره لكي يحفظ “كيان الدولة”.. وهو بطبيعة الحال لا يهتم بأن يراقب عبادة أحد ولكنه ينمي كل لحظة أجهزته الأمنية والاستخباراتية ليراقب تصرفات كل مواطن في مجال “تهديد الدولة”.. وهو لا يبالي في هذا أن يخرق ستر الناس وأن يتنصت على هواتفهم ورسائلهم وإنما يرى هذا من صميم حق السلطة.. كما أنه لا يسمح بوجود وسائل إعلام تمارس أو تحرض على “تهديد الدولة”.. بل على الحقيقة هو يسخر كل طاقاته وإمكانياته لصناعة “المواطن الصالح” بالنسبة للدولة، ذلك الذي يرى قيمها عقيدة وقانونها كتابا مقدسا وترابها غاليا ومختلفا عن كل أنواع التراب وعلمها راية تبذل لها الدماء بلا تردد.
3- الزكاة
ويبدو مثال الزكاة مثالا فريدا في الدلالة على الموضوع، ويبدو هذا أوضح ما يكون في دولنا التي فُرضت عليها العلمانية.. إذ الدولة نفسها تنشيء القوانين والمؤسسات لجمع الضرائب بينما تترك أمر الزكاة لحرية كل فرد.
في الإسلام تقوم الدولة بمهمة جمع الزكاة، لأنها فرض ديني، ولأن الزكاة نزلت في كتاب الله وطبقها رسول الله فهي بطبيعة الحال سابقة على هذه الدولة وسلطتها، ومساحة استلاب الدولة الإسلامية لأموال الناس ضيقة ومحدودة لأن كافة الموارد المالية قتلت بحثا ورسخت فيها آراء فقهية عبر قرون طويلة.. فما يستطيع الحاكم في الدولة الإسلامية إلا أن يتلاعب في مساحات محدودة، ثم يكون تلاعبه مكشوفا.. وأهم من هذا: يكون تلاعبه ذريعة لمقاومته لا دفاعا عن المال بل دفاعا عن الدين وعن عباد الله المسلمين.. دفاع من منطلق الجهاد والإصلاح الديني لا من منطلق الإصلاح الاقتصادي أو الكفاح الطبقي، والفارق بينهما في القوة والاتساع واضح!
بينما دولة النموذج الغربي تستطيع في كل حين اختراع ضرائب جديدة، وما عليها إلا أن تجعل ذلك “قانونا” يقره البرلمان المنتخب (والديمقراطية في الدولة الحديثة هي عملية خداع ضخمة تأتي بمن هم على هوى الدولة.. وانظر مثلا كتابي: السيطرة الصامتة لنورينا هيرتس، وأفضل ديمقراطية يستطيع المال شراءها لجريج بالاست).. ولهذا فإن مساحة استلاب المال من الشعوب هي مساحة واسعة بل مساحة مفتوحة.. وكلما زادت العلمانية والحداثة كلما ضعف المجتمع وكلما ازداد الغني غنى والفقير فقرا، وكلما تراكمت القوة في يد السلطة ورجالها.
4- الصيام
أما الصيام فكالصلاة في كونه عبادة تحفظها الدولة الإسلامية، فللمجاهر بفطره عقوبة قانونية، إلا أنه يزيد عنها في كونه نظاما يؤثر في حياة الناس ويومهم ويغير من عاداتهم وأوقات طعامهم وشرابهم وعبادتهم.. وهي لحظة تخضع فيها حياة الناس لنظام تفرضه العبادة.. وكل ذلك ممزوج بالسعادة والارتياح لما لشهر رمضان وفضله من مكانة في النفوس.. مكانة بناها ورسخها الدين بنصوص القرآن والسنة وتراث طويل من سيرة الصالحين.
لكن نظام الدولة الحديثة لا يحفل بصوم أحد أو بفطره، هي بالنسبة له مجرد اختيار شخصي، لا الصائم يستحق الثواب ولا المفطر يستحق العقاب.. وقد لا يمثل هذا مشكلة كبيرة في الدول ذات الأقليات الصغيرة المسلمة، بينما هو يمثل إرباكا في الدول التي يكثر فيها المسلمون أو بلادنا التي فُرضت عليها العلمانية.. ذلك أن الصوم يمثل “ظاهرة اجتماعية” بما يغيره من عادات الناس وأسلوب حياتهم، كما أن نظام الدولة الحديثة حساس لكل تحرك جماعي لأنه مبني على التعامل مع “المواطن الفرد”، والنموذج المثالي له هو سلطة الدولة التي تدير شؤون أفراد لا شؤون كتل ومجموعات وطوائف وقبائل (نظام القبيلة نظام مضاد للدولة الحديثة).. ولهذا فإن الدول التي اشتدت فيها شوكة العلمانية حاولت -وإن لم تفلح- أن تنهي مسألة الصيام قسرا (كما فعل بورقيبة في تونس) أو تتجاهله تماما اعتمادا على أن يتناقض نظام الناس مع نظام عبادتهم، فيكونون أقرب اندماجا في نظام الحياة من نظام العبادة.
أما الذي يهدد الدولة الحديثة وتتحرك له بكل ما تملك من قوة، فهو الخرق الجماعي لقوانينها وعاداتها المستقرة، وهي في هذا تعاقب فاعليه أفرادا أو بالجملة.. كالإضراب عن العمل أو التمرد العسكري.. فهذا هو المثال الذي يقرب مسألة عقوبة المفطر في الدولة الإسلامية إلى أذهان من يعيشون في عالم الدولة الحديثة.
5- الحج
وأما الحج فلا مثيل له، فإنه ظاهرة عالمية مضادة للتقسيم القطري في أصلها وجوهرها، وهو تذكير سنوي بمعنى الأمة.. ذلك المعنى الذي لطالما هفت نفوس الغربيين وعملاؤهم إلى اجتثاثه من النفوس لزرع ولاءات أخرى تكون أعظم منه كالوطنية والقومية والإقليمية واللغوية والعرقية وسائر هذه التقسيمات.. إن الحج يمثل سببا مثيرا للتوتر والارتباك في كتابات المستشرقين والمنصرين لأنه “عبادة” وهو في ذات الوقت “ذا مغزى وأهداف سياسية” كما يقولون..
إن الحج يعيد سنويا جمع هذه الأمة وتعريفها بنفسها وبأصلها وبوحيها وبأرضها المقدسة وبآمالها في التوحد والنظام، أن تكون الأمة كالحجيج: اتفاق في المظهر والحركة والغاية وإن اختلفت الألوان واللغات والبلدان والأعراق والسمات!
الحج يعيد تذكير الأمة بأصلها (إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام) ووحيها (الكعبة) ونبيها (خذوا عني مناسككم) وعدوها (الشيطان وحزبه) وبانتمائها (أمة الإسلام) وغايتها (اليوم الآخر) ورسالتها (الجهاد والزهد.. وليس من مشهد أقوى في الجهاد والزهد من مشهد ذوي الأكفان البيضاء وهم يطوفون ويلبون ويكبرون ويسعون بين جبلين ويبيتون في الضيق والزحام).
إنه مشهد مناقض لكل ما تريد الهيمنة الغربية أن تحققه!! ولذلك فإنه يثير حنقهم كما تشي بذلك كتاباتهم هم.
– – – – – – – – –
2- كيف نظر المستشرقون والغربيون إلى الحج؟
الحج بطبيعته ضد العلمانية وضد القُطْرية، فإنه يجمع الناس على قاعدة دينية!
عُرِف الحج في الهندوسية والبوذية واليهودية والمسيحية مما يدل على أن الاجتماع الديني قديم ضارب في أعماق الزمان وفي الفطرة الإنسانية، وهو جزء من كون الدين حقيقة إنسانية عميقة. غير أن الحج في الإسلام يمثل نظاما مختلفا لكون الإسلام حضارة ومنهجا للحياة، فهو جزء من طريقة الإسلام في تنظيم الحياة وإنشاء الحضارة.
وفي اللحظة التي تُشَنَّ الحروب على المسلمين وهويتهم، يكون المسلمون أحوج إلى هذا التذكير السنوي بمعنى الأمة الذي يُراد نزعه من النفوس لتثبيت التقسيم الجغرافي والسياسي الذي صنعته الجيوش الغربية في بلادنا، فالحج يقاوم زرع ولاءات تكون أعظم من الدين كالوطنية والقومية والإقليمية واللغوية والعرقية، ولذلك ترصد الكتابات الاستشراقية مغزاه وأهدافه السياسية برغم كون المسلمين يؤدونه كعبادة شعائرية.
في الحج يُعاد جمع الأمة وتعريفها بنفسها (أمة الإسلام) وبأصلها (إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام) وبوحيها (الكعبة) وبنبيها (خذوا عني مناسككم) وبأرضها المقدسة (مكة) وبعدوها (الشيطان وحزبه) وبرسالتها (العبادة والجهاد)، وبآمالها في التوحد والنظام، أن تكون الأمة كالحجيج: اتفاق في المظهر والحركة والغاية وإن اختلفت الألوان واللغات والبلدان والأعراق والسمات! وبحقيقة الحياة؛ فليس من مشهد أقوى في الجهاد والزهد من مشهد ذوي الأكفان البيضاء المتجردين من كل متاع الدنيا. لكل هذا فإن مشهد الحج هو المشهد المناقض لكل ما تريد الهيمنة الغربية أن تحققه!!
1- المستشرقون والحج
حَضَرَتْ رحلةُ الحج في الدراسات الغربية بطريقيْن؛ الأول: دراسات المستشرقين التي اضطرت لتناول الحج لكونه الركن الخامس من أركان الإسلام، ولهذا فإنه موضوع حاضر في الدراسات البسيطة المختصرة والدراسات الموسعة معا. والثاني: كتب الرحالة الغربيين الذين حرص بعضهم على التنكر وحضور الحج بنفسه أو ساقته أقداره إلى الحج مثل فارتيما الإيطالي وبوركهارت السويسري وسنوك هروخرونيه الهولندي –والذي أعد رسالته للدكتوراة عن الحج[1]- وجوزيف بتس الإنجليزي وبيرتون الأيرلندي وغيرهم.
وتعددت الآراء والأنظار في فهم الحج ومعانيه وآثاره، ونظر إليه كل مستشرق في سياق بحثه، ففي تحليله لانتشار دعوة الإسلام يقول المستشرق البريطاني المعروف توماس أرنولد: “إن السيف كان يُمْتَشَق أحيانًا لتأييد قضية الدين، ولكن الدعوة والإقناع -وليس القوة والعنف- كانا هما الطابعين الرئيسين لحركة الدعوة هذه، وإن النجاح الرائع هو الذي أحرزه التجار بنوع خاصٍّ، الذين كسبوا السبيل إلى قلوب الأهالي … وإلى جانب التجار كانت هناك جموعٌ ممن يصحُّ أن نُسَمِّيَهم الدعاة المحترفين، وهم الفقهاء والحُجَّاج”[2].
وفي تحليله لأوضاع المسلمين في إفريقيا يقول إيوان ميردين لويس –وهو عميد المستشرقين البريطانيين في الشأن الإفريقي- بأن الحج من أدوات الإسلام في صناعة هوية مشتركة، فالإسلام “يُوجِد رابطة هوية ومصلحة مشتركة تجمع بين المسلمين ذوي الأصول العرقية والانتماءات السياسية المختلفة، وذلك ضمن الظروف المتغايرة في حياة المدن. هذا الاعتراف بتضامن إسلامي أوسع يتجسد بصورة حية في اشتراك الإفريقيين الواسع في الحج إلى مكة”، كما يشير إلى أثر الحج في انتقال اللغة العربية أساليبها ومفرداتها وحروفها الهجائية إلى أقصى شعوب الشرق الإسلامية كالملايو وسومطرة، فـ “الإسلام –بما فيه الحج- شبكة من الاتصالات مع الخارج”[3].
ويظل المعنى الإيجابي الأبرز الذي كرره جمهور المستشرقين هو ما في الحج من دلائل المساواة بين الناس في الإسلام، يقول الكولونيل البريطاني المعجب بحياة المسلمين رونالد فيكتور بودلي: “الحج أعظم شاهد على ديمقراطية الإسلام؛ فهناك يجتمع المسلمون الأوربيون والآسيويون والإفريقيون، والصعاليك والأمراء، والتجار والمقاتلون في نفس الإزار البسيط الذي كان محمد [صلى الله عليه وسلم] وأتباعه يرتدونه في حجة الوداع عام (632هـ)، إنهم جميعًا يتناولون نفس الطعام، ويتقاسمون نفس الخيام، ويُعَامَلُون دون تمييز، سواء أجاءوا من مرافئ سيراليون أم من قصر نظام حيدر أباد، إنهم جميعًا مسلمون”[4].
ومثله يقول المستشرق الأمريكي المشهور ذو الأصول اللبنانية فيليب حتي: “الحقُّ أن الإسلام قد وُفِّقَ أكثر من أديان العالم جميعًا إلى القضاء على فوارق الجنس واللون والقومية، وخاصة بين أبنائه، ولا شكَّ في أن الاجتماع في موسم الحجِّ له الفضل الأكبر في تحقيق هذه الغاية”[5].
وعلى الناحية الأخرى فأبرز المعاني السلبية التي كررها المستشرقون في شأن الحج هو مسألة “الوثنية”، حتى إن بعض المنصفين مثل دينيس سورا يقول: “إن محمدا يكاد يكون هو الوحيد الذي نعرفه عن طريق التاريخ من بين عظماء مؤسسي الأديان، إذ أن الخرافات لم تستطع أن تخيفه… فقد كان العرب يعبدون الجن والأرواح التي تقطن الأحجار، إلى جانب عدد من آلهة القبائل المختلفة. ولقد محا الإسلام هذا كله، ولم يبق منه سوى الحجر الأسود. فقد ظل موطن القداسة الجوهرية. إذ وضعه محمد تحت حماية الخليل إبراهيم. ومن الممكن أن تكون هذه سياسة قصد بها التوفيق. كما يمكن أن يكون ذلك ناشئا عن احترام شخصي”[6].
2- الرحلات الغربية إلى الحج
وأما الرحلات الغربية إلى الحج، فلقد كان أول من ادعى الوصول إلى مكة المكرمة هو جون كابوت (1480م) أي قبل سقوط الأندلس باثني عشر عاما، لكن لم يصل إلينا شيء مما كتبه، أما أول ما وصلنا فهو رحلة الإيطالي لودفيجودي فارتيما (1503م) والذي انتحل اسم يونس المصري وصفة جندي مملوكي، ثم جوزيف بتس الذي حج باسم “يوسف” (1680ه)، ثم تبعه الإسباني دومنيكو باديا ليبليج (1807م) باسم “علي العباسي”، ثم تبعه الرحالة السويسري المشهور جون لويس بوركهارت الذي انتحل اسم “إبراهيم” ووصل إلى مكة (1814م)، ثم الرحالة البريطاني ريتشارد بيرتون متخذا اسم “عبد الله” وصفة طبيب هندي ذي أصول أفغانية (1853م)، ثم الفرنسي جيل جورفيه كورتلمون متخذا اسم “عبد الله بن البشير” (1894م).
ولقد تعددت أغراض الرحلة إلى الحج، فثمة من كان مجبرا على ذلك لكونه عبدا مثل جوزيف بتس، وثمة من كان دافعه الفضول كما نرجح في كتابات من لم تشي كتاباتهم بغرض آخر، وثمة من تبدو في رحلته الأغراض التجسسية كما في رحلة بيرتون البريطاني، وثمة من تصرح الدلائل حوله أن غرضه كان استعماريا قحا كما في رحلة هروخرونيه الهولندي.
وبالعموم فلئن غابت التجربة الروحية بالعموم عن الدراسات الغربية، فإنها قد تميزت برصدها الآثار الثقافية والاجتماعية والاقتصادية بأكثر مما تعرضت له الرحلات العربية الإسلامية، وبعض ذلك راجع إلى العين الغريبة التي تنظر إلى الحدث الجديد فترصد فيه ما لا يلمحه من اعتاد عليه وبعضه الآخر راجع إلى مهمة الرحالة المهتمة بجمع المعلومات، بالإضافة لأمور أخرى.
لكل هذا كانت الرحلات الغربية إلى الحج أكثر ثراء في وصف المجتمعات الإسلامية وثقافاتها وعاداتها وطرق الحج من الرحلات العربية والإسلامية.
نشر في عربي 21
[1] انظر ترجمة موسعة له ومناقشة لمواقفه ورسالته عند: قاسم السامرائي، الاستشراق بين الموضوعية والافتعالية، ط1 (الرياض: دار الرفاعي، 1983م)، ص110 وما بعدها.وكتاب هروخرونيه حافل بالتفاصيل حتى أقرَّ د. محمد موسى الشريف بأن اختصاره متعذر بسبب “ضخامة المعلومات الواردة فيه وأهميتها وصعوبة اختصارها”، انظر: محمد موسى الشريف، المختار من الرحلات الحجازية إلى مكة والمدينة النبوية، ط1 (جدة: دار الأندلس الخضراء، 2000م)، 1/10.
[2] توماس أرنولد، الدعوة إلى الإسلام، ترجمة حسن إبراهيم حسن وآخرون، (القاهرة، مكتبة النهضة المصرية، 1980م)، ص445.
[3] آي إم لويس، الحدود القصوى للإسلام في إفريقيا وآسيا، ضمن “تراث الإسلام”، بإشراف: شاخت وبوزوروث، ترجمة د. محمد زهير السمهوري وآخرين، سلسلة عالم المعرفة 8 (الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 1985م)، 1/135، 179.
[4] ر. ف. بودلي، الرسول حياة محمد، ترجمة: محمد محمد فرج وعبد الحميد جودة السحار، (القاهرة: مكتبة مصر، بدون تاريخ).، ص339.
[5] فيليب حتي، العرب تاريخ موجز، (بيروت: دار العلم للملايين، 1991م)، ص60.
[6] زكريا هاشم زكريا، المستشرقون والإسلام، (القاهرة: المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، 1965م)، ص221.
– – – – – – – – –
3- الحج.. الفريضة المقاوِمة
شاء الله تعالى أن ننتهي من سلسلة رصد الأوضاع في مصر قبل وبعد الحداثة من خلال رحلتي حج، في نفس الشهر الذي تظللنا فيه أيام الحج.. وكلما ظللنا مشهد الحج عرفت لماذا تمنى المستشرق الفرنسي كيمون أن تهدم الكعبة، وينبش قبر النبي ويوضع رفاته في متحف اللوفر. وهذا الرأي عرفناه بالأصالة لأن الذي نقله كان هو وزير الخارجية الفرنسي مسيو هانوتو، كان هذا الأخير منزعجا ومتعجبا من مقاومة الجزائريين وأنهم لا يقبلون الخضوع لفرنسا رغم فارق القوة وتطاول الزمن وفداحة التكاليف.. رأى كيمون أن قبر النبي كالعمود الكهربي الذي يبث أفكاره في المسلمين الذين يتحولون إلى مجانين بهذه الأفكار، ولقد كانت ألفاظه الأصلية من الوقاحة والحقد بحيث أخجل من نقلها كما هي[1].
إن الحج فريضة إسلامية تقاوم كل ما أريد أن يُغرس في الأمة ويرسخ فيها قسرا وقهرا، وهو فريضة تذكر الأمة بما أريد لها أن تنساه، فلا يزال الحج يُقاوم التقسم القُطري ويذكرها بأنها أمة واحدة، لا يزال يقاوم الأفكار التي تجعلها أقواما وأعراقا ويذكرها بأن هويتها الإسلام، لا يزال يقاوم ما ينشب بينها من الخلافات ويذكرهم بالألفة ووحدة المسار والمسير المصير، لا يزال يقاوم صناعة الأعداء الوهميين وتسويقهم فيها ويذكرهم بأن عدوهم الشيطان، لا يزال يقاوم ما يراد لهم من الانهمار على الدنيا واتباع الشهوات ويذكرهم بمشهد الكفن والحشر يوم القيامة.
قد منع الله الجدال في الحج فيجتهد الناس في لزوم الألفة ويحملون أنفسهم على كبح الغضب والمسامحة والنزول على رأي أحدهم بسلاسة فيرتد هذا على أنفسهم في بقية حياتهم، وإن مواقع التواصل الاجتماعي تزخر بموقف وقع بين مصري وجزائري أو بين باكستاني ومغربي أو بين حجازي وإندونيسي فيتذكر الجميع ما بينهم من الرابطة والرحم.
هذا الحج هو أحد أهم الدعائم التي جعلت الأمة المسلمة في هذه الصورة من المتانة والترابط والتلاحم عبر خمسة عشر قرنا، مهما تقسمت الأنظمة السياسية ومهما حاولت تقسيمهم، ومهما اختلفت ألوانهم وألسنتهم وأعراقهم، ومن أهم ما أذكره في هذا الباب أني كنت في مؤتمر علمي بالسودان عن طرق الحج وآثارها المتعددة، وتحدث عدد من الأساتذة عن أن رحلة الحج أدت إلى رسوخ المذهب المالكي في السودان وفي الشمال الإفريقي لأن الحجاج المغاربة كانوا يقطعون الطريق إلى الحج عبر السودان. فعقب أستاذ سوداني بلفتة بديعة، فهو يرى أن مذهب المالكية في الحج مما ساهم في ترابط المغاربة بالمشارقة وذلك أن المالكية يجعلون القدرة على الحج هي فقط القدرة الصحية، فيعذرون المريض لكن لا يعذرون الفقير، ومذهبهم أن يخرج الصحيح فيعمل حتى يوفر أجر الطريق فيسير فيه ثم يعمل حتى يوفر أجر الطريق، وهكذا حتى يصل.. ومن ثَمَّ كان الحجاج المغاربة بمن فيهم الفقراء الأصحاء ملزمون بالحج، وهو ما ساعد على كثرة الحجاج من بلاد المغرب وغرب إفريقيا.
بقيت الفريضة قائمة في نفوس المسلمين التي تتشوق للبيت الحرام وزيارة مسجد النبي، حتى في الأوقات التي كان الطريق فيها مخيفا وموحشا كان الحجاج يفدون من مشارق الأرض ومغاربها حتى وإن غلب على ظنهم وظن أهاليهم أنها الرحلة الأخيرة، بلا عودة.. وبمثل هذا ظلت الرابطة الإسلامية تجدد نفسها كل عام مرة كبيرة، بخلاف مرات غير معدودة من سنة العمرة والزيارة.
لذلك، فمنذ أن دخلت أمتنا في عصر الاستضعاف ورزحت تحت الاحتلال والحكومات العلمانية حتى عملت كثير من تلك الأنظمة على التضييق على الحج، وما من حكومة نشأت في تلك البلاد إلا واعتدت على أوقاف الحج، وهي أوقاف ضخمة مرصودة بكل بلاد الإسلام للإنفاق على الحرمين تنتج أموالا غزيرة، وهو ما أثر سلبا على أوضاع الحرمين، فضلا عن الصدقات الأخرى والعادات التي كانت تؤديها الإمارات الإسلامية من أموالها أو التي كان يتبرع بها الناس، فكل هذا قد توقف مع الدخول في الدولة القومية الحديثة التي بسطت سيادتها على سائر ما في أراضيها من الموارد وتحكمت فيها، والأصل أن الأوقاف أموال محبوسة لله وليس للحكومات عليها سبيل. ولولا الطفرة النفطية في الجزيرة العربية لكانت أحوال الحرمين الآن مزرية للغاية وتشهد بهذا الضرر الخطير.
كذلك فقد ضيقت بعض الحكومات على الحج نفسه، وقد روى شكيب أرسلان في رحلته إلى الحج (التي كانت 1930م) أن حجاج الأناضول حُرِموا من الحج “لأن مصطفى كمال (أتاتورك) يأبي أن ينفق التركي شيئا من ماله في بلاد عربية، فهو قد أراد هذا لأجل التوفير على الأتراك بزعمه. وياليته احتاط للتوفير على أمته في الطرق التي ذهبت فيها الملايين من أموالهم إلى جيوب الإفرنج كالخمر والميسر والألبسة الإفرنجية”[2]. وحاول بورقيبة أن يفعل مثله لكنه لم يستطع غير أنه ألقى خطابا في صفاقس (29 إبريل 1964) دعا فيه إلى الكف عن الحج لأنه يهدر العملة الصعبة، واقترح على أهل تونس أن يزوروا مقامات الأولياء في تونس بدلا من الحج.
وأشد من ذلك وأشنع ما فعلته الأنظمة الشيوعية في الصين وفي آسيا الوسطى وفي أوروبا الشرقية، والتاريخ حافل بآلام وأهوال في حظرهم الحج أو تشديد المراقبة عليه أو تعذيب وقتل من ثبت أنه تسلل خفية إلى الحج، وهذا التاريخ لا يزال أكثره مجهول لأن أهله ليسوا من العرب، ولأن كثيرا من تلك البلاد لا تزال في نفس الحال أو أهون قليلا.
والخلاصة أن الحج هو مؤتمر المسلمين السنوي الذي يكافح كل ما أريد أن تنساه الأمة، ويغرس كل ما أريد خلعه روح الأمة، وهو لهذا مصدر خطر على كل عدو لهذه الأمة، فلست تجد عدوا لها إلا وهو متوجس من الحج ساعٍ في عرقلته ورفع كلفته وصد الناس عنه وتشديد الرقابة عليه.
نشر في مجلة المجتمع
[1] انظر: محمد عبده، الإسلام بين العلم والمدنية، ط1 (القاهرة: مؤسسة هنداوي، 2011م)، ص23.[2] شكيب أرسلان، الارتسامات اللطاف في خاطر الحاج إلى أقدس مطاف، وقف على تصحيحها وعلق بعض حواشيها: السيد محمد رشيد رضا، ط1 (القاهرة: مطبعة المنار، 1350هـ)، ص82.
– – – – – – – – –
4- الحج الممنوع والقلب المفجوع
بعث الله في نفوس المؤمنين حب البيت الحرام والشوق إليه، وكانت تروي لي أمي عن جدتها رحمها الله أنها حجَّت على مواكب الجِمال، وأن الناس في تلك الأيام كانوا يوَدِّعون الحاج كوداعهم الميت، فإن الطريق طويل، والأخطار كثيرة، وقد يكون الخطر بسيطا كعقرب أو أفعى في الصحراء، أو مرضا بسيطا لا يوجد له الطبيب والدواء، وقد يكون خطرا كبير كما يحدث من قُطَّاع الطريق أو ظلم الحُكَّام ونحوه. والمقصود أن رحلة الحج كانت أشبه برحلة الموت إلا أن الشوق الذي يتردد في صدور المؤمنين لا يفتر ولا يهدأ حتى يحرك صاحبه إلى هذه الرحلة ولو كانت رحلة موت!
ولست أنسى يوما كنت فيه في مؤتمر بجامعة إفريقيا عن “طرق الحج في إفريقيا”، فاستفدت من بعض المشاركين أن المذهب المالكي يجعل الاستطاعة في الحج هي الاستطاعة البدنية، بمعنى أن صحيح البدن قد فرض عليه الحج ولو كان فقيرا، فكان أهل الشمال والغرب الإفريقي يخرجون من بلادهم البعيدة، فإذا نفدت نفقته عمل في أي عمل يلقاه في أي بلد حتى يحصل أجر مرحلة من الرحلة، فلا يزال يعمل وينتقل إلى أن تنفد نفقته فيعمل ثم ينتقل حتى يصل إلى البيت العتيق. وهكذا اتصل المسلمون في أقصى غرب إفريقيا والأندلس بالحرمين والمشارقة، وهكذا بقيت الأمة واحدة متجانسة.
ولكن السؤال الذي يلح على الخاطر: أي شوق هذا الذي يحمل صاحبه على أن يتكبد كل هذا العناء في رحلة مخوفة مجهولة محفوفة بالمخاطر؟!.. لا تفسير لهذا بأي مقياس مادي، إنما هو الحب الذي أودعه الله قلوب المؤمنين.
يروي محمد لبيب البتانوني في رحلته إلى الحج “الرحلة الحجازية” (1327هـ = 1909م)، وكان ممن اختير ضمن موكب الخديوي عباس حلمي الثاني لما عزم على الحج، يروي أن الحج يهذب الأخلاق تهذيبا لو أن الحكومات انتبهت إليه ليسرت سبيل الحج على الناس، وذكر أن الحكومة المصرية كانت “في الزمن الغابر تُخرج إلى الشوارع والحارات في أشهر الحج أناسا يتغنون بأناشيد (يسمونها تحانين) تُحرِّك عواطف الناس إلى أداء هذه الفريضة” (الرحلة الحجازية، ص162).
وذكر الشيخ رشيد رضا في رحلته للحج (1334هـ = 1916م) ذات الملاحظة عن تشويق الحكومة المصرية للحج، فروى أن ركاب الدرجة الثالثة كانوا ينامون على ظهر السفينة، وأولئك كانوا “من أدنى طبقات المصريين، قد دعَّهم إلى الحج دعًّا ما كان من عناية الحكومة ببعث حجاج يحجون، وحَمْلِها الأغنياء على مساعدة الفقراء على الحج بالمال، فوق ما كان من تسهيل سائر الأسباب” (مجلة المنار 19/563).
وهذه الحكومة المصرية التي نتحدث عنها هنا ليست حكومة إسلامية، بل هي حكومات فاسدة كانت تحت الاحتلال الإنجليزي، وكان رأسها الخديوي أو الملك هو سليل أسرة محمد علي باشا زعيم التغريب والعلمنة في العالم الإسلامي، ومع ذلك فإن بعض الشر أهون من بعض، فما لاقيناه من حكم العسكر من بعدهم صار يُشَوِّق إلى أيامهم! كما أن حكومة الحجاز في تلك الأيام أيضا لم تكن حكومة إسلامية بل كانت تنسج المؤامرة مع الإنجليز للانقلاب على الدولة العثمانية فيما عرف بالثورة العربية.
هذه المساعدة والتشويقات التي كانت تبذلها الحكومة وتساعد الفقراء ليحجوا، تثير الأذهان لمعرفة كم كان يكلف الحج في تلك الأيام، ومن حسن الحظ أن المؤرخ المصري الكبير د. حسين مؤنس أخبرنا أنه حجَّ في عام 1937 (أي في مطلع عهد الملك فاروق)، يقول: “لم يكن معي إذ ذاك إلا مائة جنيه كنت قد ادخرتها، وكانت كافية في تلك الأيام لكل مطالب الحج من نفقات سفر وإقامة وما لا بد من أدائه من ضرائب قليلة كان لا بد من دفعها”، وفي نهاية الرحلة كان قد أنفق ثمانين جنيها فقط بما في ذلك السفر ذهابا وإيابا!!
كان عمره في هذا الوقت ستة وعشرون عاما، وكان الجنيه المصري وقتها يساوي 4 دولارات، أي أن تكلفة الحج على المصري كانت تساوي 320 دولارا، وهو ما يوازي الآن خمسة آلاف جنيه مصري، لكن رحلة الحج هذه الأيام تكلف المصري في المتوسط مائة ألف جنيه!!
منذ ذلك الوقت حتى الآن جرت في النهر مياه كثيرة، قيل عن مصر إنها استقلت وصار يحكمها أبناؤها الوطنيون، وفاض نهر النفط في الحجاز حتى صار ملوكها وأمراؤها مضرب المثل في البذخ والترف والإسراف وهدر الأموال، ومع ذلك اختفى من مصر التشويق إلى الحج وتضاعفت تكاليفه، كما ضيَّقت السعودية على الحج وفرضت عليه الضرائب، خصوصا ذلك الذي أراد تكرار الحج والعمرة، فعليه أن يدفع الأموال الكثيرة لسلطات مصر ثم لسلطات السعودية.
أما الذي صارت تُشَوِّق إليه مصر وتسهله السعودية فأمر آخر، إنها حفلات الرقص والخلاعة والمجون في جدة، إذا قصدت إلى تلك الحفلة خرجت لك التأشيرة السعودية في دقائق، ولم تكلفك السلطة المصرية شيئا من الضرائب. وقد حاول بعض الأذكياء استثمار هذا في الذهاب إلى العمرة فألقي القبض عليهم في السعودية ثم خضعوا للتحقيق الأمني في مصر، إذ كيف لك أن تستغل تسهيلاتنا لحفلات الطرب والرقص فتذهب إلى البيت الحرام؟!
هذا فضلا عن أن السلطة السعودية تمنع كثيرا من المسلمين أن يحجوا أو يعتمروا، فالذي يعارض السلطة السعودية لا يستطيع أن يفكر في زيارة البيت الحرام ولا أن يتمتع بالأمن فيه، على أن السعودية لا تقتصر في ذلك على معارضيها، بل هي تتطوع فتحرم معارضي الأنظمة الأخرى الصديقة أيضا، وقد وقع أنَّها سلَّمت حجاج ومعتمرين إلى أعدائهم يسومونهم سوء العذاب ثم يقتلونهم!!
بل أكثر من ذلك، السلطة السعودية تمنع شعبا من الحج لأن السعودية على خلاف سياسي مع النظام الحاكم هناك، أعني: المسلمين في قطر، وهذه عقوبة فريدة من نوعها، قد أنكرها أهل الجاهلية الأولى، فلقد كانت قريش في مأزق شديد أمام العرب أن منعت رسول الله من العمرة وهما على عداء، حتى قال حليف قريش الحليس بن علقمة: أيحج الناس من لخم وجذام وحمير ويُمنع عن البيت ابن عبد المطلب؟!!
كلما شب الشوق للحرم في نفسي تناولت كتابا من كتب الرحلات الحجازية، أتلمس في الحكاية عن بيت الله إرواء شيء مما في صدري، فإذا الرحلة تزيد الشوق شوقا، ثم جاء صبيحة يوم لا أنساه، حصلت فيه على كتاب “المختار من الرحلات الحجازية”، وهو كتاب بديع ممتع عجيب، جمع الرحلات الحجازية بما فيها المغمور المطمور، ثم لخصها وانتقى منها، ونشرها رحيقا لذيذا يجمع بين المتعة والفائدة.. كان هذا الكتاب أحد أغلى ما في مكتبتي من الكتب، أتناوله كل حين وأنهل منه رحيقا عذبا من أجواء البيت الحرام. لكني كلما تناولته كلما آلمني وعذبني أن مؤلفه الآن في سجون السعودية، إنه الداعية الموهوب صاحب الهمة العالية والمؤلفات الغزيرة، محمد موسى الشريف!!
رجل من آل البيت، من أهل المدينة، وأمه مصرية، جمع في برديه بين الحجاز ومصر.. فلو كانت مصر ما تزال تثير الأشواق للحرم، أو كانت السعودية ما زالت ترحب بالحجاج، لكان هذا الرجل وكتابه يوزع مجانا على الشعوب! بدلا من تأشيرات اللهو والخلاعة التي تصدرها هيئة الترفيه!
ألا لو كان للمسلمين خليفة لأنشدنا له قصيدة شوقي الباكية المبكية التي شكا فيها من ولاة مكة وظلمهم وجورهم قائلا:
ضجَّ الحجاز، وضجَّ البيت والحرم .. واستصرخت ربَّها في مكة الأممُ
قد مسَّها في حماك الضُّر، فاقض لها .. خليفةَ الله، أنتَ السيدُ الحكم
أُهِينَ فيها ضيوفُ الله واضطُّهِدوا .. إن أنت لم تنتقم فالله مُنتقم
عزَّ السبيلُ إلى طه وتربِته .. فمَنْ أراد سبيلا فالطريقُ دم
ربَّ الجزيرةِ، أدرِكْها، فقد عَبثَتْ .. بها الذئابُ، وضلَّ الراعيَ الغنم
إن الذين تولُّوْا أمرَها ظلموا .. والظْلمُ تصحبُه الأهوالُ والظُّلَم
في كلَّ يومٍ قتالٌ تقشعرُّ له .. وفتنةٌ في ربوع اللهِ تضطرم
– – – – – – – – –
5- هذا يوم عرفة
اليوم الفارق بين تجديد الدين وتحريفه
هذا #يوم_عرفة
اليوم الفارق في تاريخ الإنسانية، ففيه تمَّ الدين وخُتِمت الرسالات..
وذلك أنه اليوم الذي أنزل الله فيه قوله تعالى (اليوم أكملت لكم دينكم، وأتممت عليكم نعمتي، ورضيت لكم الإسلام دينا).
فلم ينزل بعده في القرآن تحليل ولا تحريم حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم..
وبهذا التمام خُتِمَت الرسالات، فليس بعد محمد نبي، وليس بعد الإسلام دين!
وهكذا تمَّ أمر السماء في أهل الأرض.. وهكذا قال رسول الله “أيها الناس: اسمعوا قولي، فلعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا”..
وقد كان.. فلم تمض شهور إلا وكان رسولنا الأكرم يلتحق بالرفيق الأعلى.. ليبدأ بعده جهاد عظيم عظيم عظيم.. وهو جهاد الأمة في التمسك بهذا الدين والحفاظ عليه!
تمَّ الدين.. وتمامه هذا هو الفارق بين المجددين والمحرفين..
فالمجددون إنما يزيلون ما علق بالدين من ركام الأفهام الزائغة والأقوال الباطلة ليعيدوه ناضرا زاهيا كما تركنا عليه رسول الله..
وأما المحرفون فهم الذين يسعون في تغيير الدين وإبطال آياته ودلالاته، يحاولون تطويعه للباطل وتكييفه ليتسع لأهوائهم وشهواتهم..
ترى المحرف يقول: قد جاء الإسلام في عصر يظلم المرأة فجعل لها نصف الميراث، والآن نحن في عصر ينصف المرأة فيجب أن نسويها في الميراث.. ولن ترى مجددا أبدا يقول بهذا.. لماذا؟ لأن الدين قد تم واكتمل!
ترى المحرف يقول: جاء الإسلام في عصر يطلق للرجل عنان شهواته فضبطها وألزمه ألا يزيد في الزواج على أربعة، ونحن الآن في عصر آخر، فيجب أن لا يكون للرجل سوى زوجة واحدة.. ولن ترى مجددا أبدا يقول بهذا.. لماذا؟ لأن الدين قد تم واكتمل!
ترى المحرف يقول: جاء الإسلام بالجهاد في عصر الفوضى والهمجية وعصر الإمبراطوريات والدموية، ونحن الآن في عصر القانون الدولي وميثاق حقوق الإنسان العالمي، فيجب ألا يكون ثمة جهاد، بل سياسة ودبلوماسية ومحاكم دولية.. ولن ترى مجددا أبدا يقول بهذا.. لماذا؟ لأن الدين قد تم واكتمل!
ترى المحرف يقول: جاء الإسلام في عصر العصبيات القبلية وفي عصر الولاءات الدينية فقامت دولة الإسلام على قاعدة الدين، ونحن الآن في عصر سيادة الدول والانفتاح العالمي وحقوق الأقليات، فيجب أن تكون الرابطة هي رابطة الوطن والدولة ويجب أن تكون العلاقة هي المواطنة.. ولن ترى مجددا أبدا يقول بهذا.. لماذا؟ لأن الدين قد تم واكتمل!
ترى المجدد يسعى في إعادة المسلمين إلى تلك اللحظة الذهبية التي كانت في يوم عرفة.. لحظة كمال الدين وتمام النعمة..
ترى المجدد يسعى في توحيد الأمة، وفي إعلاء الرابطة الإسلامية، وفي الحث على إعداد العدة وامتلاك القوة واستئناف الجهاد..
ترى المجدد يسعى في رفع الظلم الواقع على المرأة على قاعدة الإسلام لا على قاعدة الثقافة الغربية، فهو أحرص على أن يقوم الرجال بحقها إذ هي بنت وأخت وزوجة وأم، فلا تلجأ إلى العمل ولا تباشر مشاق الحياة ولا تصادم صخور الدنيا.. بل هي العزيزة المصانة المحفوظة التي ينفق عليها الرجل نفقة وجوب عليه لا تفضلا منه ولا منة.
ترى المجدد يسعى في إنصاف الضعفاء والمضطهدين وفي رفع الظلم عن الأقليات، إيمانا واستنادا لحقوقهم المقدسة التي أقرها لهم الإسلام، يرى ذلك واجبا عليه وجوبا دينيا وليس تجملا يتزين به أمام الثقافة الغربية، يفعل ذلك طاعة لله وليس حسابا لموازين القوى!
ليس بين من يجدد دين الله وبين من يحرفه إلا الإيمان بأن الدين قد تم واكتمل.. فهذا يريد إعادته كما كان، وهذا يريد تغييره ونقله عما كان.
هذا يوم عرفه..
هذا يوم الحج الأكبر..
– – – – – – – – –
6- الرحلات الحجازية
عالم من المتعة
من يقرؤون في بلادنا قلة، وهذا أمر مؤسف.. غير أن الأشد أسفا من ذلك أن هذه القلة القارئة ينصرف معظمها نحو قراءة الروايات والقصص والمواد الخفيفة اللطيفة التي لا تسمن ولا تغني من جوع، لا.. بل الحق أنها تضر ولا تنفع، وأنها تؤذي ولا تُصلح!
والإكثار من قراءة الروايات يشبه الإكثار من الاستماع إلى المسلسلات والأفلام، وأكبر الضرر أن تكون مادّة العقل وأفكاره ورؤاه وتصوراته مبنية على قصص خيالية حبكتها عقول المؤلفين، بينما حقيقة الحياة أكثر تركيبا وتعقيدا وعمقا. إن هذا الحال يشبه كثيرا أن يكون كل غذاء الجسم من المأكولات السريعة: حلوة الطعم حافلة بالمقبلات ولكنها مضرة بالجسم.
ربما كان الكثير من الشباب معذورا، لم يجد من يوجهه إلى المعرفة الثقيلة الرصينة النافعة، وربما كان العذر في أن هذه المعرفة النافعة لم تُكتب بأساليب سهلة مبسطة مشوقة تمتع القارئين، فظلت حكرا على المتخصيين فيها وعلى من يتصبر لها ويتجلد أمامها حتى يفهمها فيذوق لذتها.
وأكثر ما أشعر بهذا المأزق حين يتكاثر في بريدي سؤال متكرر: ماذا نقرأ في التاريخ؟ وكيف نتخلص من عقدة أن ما نقرأه سرعان ما ننساه؟!
هذا مع أن التاريخ مَبْنَيٌّ على القصص والحكايات، حتى لقد أوصى بعض العلماء طالبَ العلم أن يتعلم التاريخ “خاصةً وقت راحته وسآمته من تعلم غيره من العلوم، فإن هذا العلم سهل جداً، ومَنْشَط ومُنْتَزَه ولذة، لا ينبغي لأحد أن يخلو منه”[1]، فيجتمع في مطالعة كتب التاريخ “ترويح للخواطر وعِبَرٌ لأولى البصائر”[2]. وقد تكرر في كلامهم أن علم التاريخ “يستمتع بسماعه العالم والجاهل، ويستعذب موقعه الحمق والعاقل، ويأنس بمكانه وينزع إليه الخاصىِ والعامي، ويميل إلى رواياته العربي والعجمي”[3].
لقد جُبِل الإنسان على حب القصة، وعلى الشغف بالسرد، حتى لو أنه يعرف نهاية القصة فإنه لا يزال يستمع إليها معجبا بها، وبهذه الفطرة سمعنا قصص الطفولة من آبائنا وأمهاتنا عشرات المرات ولم نكن نشعر بالملل.
فلماذا إذن يستثقل الشباب في زماننا قراءة التاريخ ويستخفون قراءة القصة؟!
لهذا أسباب عديدة بعضها يتصل بمناهج التاريخ المعاصرة التي اهتمت بالتحليل والتعليل والتفسير واتخذت لنفسها من المناهج والأساليب الأكاديمية ما أبعدها عن الجمهور، وبعضها يتصل بأساليب تدريس التاريخ في مدارسنا، وبعضها يتصل كذلك بالضعف العام للهمم والركون إلى السهل في عالمٍ تسيطر عليه حضارة اللذة والسرعة وسرعة تقلب المزاج وحب الراحة!
كنتُ أجيب السائلين بأن عليهم أن يتركوا الروايات ويقرؤوا كتب المذكرات الشخصية وأدب الرحلات وحتى أدب السجون، ففيها يتحقق جانب المتعة بالسرد والوصف إلى جانب كونها حقيقية وليست خيالا ابتدعه عقل مؤلف! فتكون قراءتها اطلاعا على حقيقة العالم وعلى العالم الحقيقي، ويكتسب القارئ فيها ثقافة ووعيا بما يجري في دنيا الناس وما يؤثر عليه في دنياه وفي أخراه أيضا.
وهذه السطور هي تعريف بكتاب عظيم اجتمع فيه العلم والمتعة، الدين والدنيا، النفع واللذة، ذلك هو كتاب “الرحلات الحجازية” للشيخ الدكتور محمد موسى الشريف.
مؤلف هذا الكتاب عُرِف بغزارة الإنتاج، وقائمة كتبه طويلة متعددة منها ما بلغ عددا من المجلدات ومنها الكتيبات الصغيرة.. وقد حدثني –حفظه الله- أنه صار يتعمد أن يخرج كتبا صغيرة لأن همم القراءة قد ضعفت، وهو لا يحب أن يظل العلم حكرا على المتخصيين والقلة من ذوي الهمة.
وقد دفعته هذه الرغبة فيما يبدو لتلخيص وتهذيب عدد من الموسوعات الكبرى العلمية، لتكون أيسر على القارئين، ككتاب “سير أعلام النبلاء” للإمام الذهبي والذي بلغت به بعض الطبعات خمسين مجلدا وهو سجل حافل للشخصيات الكبيرة في التاريخ الإسلامي لسبعة قرون، حيث اختصره د. موسى الشريف إلى أربعة مجلدات بعنوان “نزهة الفضلاء”، ومثل ذلك كتاب “الوافي بالوفيات” للصفدي وهو سفر ضخم في التراجم اختصره إلى مجلدين بعنوان “الأخبار العليّات”، ومثلهما كتاب “رياض النفوس” وهو تراجم لأعلام المغرب الإسلامي اختصره في مجلد واحد. ثم أتمَّ مسيرة التراجم بكتاب آخر اختصره من تسعة عشر كتابا في التراجم لأعلام الإسلام بين القرن الثامن حتى القرن الثالث عشر الهجري، وسماه “المختار المصون من أعلام القرون” في ثلاث مجلدات.
لكن الكتاب الذي نحن بصدده مُخْتَصَرٌ من بين نحو الثلاثين مجلدا، فقد نهضت همة الشيخ إلى جمع أربعة وعشرين كتابا كتبها أصحابها عن رحلتهم إلى الحج، ثم اختصر ذلك في كتاب واحد، فخرج الكتاب في ثلاث مجلدات كأنه خلاصة الخلاصة ورحيق الرحيق، وسمَّاه “المختار من الرحلات الحجازية إلى مكة والمدينة النبوية”!!
وقد اتسعت دائرة الجمع، فشملت القدامى كابن جبير وابن رشيد الفهري وابن بطوطة كما شملت المتأخرين كشكيب أرسلان ورشيد رضا وعلي طنطاوي ومحمد حسين هيكل. كما شملت كذلك كتب المستشرقين الغربيين الذين تنكروا كمسلمين ليشاهدوا الحج ويكتبوا عنه، مثل فارتيما وجوزيف بتس وريتشارد بيرتون.
فاجتمعت في هذا الكتاب أنواع من المعارف واللطائف وزوايا النظر لاتساع الزمان وتعدد الرجال، فلكل زمان أهله وأفكاره وقضاياه، ولكل مؤلف رؤاه وقضاياه وما يلفت نظره وما يعتمل في نفسه، حتى الأساليب اللغوية الأدبية قد تنوعت في هذا الكتاب بين القديم والحديث، المشرقي والمغربي، الأصيل والمترجم.
كأنه صورة بانورامية مصغرة وشاملة لرحلة الحج عبر عشرة قرون، تمر فيها على أحوال مكة والمدينة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعلمية، وعلى طرق الحج وأحوالها وأوضاعها وما يكتنف الحاج فيها من المشاق وما وُضِع له فيها من التسهيلات، ومواقف الحكومات من الحج ما بين المنع والتضييق أو الفسح والتشويق، وطبيعة التنظيم لقافلة الحج والقائمين عليها وتدابيرهم في الحماية والحراسة ونحو ذلك، وأحوال المطوفين في مكة والمُزَوّرين (أي الذين يرشدون الزائرين) في المدينة وتعاملهم مع المسلمين ممن لا يعرفون العربية وما يقع بينهم وبين الحجاج من تراحم أو ضده، وما يقع في الحج من التعارف والتآلف واللقاء بين المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وما يقع للحجاج عند مغادرة بلادهم من التوديع وعند العودة إليها من الحفاوة.
وكأنه بستان متنوع من الخواطر والنظرات الإيمانية التي جالت في صدور أصحابها وهم في الديار المقدسة، وبستان متنوع من صور الشوق العظيم الذي يغمر قلوب المسلمين، فمنهم من حجَّ فارتوت أشواقه وتجددت، ومنهم من لم يدرك ولكن قَلَمًا لأحد هؤلاء الرحالة سجَّل هذه الأشواق.
وظهر في هذه الرحلات آثارٌ علميةٌ واجتماعيةٌ يصعب أن تُدرك بوضوح في مصادر التأريخ التقليدية، كذلك الذي يقع بين الحجاج وبين المدن على طريق الحج من الإقامة والزواج والتعليم والتجارة، وما يتعرض له الحجاج من المغامرات مع قطاع الطريق أحيانا ومع غيرهم من قوافل الحج أحيانا أخرى، وما شاع في بعض الأزمنة والأمكنة من العادات والتقاليد الدينية والدنيوية، وما يترنم به الحجاج من الأناشيد والأهازيج، وما أصدره بعض العلماء من فتاوى لإسقاط فرض الحج حين يبلغهم ما في الطريق من الصعوبات والمخاوف، وكيف استقبل الناس هذه الفتاوى فمنهم من غلبه الشوق ومنهم من غلبه الخوف.
ولا تخلو هذه الرحلات من فوائد قوية في الأحوال السياسية لبلاد المسلمين، لا سيما ما تعلق منها بأمراء مكة والمدينة وأعيانهما، وأوضاع الخلافة الإسلامية لا سيما في العصر المملوكي والعثماني، وما كان يلقاه الحجاج من الرعاية أو الإهمال، وكيف أدارت السلطة شأن الحجاج بداية من تمهيد السبل والحماية من قطاع الطرق وتنفيذ الحجر الصحي ومتابعة شؤونهم في التنقل والإقامة ورفع المظالم، وذلك المشروع الكبير الذي تعلقت به قلوب المسلمين في عهد السلطان عبد الحميد: سكة حديد الحجاز!
ومن عادة المؤلف حفظه الله، أنه يضع في نهاية الكتاب فهرسا للفوائد، يضع فيه ما هو جدير بالنظر والمطالعة من المعارف اللطائف والغرائب والمواعظ وما يثير التأمل، وهذا الفهرس هو من بدائع ما يفعل المؤلف، ومن يبدأ بقراءته يزداد شوقا لمطالعة الكتاب. وقد صرَّح في كتابه “رحلتي مع القراءة” بقوله:
“لما تعمقت في القراءة رأيت أن أضع علامة على المواضع المهمة في الكتاب حتى أعود إليها فيما بعد، وقد أفادتني هذه الطريقة فيما بعد، فقد كنت إذا أردت الرجوع إلى كتاب قرأته من قبل فإني أقلَّب صفحاته لأعرف المواضع المهمة فيه. وربما وضعت بعض التعليقات داخل الكتاب على ما أجده جيداً أو مستهجناً مما أقرؤه. وربما وضعت في صدر الكتاب بعد فراغي من قراءته رأيي فيه وفي مصنفه بكلمات موجزة قليلات. ثم إني انتهيت في القراءة إلى وضع فهرسة خاصة لفوائد كل كتاب أقرأه غالباً، وذلك الفهرست -فهرست الفوائد- هو العمل الأرضى عندي في باب القراءة؛ وذلك لأن الفهرست يعد خلاصة ما في الكتاب”.
وللمؤلف أيضا كتابان آخران يتعلقان بأمر الحج، أولهما كتاب “المقالات النفيسة في الحج إلى الأماكن الشريفة” وهو قريبٌ من فكرة كتاب “الرحلات الحجازية” إلا أنه عن المقالات لا عن الرحلات، وفيه جمع المؤلف عشرات من عيون المقالات التي كتبها أئمة وعلماء ودعاة وأدباء في شأن الحج ومعانيه وفقهه وآثاره في النفس والمجتمع وما يوصى به للحاج في نفسه أو ما يُرفع للحكام والأمراء من النصائح في باب الحج، وقد استخرج هذه المقالات من المجلات والجرائد وكثيرٌ منها هو في حكم الضائع لأنه لم يُجمع ضمن كتب أخرى لصاحبه. فهذا الكتاب بستان آخر في عالم الحج والحجيج، وشعاع نور بديع تشاركت في نسجه ورسمه أقلامٌ أصيلة رصينة.
وثانيهما هو كتاب “الشوق والحنين إلى الحرمين”، وهو مستخلص من كتاب “الرحلات الحجازية”، إذ أفرد المؤلف أخبار الشوق والحنين لدى الحجاج وما يتصل بها في ذلك الكتاب الصغير، وحسنًا فَعَل، إذ هو أرجى أن ينتشر ويُقرأ ويتحقق منه معنى التشويق والتحفيز إلى الحرمين الشريفين.
والخلاصة المقصودة أن كتاب “الرحلات الحجازية” هو نموذج بديع وعظيم للكتب التي ننصح أن ينصرف إليها الشباب عن غيرها من الروايات الأدبية والخيالية، فلا بد للمرء أن يكون حريصا على عقله كما هو حريص على جسمه، بل غذاء العقل أهم وأولى من غذاء الجسم، لا سيما وكثيرٌ من غذاء العقل النافع هو أيضا غذاء ممتع ولذيذ.
نشر في مجلة المجتمع الكويتية، أغسطس 2020
[1] ابن حزم، رسائل ابن حزم، 4/73؛ ابن الجوزي، شذور العقود في تاريخ العهود، تحقيق: د. أحمد عبد الكريم نجيب، ط1 (د. م: مركز نجيبويه، 2007م)، ص33، 34.[2] ابن الأكفاني، إرشاد القاصد إلى أسنى المقاصد، نشر: طاهر بن صالح الجزائري، (بدون بيانات نشر)، ص18؛ وانظر: مسكويه، تجارب الأمم، 1/49.
[3] المسعودي، مروج الذهب، 2/53.
– – – – – – – – –
7- كتب متعلقة بالحج
تأليف د. محمد موسى الشريف
وعند الحج، أتذكر دائما الشيخ الدكتور محمد موسى الشريف فك الله أسره، وأرشح قراءة هذه الكتب له:
1- الرحلات الحجازية
وهو كتاب مختصر من 24 رحلة إلى الحج، تستعرض فيه أنفاس الحجاج وأجواء الحرمين عبر الزمن
http://www.archive.org/download/waq49761/49761.pdf
2- المقالات النفيسة في الحج إلى الأماكن الشريفة
وفيه جمع الشيخ نخبة من مقالات العلماء والأدباء والدعاة عن الحج ومعانيه، استخرجها من المجلات والصحف ونحوها.
https://waqfeya.com/book.php?bid=6348
3- الشوق والحنين إلى الحرمين
وهو كتاب مستخلص من كتاب “الرحلات الحجازية”، جمع فيه أخبار الشوق والحنين إلى الحرمين.. فذلك هو رحيق الرحيق!
https://books.islamway.net/1/oqail/alshreef–1.pdf
*من معاني شعائر الحج*
ﻭَﻗَﺎﻝَ ﻫَﺎﺭُﻭﻥُ ﺑْﻦُ ﺃَﺑِﻲ اﻟﻬﻴﺬاﻡ: ﺣﺪﺛﻨﺎ ﺳُﻮَﻳْﺪُ ﺑْﻦُ ﺳَﻌِﻴﺪٍ ﻗَﺎﻝَ: ﻗَﺎﻝَ اﻟْﺨَﻠِﻴﻞُ ﺑْﻦُ ﺃﺣﻤﺪ: ﺳﻤﻌﺖ ﺳﻔﻴﺎﻥ اﻟﺜﻮﺭﻱ ﻳﻘﻮﻝ:
“ﻗَﺪِﻣْﺖُ ﻣَﻜَّﺔَ، ﻓَﺈِﺫَا ﺃَﻧَﺎ ﺑِﺠَﻌْﻔَﺮِ ﺑْﻦِ ﻣُﺤَﻤَّﺪٍ ﻗﺪ ﺃﻧﺎﺥ ﺑﺎﻷﺑﻄﺢ، ﻓﻘﻠﺖ: ﻳﺎ اﺑﻦ ﺭَﺳُﻮﻝِ اﻟﻠَّﻪِ، ﻟِﻢَ ﺟُﻌِﻞَ اﻟْﻤَﻮْﻗِﻒُ ﻣِﻦْ ﻭَﺭَاءِ اﻟْﺤَﺮَﻡِ ﻭَﻟَﻢْ ﻳُﺼَﻴَّﺮْ ﻓِﻲ اﻟْﻤَﺸْﻌَﺮِ اﻟْﺤَﺮَاﻡِ؟”
ﻓَﻘَﺎﻝَ: “اﻟﻜﻌﺒﺔ ﺑﻴﺖ اﻟﻠَّﻪِ، ﻭَاﻟْﺤَﺮَﻡُ ﺣِﺠَﺎﺑُﻪُ، ﻭَاﻟْﻤَﻮْﻗِﻒُ ﺑَﺎﺑُﻪُ، ﻓَﻠَﻤَّﺎ ﻗَﺼَﺪُﻭﻩُ ﺃَﻭْﻗَﻔَﻬُﻢْ ﺑِﺎﻟْﺒَﺎﺏِ ﻳَﺘَﻀَﺮَّﻋُﻮﻥَ، ﻓَﻠَﻤَّﺎ ﺃَﺫِﻥَ ﻟَﻬُﻢْ ﺑِﺎﻟﺪُّﺧُﻮﻝِ، ﺃَﺩْﻧَﺎﻫُﻢْ ﻣِﻦَ اﻟْﺒَﺎﺏِ اﻟﺜَّﺎﻧِﻲ، ﻭَﻫُﻮَ اﻟْﻤُﺰْﺩَﻟِﻔَﺔُ، ﻓَﻠَﻤَّﺎ ﻧَﻈَﺮَ ﺇِﻟَﻰ ﻛَﺜْﺮَﺓِ ﺗَﻀَﺮُّﻋِﻬِﻢْ ﻭَﻃُﻮﻝِ اﺟْﺘِﻬَﺎﺩِﻫِﻢْ ﺭَﺣِﻤَﻬُﻢْ، ﻓَﻠَﻤَّﺎ ﺭَﺣِﻤَﻬُﻢْ ﺃَﻣَﺮَﻫُﻢْ ﺑِﺘَﻘْﺮِﻳﺐِ ﻗُﺮْﺑَﺎﻧِﻬِﻢْ، ﻓَﻠَﻤَّﺎ ﻗَﺮَّﺑُﻮا ﻗُﺮْﺑَﺎﻧَﻬُﻢْ، ﻭَﻗَﻀَﻮْا ﺗَﻔَﺜَﻬُﻢْ، ﻭَﺗَﻄَﻬَّﺮُﻭا ﻣِﻦَ اﻟﺬُّﻧُﻮﺏِ ﺃَﻣَﺮَﻫُﻢْ ﺑِﺎﻟﺰِّﻳَﺎﺭَﺓِ لبيته.
ﻗَﺎﻝَ ﻟَﻪُ: ﻓَﻠِﻢَ ﻛُﺮِﻩَ اﻟﺼَّﻮْﻡُ ﺃَﻳَّﺎﻡَ اﻟﺘَّﺸْﺮِﻳﻖِ؟
ﻗَﺎﻝَ: ﻷَِﻧَّﻬُﻢْ ﻓِﻲ ﺿﻴﺎﻓﺔ اﻟﻠﻪ، ﻭﻻ ﻳﺠﺐ ﻟِﻠﻀَّﻴْﻒِ ﺃَﻥْ ﻳَﺼُﻮﻡُ.
ﻗُﻠْﺖُ: ﺟُﻌِﻠْﺖُ ﻓِﺪَاﻙَ، ﻓَﻤَﺎ ﺑَﺎﻝُ اﻟﻨَّﺎﺱِ ﻳَﺘَﻌَﻠَّﻘُﻮﻥَ ﺑِﺄَﺳْﺘَﺎﺭِ اﻟﻜﻌﺒﺔ، ﻭَﻫِﻲَ ﺧِﺮَﻕٌ ﻻ ﺗَﻨْﻔَﻊُ ﺷَﻴْﺌًﺎ؟
ﻓَﻘَﺎﻝَ: ﺫَﻟِﻚَ ﻣِﺜْﻞُ ﺭَﺟُﻞٍ ﺑَﻴْﻨَﻪُ ﻭَﺑَﻴْﻦَ ﺁﺧَﺮَ ﺟُﺮْﻡٌ، ﻓَﻬُﻮَ ﻳَﺘَﻌَﻠَّﻖُ ﺑِﻪِ ﻭَﻳَﻄُﻮﻑُ ﺣَﻮْﻟَﻪُ ﺭَﺟَﺎءَ ﺃَﻥْ ﻳَﻬَﺐَ ﻟَﻪُ ﺟُﺮْﻣَﻪُ.
انتهى
تاريخ الإسلام للذهبي
#يوم_عرفة #الحج #الطواف #البيت_الحرام
#ذو_الحجة #عشر_ذي_الحجة