التعليم والدراسات العليا معضلة وحلول!
(المقال على جزئين الأول لتشخيص بعض جوانب المشكلة وفي الثاني تتمة العرض وحلول مقترحة)
لقاء
التقيت أحد أصدقائي المهندسين المبدعين، فسألته عن أخباره وسبب انشغاله عنَّا، فوضّح لي بأنه مشغولٌ بدراسة الماجستير في احدى جامعاتنا، وإذا به يُتبِع الحديث تلقائيا يقول بأنه لم ولن ينتفع علمًا جديدًا لا يعرفه، وبأنه توقع هذا قبل أن يسجل، ولكن الشهادة لها اسمها!
ضياع العمر
تخيلوا أيها السادة الطالبُ المُجِدُّ في بلادنا، المستعد للصبر على مزيد من سنوات التحصيل العلمي، يهدر سنوات من عمره للماجستير ومثلها بل أكثر منها أحيانا للدكتوراة، ومكسبه في كل ذلك أن يضع ( د ) قبل اسمه!!
سنوات يقضيها مع كتب قديمة وطريقة تقليدية، وبحثٍ جَمعِي، غالبا ما تظهر فيه ميول المشرف وهواه أكثر من الطالب، فقط لأخذ درجة علمية، والطالب مضطر لها للوصول إلى ما يطمح اليه، فيفرغون طاقاته وحماسه فيما لا يقدم نفعا للناس!!
المشرفون والجمود
“بل إنَّ كثيرًا من الجامدين حتى ممن يحملون الألقاب العلمية، ويشرفون على الباحثين ويشاركون في مناقشة البحوث -مع الأسف- يُخرجون هذه البحوث بطريقة مناقشتهم وملاحظاتهم عن مقصودها وهدفها ولبّها وفائدتها الحقيقية، فترى أن كثرهم يمنعون الباحث من الترجيح ناهيك عن الاجتهاد والإتيان بجديد”!!
الدراسات في الدول المتحضرة
في حين أنَّ الدراساتَ العُليا في الدولِ المتحضرة أبحاثُها إمّا أن تكونَ حول اكتشاف جديد، أو نظرية جديدة، أو اثبات أو نفي نظرية قديمة، أو ابتكار واختراع وتقديم حل ومعالجة مشكلة أو سد ثغرة أو إصلاح خلل… وبهذا تكون سنوات البحث العلمي للطالب تثمر في بناء المجتمع والدولة لا بتحصيل ( د ) فقط!
ورقات قليلة للدكتوراة!
ولذلك في حين لا يجد الباحث بيننا دارًا للطباعة تنشر بحثَه، فيبقى البحث حبيس الأدراج، أو في ملفٍ إلكتروني، لأن لا قيمة حقيقية له، ترى أن الشركات والمؤسسات تتنافس في تلك الدول المتقدمة على شراء البحث من صاحبه لأنه سيحقق لها أرباح كبيرة، وقيمة مضافة.
والمتابع يعلم أنَّ الجامعات العالمية المرموقة تعطي درجة الدكتوراه على بحث صغير الحجم، (عدة ورقات) ولكنه غالبًا بحثٌ مركزٌ قوي يُحدث نقلة نوعية في بابه، وليس بالضرورة أن يكون حشوًا جمعا الهم فيه العدد لا الكم، والذي نضطر إليه في جامعاتنا للسير على هوى المشرف لكي يستطيع الطالب الانعتاق.
عقدة الدال
وعقدة الدال هذه قصتها قصة، عقدة وهمٍ عند الناس أن من كُتب قبل اسمه دال فهو أجدر!!
من فترة كنت في مجلس، دار فيه حوار عن موضوع فإذا بأحدهم يطرح طرحا سقيما والبعض يخاطبه يا دكتور ويوهم الناس بأنه صاحب الكلمة الفصل في الموضوع، والناس توهمت أنه من ذوي الاختصاص في الموضوع وكلام العالِم مُقدّم، ثم لما سألته صراحة عن اختصاصه أجاب بأنه (طبيب بيطري) وليس حديثي هنا انتقاصًا من هذه المهنة ولا غيرها، ولكن المهم أن يقال للشخص دكتور ليتوهم بأنه الأجدر بالحديث، ولو كان الحديث لا علاقة له بالبيطرة!
وهم بعده إعادة التدوير
ولأجل هذه العقدة غدا الشعار السائد عند طلابنا اجتهد فيما يعطونك، لتأخذ الدرجة العلمية وبعد انتهائك تتفرغ لمزيد من البحث والاجتهاد! وهذا وهمٌ أيّما وهم، يتوهم الطالب أنه بعد أخذ الشهادة سيبحث بحثًا علميا حقيقيًا، ولكن هذا وهمٌ كبير فالطالب حينها سيكون تجاوز الثلاثين من عمره غالبا وتبدأ عجلة الحياة حوله تدور بمزيدٍ من السرعة وبالكاد يكون همُّه أن يبني حياته المادية والاجتماعية من خلال إعادة تدوير بقايا العلم القديم الذي أخذه ممن أعادوا تدويره له، وستكون شتلات الإبداع قد ذبلت وماتت في صدره…
وهذا ما جعلنا نخسر الكثير من المبدعين الذين زهدوا بالدراسات العليا التقليدية وآثروا الإبداع على الجمود، وليس لدينا إلى اليوم منظومة مناسبة تستقطبهم!
(ولو سألتم أنفسكم عمَّن طوروا الاختراعات المدنية والعسكرية التي حلت الكثير من المشاكل حولنا لعرفتم من يستحق الصدارة وما المعيار)…
لأكون دكتورا في الجامعة
كما اسلفنا أيها السادة فالعلم الحقيقي هو العلم الذي ينفَع العمل، من يخدم البشرية بإضافة نافعة تزيد سعادة أو تمنع ألم، تعطي قوة أو تحل مشكلة…
عندما أسأل معظم طلاب الدراسات العليا في زماننا عن طموحهم بعد الانتهاء من الدراسة، يجاوبني أغلبهم: “أن أكون أستاذًا في الجامعة”. وهذا شيء جميل لو كان عنده تصور عما سيقدمه من قيمة مضافة حقيقية لطلاب الجامعة.
ولكن الحقيقة الواقعية تقول بأنه يريد أن يُدرِّس في الجامعة لأن لا مكان يستفيد منه منصبا وسلطة وسمعة غير الجامعة لأنّ ما بين يديه ليس علمًا حقيقيًا ينفع العمل، فتراه يخطط ليستثمر بأوراقه التي ستزيِّنُ الجدران!
هل تعلمون أن كبرى مدراء شركات البحث العلمي والتطوير الصناعي والتكنولوجي -في الدول المتقدمة- هم حملة الشهادات العليا، وراتبهم ودخلهم أكبر من مردود أستاذ الجامعة بكثير، ولكننا لا نملك العلم العملي فيكون الطموح فقط بإعادة تدوير المنتجات القديمة!
(دخلتُ مرةً معمل خيط مميز في مدينة حلب ركبته إحدى الشركات الإيطالية كان من يشرفون على التركيب ثلاثة برتبة بروفيسور، وهم كانوا جزء من الفريق الذي صمم هذه الآلات الجديدة، وكان من يعاونهم مهندسون).
عندما نكبل أنفسنا زمن الحرب
من المفارقات المدهشة المبكية في واقعنا، أن علومًا مهمة واختصاصات نحن نحتاجها بقوة لبناء سوريا بعد الحرب غير موجودةٍ في جامعاتنا القائمة في المناطق المحررة، والحجة عدم وجود حملة شهادة دكتوراة!!
مثلا كلية الهندسة المعمارية، من أهم الاختصاصات لبناء سوريا الجديدة، لا يوجد عندنا جامعات لحجة عدم وجود حملة شهادة دكتوراة!!!
وسابقًا كنّا في الجامعة وكان أكثر من ثُلثا الكادر التدريسي في كليات الهندسة مِنَ المهندسين، فهم يؤدون دور الدكاترة نفسه بالنسبة لطلاب البكالوريوس، (وليس هذا انتقاصًا من مكانة الدكاترة معاذ الله) ولكن الواقع يقول لي أن المهندسين الذين بيننا يمكن أن يقوموا بهذه المهمة على الأقل لتخريج مهندسين، ولا نفكر حاليا بمنح شهادة دراسات عليا، في النهاية نحن نريد ما ينتج العمل، ولكم بتجربة غزة عِظة، حصلت عندهم طفرة علمية قوية عندما تحرروا من القيود التي تقيِّدُ الإبداع.
لو كنت الأمير
- لشكلت لجنة أبحاثٍ علمية من المبدعين الذين قدموا جديدًا في مجالهم العلمي، ولاشترطت في مجال الدراسات العليا أن لا تُقبل خطة بحث الباحث ما لم يقدِّم قيمةً مضافةً (وهذا في الكليات التجريبية والنظرية على حد سواء).
- ولمنحت إجازات وبراءات اختراع وابتكار للمبدعين في المجال الذي ابتكروا فيه وقدموا لنا اختراعات حلت لنا مشكلة، لأحفظ لهم مكانتهم وحقوقهم.
- ولما قيَّدت نفسي بشكليات الجامعات لكي يأتي لاحقا من درس عند أعدائي وحمل توجهاتهم ليأخذ مكان ابني، بل لحاولت ترميم النقص في الكليات غير الموجودة بحملة الإجازة فيها.
- ولتركت الحرية لكل صاحب علمٍ أن يفتتح مركز تعليمٍ ونشاطٍ لما يريد تقديمه من علم وابتكارات، وسيكون السوق الحر وإثبات الكفاءة في سوق العمل هو المعيار…
(أعرف صناعيا كان في حلب لم يجتز الصف التاسع كان ينظر نظرة للآلات العملاقة المستوردة فينسخها طبق الأصل (ميكانيكيًا) بشكل عجز عنه كثير من مهندسي الميكانيك الذين عرفتهم حينها، وكان أصدقاؤنا مهندسوا التحكم والإلكترونيات يصممون لها أنظمة تحكم فتنجز الآلة ب 30% من ثمن المستوردة، مثل هذا الشخص أليس حريا أن توجد آلية لاستقطابه وأن يتتلمذ عنده الناس ليتعلموا أسرار حرفته)
وهذا ليس بدعا من القول اليوم كبرى الشركات العالمية، Google, Apple , SAMSUNG…. تطبق هذه الطريقة في التوظيف ولا تسأل عن شهادة المتقدم حتَّى، ولذلك طرح دونالد ترامب هذه الفكرة كمعضلة يود حلها حتى على مستوى العمل البيروقراطي الحكومي؛ مع أنهم فعليًا أوجدوا لها حلًا منذ زمن بعيد في المجال التقني: وهو من خلال تعاقد الشركات مع الدولة؛ مثلا شركات تصنيع السلاح السري الأمريكي وشركات التكنولوجيا، تشرف عليها الدولة الأمريكية وتدير سياستها الاستراتيجية ولكنها في النهاية شركات خاصة، متحررة من قيود البيروقراطية الحكومية، توظف المبدعين والمبتكرين والخبراء ولا تتقيد بقيود البيروقراطية الحكومية… وبقي لديهم معضلة المناصب الإدارية الحكومية والتي تجاوزوا بعض مشاكلها من خلال توظيف خبراء مراكز الأبحاث بعيدا عن قيود البيروقراطية بل بناء على نوع ما يقدمونه.
☝️ تفجير طاقات المجتمع هو ما ينهض بالبلاد، والدور الأساسي للأنظمة القمعية كان كبت الإبداع وقتل الإنجازات، ولن تنهض شعوبنا ما لم نتجاوز ذلك.. وللحديث بقية، دمتم بخير.