بقلم: لبيب نحاس
إحاطة المبعوث الدولي غير بيدرسون الأخيرة كارثية وخطيرة جدا، واستعمال مصطلح “العدالة التصالحية” بدلا من “العدالة الانتقالية” يعني بكل بساطة التفريط بحقوق ومظالم ملايين السوريين مقابل حفنة من الدولارات (في أفضل الحالات) وإلغاء أي محاسبة للمجرمين
استعمال بيدرسون لمصطلح “العدالة التصالحية” لم يأتِ من فراغ. سيحلو للبعض التركيز على تآمر المجتمع الدولي ضدنا كسوريين وكثورة، ولا شك أن هناك أطرافا دولية تعمل لمصالحها الخاصة، ولكن “انحراف” بيدرسون الأخير هو نتيجة طبيعية لانحرافات أهم من قبل المعارضة
انحرافات المسار السياسي أصبحت كثيرة: بدأت بالانتقال من حل شامل إلى سلال منفصلة، تلاها إدخال منصتي موسكو والقاهرة في المعارضة، ومن ثم تفعيل سلة الدستور لوحدها دون أي ضمانات حقيقية بتفعيل باقي السلال ومن ثم تجاهل موضوع هيئة الحكم الانتقالي والبيئة الآمنة
كل الانحرافات في العملية السياسية ضد مصالح الشعب السوري بعمومه تمت وسط مهرجانات الانتصارات السياسية الوهمية لبعض قيادات المعارضة وحملات التدليس على السوريين التي استغلت ضعف اطلاع البعض واستثمرت في حالة اليأس والضعف للترويج لمشروع سياسي خاسر، ولأنفسهم أيضا.
من المضحك، بل من الكوميديا السوداء، أن تخرج بعض قيادات المعارضة اليوم بخطابات نارية “بعثية” لتظهر استغرابها من “انحراف العملية السياسية” بينما هم كانوا أهم عرابي وركائز ما وصلنا له اليوم من انحرافات خطيرة، رغم أنه تم تحذيرهم من أن اللجنة الدستورية منزلق خطير سيخرج عن السيطرة ويحرف المسار السياسي بأكمله
اليوم يتم ذكر هيئة الحكم الانتقالي والبيئة الآمنة من قبل بعض قيادات المعارضة من باب “التنصل” فقط، ويتم ذكرها في آخر جملة من الخطاب ولتبرئة الذمة، ولكن الجهود الحقيقية تنصب حصرا على ملفي الدستور والانتخابات (الائتلاف مثالا)، وهي ملفات غير قابلة للحل دون بيئة آمنة
لا يجب أن نلوم بيدرسون قبل أن نلوم أنفسنا: فنحن لم نسمع يوما أي مبعوث دولي يُخطئ في الترجمة ضد مصالح النظام، ولم نرَ أي تعديلات أو “انحرافات” في العملية السياسية ضد مصالح النظام، سواء أثناء انكساره العسكري أو بعد تدخل روسيا. الفارق هو أن النظام دافع ويدافع بشراسة عن مصالحه بينما من يُفترض أنه يمثل المعارضة لم يفعل ذلك .
بعيدا عن الخطابات الرنانة: المعارضة لم تستعمل يوما أداة الضغط السياسي فعليا، وكانت عن حمق أو خيانة تبادر إلى تسهيل العملية السياسية بأي ثمن تحت وهم “إحراج النظام”، بينما تمكن النظام الفاقد للشرعية من فرض شروطه دائما بغض النظر عن بعض التفاصيل التقنية التي لا قيمة لها عمليا والتي تتغنى بها بعض قيادات المعارضة على أنها نصر سياسي
الأسواء من ذلك، هو أن بعض قيادات المعارضة تصر على إقناع السوريين بأن التصلب في المواقف السياسية لا فائدة منه وأننا جربنا هذا في حلب وكانت النتيجة سقوط حلب. طبعا هذه كذبة كبيرة، ولكن ربما يجب تذكير البعض أنهم أثناء الحملة العسكرية الأخيرة على شمال حماة وجنوب إدلب سارعوا في الذهاب إلى جنيف أثناء حرق إدلب وقتل أهلها من قبل النظام للقاء بيدرسون ومناقشة “تفعيل اللجنة الدستورية”، والجميع يعلم المصير الذي آلت إليه هذه المناطق.
ويجب التذكير هنا أيضا أن عرابي اللجنة الدستورية أكدوا أثناء ترويجهم للجنة الدستورية أنه إذا حصلت حملة عسكرية على إدلب فسوف يجمدون مشاركتهم في اللجنة الدستورية لحين توقف الحملة. ما حصل فعليا أنهم أثناء إبادة أهلنا في سوريا كانوا يسعون لتفعيل عمل اللجنة الدستورية.
عندما تكون الكلمة الافتتاحية لرئيس اللجنة الدستورية من طرف المعارضة كلمة رمادية تسعى لإرضاء حاضنة النظام بينما تكون كلمة ممثل النظام قوية وواضحة وتدافع عن مصالحهم، فمن الطبيعي أن يدرك المبعوث الدولي أنه يتعامل مع طرفين غير متكافئين، وبما المبعوث الدولي مكلف بإنجاح المسار السياسي فهو يعلم من أين تؤكل الكتف، وعلى من يستطيع أن يضغط ومن هو الطرف الطيع المرن ولو على حساب مصالحه
عندما يستعمل المبعوث الدولي مصطلح العدالة التصالحية بل وطلب من أعضاء كتلة المجتمع المدني عدم إثارة بلبلة حوله، فإنما يقوم بذلك لأنه خبر بعض قيادات المعارضة وعرف أنه مهما “أخطأ” بحق المعارضة ومهما ضغط على المعارضة فهي طرف مضمون ومتعاون.
الآن، تتابع البيانات والخطابات النارية والتوضيحية من قبل بعض قيادات المعارضة التي كانت هي السبب الرئيسي في الكارثة السياسية التي نعيشها اليوم. لو نظرنا إلى الأشهر الأخيرة لوجدنا أن جل جهد ووقت بعض قيادات المعارضة ينصب على أمرين: ارتكاب الأخطاء ومن ثم العمل على تدليس الوقائع على الناس وتبرير هذه الأخطاء من خلال جولات مكوكية مع شرائح منتقاة
حتى أن توضيح رئيس اللجنة الدستورية من طرف المعارضة لم يصدر إلا بعد أن أصدر المبعوث الدولي توضيحه الخاص. التراتبية هامة في العمل المؤسساتي، وكذلك الحنكة السياسية، وربما لولا اعتراض بعض شخصيات المجتمع المدني والاستنفار القوي لجمهور الثورة لما سمعنا شيئا.
عندما يتم إنفاق جل الوقت في تبرير الأخطاء، وترقيع نتائج الكوارث السياسية التي تم ويتم ارتكابها، عندئذ ربما يكون قد حان الوقت للاعتراف بضياع البوصلة واتساع الخرق على الراقع ، وآن الأوان لأخذ خطوة إلى الوراء، ولكن كلنا يعلم أن هذا لن يحصل. لذلك يجب استمرار الرقابة والضغط لأن صوتنا وإرادتنا هما الأهم وإن حاولت شخصيات من المعارضة إقناعنا بعكس ذلك.