سمعتم كما سمعتُ مقولة: أن العلماء والمشايخ ليس لهم في السياسة، وهذه المقولة ليست بجديدة علينا فقد استخدمها الطغاة والمستبدون في عالمنا الإسلامي منذ زمن بعيد من باب النصيحة للمشايخ وأهل العلم كما يزعمون، فقد قالوا لهم: إنَّ السياسة نجاسة وعلى المشايخ وأهل العلم أن يتنزهوا عنها حتى لا يتلوثوا بها أو يصيبهم شيئاً من رشاشها، وعليهم أن يبقوا على طهارة قيمهم ومبادئهم، وأن هناك تعارضاً بين الدعوة والسياسة فلا يمكن للمرء أن يجمع بينهما، وما قالوه تفريع عن المقولة الخبيثة التي يروّج لها بعض الباحثين أيضا (لا سياسة في الدين ولا دين في السياسة) ولن نقف عند تفنيدها الآن، وإن كان جزءا من توضيح مانحن بصدده سيكون فيه بعض التفنيد لهذه المقولة.
أقول ويا للأسف قد نجح ما خطط له الحكام المستبدون في ذلك إلى حدّ ما ليبعدوا الناس عامة، والمسلمين خاصة عن منازعتهم الحكم فبدأوا برؤوس الناس وهم العلماء ليبعدوهم عن هذا الأمر، وقد اقتنع أو انخدع كثير من العلماء والمشايخ بهذه الخديعة وظنوا فعلاً بأنهم لا يحسنون السياسة وأنهم ليسوا من أهلها، وأن عليهم التنزه عنها والفرار منها.
وإن كان بالطرف المقابل كثير من العلماء والمشايخ قد وقفوا في وجه هذه الخطة الخبيثة، ولم يقبلوا بتخلي العلماء عن السياسة، وأكثر من ذلك فقد خاض بعضهم غمار العملية السياسية وشارك في الانتخابات ودخل البرلمان في الدول التي فسحت بعض المجال لهم. ومع ذلك استطاع هؤلاء المستبدون ومن يساندهم من أعداء الأمة وهم في الحقيقة السادة لهؤلاء الحكام أن يتخلصوا من هؤلاء العلماء الواعين وأن يبعدوهم من طريقيهم ويقصوهم إما بالاغتيال وإما بالسجن وإما بالإبعاد عن أرضهم وجماهيرهم.
وكل ذلك ليس بمستغرب وإنما الغرابة كل الغرابة أنَّ ثلة من المفكرين وممن يوسمون بالباحثين من أبناء جلدتنا وممن يتكلمون بألسنتنا قد تبنّوا هذا الاتجاه، وأصبحوا يروجون له وينظّرون له ويوجهون على حسب زعمهم الجماهير التائهة إلى طريق خلاصها من أسر ما أطلق عليه الغربيون الإسلام السياسي، وقد قال قائلهم إن دور العلماء محصور في الدعوة والدعاء والفتوى.
أما أن يقال إن كثيراً من العلماء والمشايخ حسب الواقع لم يكونوا على مستوى الأحداث التي جرت وتجري في عالمنا العربي والإسلامي ولم يظهر عليهم ضلوعهم أو اطلاعهم بالسياسة في المرحلة الماضية فهذه حقيقة لا ننكرها، وإن كان لذلك أسباب موضوعية كثيرة نعرِض لبعضها على سبيل التمثيل لا الحصر:
منها عدم أهلية البعض فكثير ممن يحسبون على سلك العلماء هم ليسوا منهم على التحقيق-فليس كل من صف الصواني حلواني- ففي كثير من البلاد أصبحت المشيخة صنعة وتكسّباً، كما أن بعض الحكومات ساهمت وشجعت على سلوك كثير من أصحاب المستويات المتدنية سبل التعليم الشرعي لأسباب لا تخفى. ومنها: أن الحكومات المستبدة هي نفسها من صنعت جزءا من هؤلاء.
ومنها: أن هذه الحكومات أبعدت من بقي من العلماء عن السياسة إما بالترغيب وإما بالترهيب حتى إننا رأينا من المشايخ ممن كان يضطر أن يعلن لجماعته ولتلامذته ومريديه أنهم ليس لهم علاقة بالسياسة لا من قريب ولا من بعيد، ويقول لهم: فروا من السياسة فراركم من الأسد وبقي هذا الحال لعقود. ومنها: ولو بقدر قليل أن بعض المشايخ خاصة ممن يميل إلى الزهد انطلت عليهم الحيلة واعتقد أن السياسة نجاسة وأن عليهم أن يبعدوا الدعوة عنها.
وقد يسأل سائل بعد كل ما ذكرت ماذا تريد أن تقول؟ الذي أريد قولَه أنَّ ما روّج إليه الحكام المستبدون وبعض الباحثين من أنه لا ينبغي للعالمِ أن يقتحم مجال السياسة لهو من أكبر الطامات في حياة الأمة الذي جعلها تعيش ضياعاً وخسارات ومتاهات مستمرة، وهو ما جعل فاعلية المسلم تنحسر وتنحصر في الشعائر التعبدية بعيداً عن بقية مناحي الحياة، وهو أيضاً من أهم الأسباب التي جعلتنا لا نستفيد شيئاً من نتائج ما يسمى بالربيع العربي رغم التضحيات الهائلة التي بذلتها جماهير الأمة.
وأضيف إن ما ذكر من تعليلات وتبريرات لمقولة -السياسة نجاسة وأن على المشايخ الابتعاد عنها- لا يستقيم ولا ينبغي أن نسلّم به، وأما عدم كفاية العلماء فهذا ليس على عمومه ولا على إطلاقه، وما وجد من قصور – وهو موجود ولا شك- ينبغي معالجته إما بالاختصاص، أو بما ينادي به كثير من أهل العلم بتعدد التخصص، كما يمكن للكليات الشرعية وخاصة الخاصّة منها التي لا تخضع لسياسات الحكومات أن تدرّس ضمن مناهجها ما يتعلق بأسس السياسة مما لا يجوز للعالم جهله.
إذا لم يكن الشيخ فقيها بالأمر له معرفة بالناس تُصور له الظالم بصورة المظلوم وعكسه، والمحق بصورة المبطل وعكسه، وراج عليه المكر والخداع والاحتيال
وخلاصة الأمر: أنه لا يجوز بأي حال أن يتم الفصل بين أهل العلم والسياسة، وهذا على التحقيق لا يليق بأهل العلم والعلماء الذين هم منارات الأمة ودليل الجماهير على مر التاريخ، وإلا فإنا قد أخرجنا الإسلام من الحياة، وحصرناه في البيت والمسجد. وبالمناسبة نحن هنا لا نقول إن المشايخ يجب أن يكونوا بالضرورة قادة في العمل السياسي، ولكن ما نقوله أنه ينبغي أن يعلَموا السياسة وأن لا يبتعدوا عنها ولا يتركوا ساحتها لينفرد بها غيرهم.
وأخيراً قد يقول قائل إنَّ السياسة اليوم هي فن المراوغة وفن الممكن، وتنطوي في كثير من تفاصيلها على الكذب والخداع، فكيف للعلماء أن يقتربوا منها؟ أقول ومع ذلك عليهم أن يعرفوها وهي بهذه الحال، بل قد يكون ذلك ألزم في حقهم لأن جزءاً من الحكم الذي سيصدر عنهم مبني على معرفة الواقع ومعرفة كل ما يجري حولهم، وكذلك معرفة مكر الناس وخداعهم واحتيالهم، وأيضاً قد يكون ذلك من باب قول الشاعر:
عَرَفْتُ الشّرَّ لا لِلشّرِّ لَكِنْ لِتَوَقّيهِ
وَمَنْ لَمْ يَعْرِفِ الشّرَّ منَ الناسِ يقعْ فيهِ
و إذا أردت أن تقف على نموذج مما ينبغي لمن يتصدر للفتوى والحكم بين الناس من العلماء من معرفة الناس والواقع فإليك هذا النص من كتاب أعلام الموقعين4/ 157، للإمام ابن القيم، يقول ابن القيم: في صفات المفتي: “الخامسة معرفة الناس” فهذا أصل عظيم يحتاج إليه المفتي والحاكم، فإن لم يكن فقيهاً فيه فقيهاً في الأمر والنهي ثم يطبق أحدهما على الآخر، وإلا كان ما يفسد أكثر مما يصلح، فإنه إذا لم يكن فقيها في الأمر له معرفة بالناس تُصور له الظالم بصورة المظلوم وعكسه، والمحق بصورة المبطل وعكسه، وراج عليه المكر والخداع والاحتيال، وتصور له الزنديق في صورة الصديق، والكاذب في صورة الصادق، ولبس كل مبطل ثوب زور تحتها الإثم والكذب والفجور، وهو لجهله بالناس وأحوالهم وعوائدهم وعرقياتهم لا يميز هذا من هذا، بل ينبغي له أن يكون فقيهاً في معرفة مكر الناس وخداعهم واحتيالهم وعوائدهم وعرقياتهم، فإن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والعوائد والأحوال، وذلك كله من دين الله كما تقدم بيانه، وبالله التوفيق.
المصدر: موقع الجزيرة القطري