صناعة المرتزقة
دائمًا نقول بأنَّ التدريب أجدى وأنفع بكثيرٍ من مجرَّد التعليم والتلقين، قالوا: (أخبرني وسأنسى، أرني ولعلي أتذكر، شاركني وسوف أتعلَّم)، اليوم نرى من أوجد بيئةً وظرفًا يدرِّب فيه أبناءنا في المحرر على أن يكونوا مقاتلين مُرتزَقة، يقاتلون لا عن مبدأ سوى أخذ المال، يُقاتِلون ويُقتَلون في سبيلِ المال، بعيدًا عن أرضِهم التي يرَون بعضها عن بعدٍ ولا يطولونها.
بالتأكيد لو عرضت هذه الفكرة على أي منهم في الحالة الطبيعية، لن يقبلها ولن يستسيغها، ولكن الظرف الحالي من التضييق على معاش الناس في الشمال المحرَّر، (حيث راتب المقاتل لا يتجاوز 50 دولار وأحيانا 25 دولار في منطقة لن تجد فيها دارًا صالحة للسكنى البشرية تستأجرها بهذا المبلغ)، وعيش الناس في خيام بعيدًا عن مقومات الحياة الكريمة، أضف إلى ذلك الهيمنة على قرار الثورة السياسي والعسكري بطريقة توصل المقاتل بأنه يقاتل لا لثورته ووطنه، بل بأوامر قادة غدَو مُستأجَرين وتم منح معظمهم جنسية الدولة التي يعملون عندها… فحينها سيدخل المقاتل في دوامة صراعٍ نفسي، تحدِّثُه نفسه قائلًا: “طالما أنني أقاتل مع هذه الجهة ولصالحها فلماذا لا أقاتل حيث المال الوفير والأجر الجزيل؟!” ، ويبدأ يبرر لنفسه، وقسوة الظروف المعاشية التي يعيشها الناس في الشمال المحرر ستجعل المحيط الاجتماعي يُبرِّرُ له ذلِك، بل قد يُشجِّعه عليه، وحتى الأوساط الدينية حارت في الفتيا حول ذلك، لا لمشكلةٍ في القياس والدليل بل لما بلغه حال الناس اليوم من شدة الفقر والبؤس… وفي النهاية سنجد مقاتلا ( #مرتزقا ) ذهب ليقاتل لا لأي مبدأ يقتنع به سوى جمع المال مقابل القتال، وشيئا فشيئا، وشهرًا بعد شهر سيعتاد ذلك ويألفُ ذلِك، ثم ما تلبث أن تُصبح هذه عادةً دارِجةً في هذا المجتمع، الذي تمَ الضغط عليه عشر سنوات ليصِل إلى هذا الحال.
مغالطات وأجوبة
لعل قائلا يقول بأنَّ هذه دولتنا والحروب هناك حربُنا وما شابه ذلك، ولذلك قررت الجواب بشكل مختصر من المنظور السياسي والمنطقي، والأثر الخطير الاجتماعي والسياسي والعسكري الآني والمستقبلي على الواقع السوري، أمّا من الناحية الدينية فذلك تجدونه في الرسالة التالية إن شاء الله.
*من #الناحية_السياسية* فمعلومٌ للجميع أن العاقل يسعى لتقليل عدد أعدائه ما أمكن لكي لا يشتت طاقاته بل ليركزها في وجه عدوِّه الأصلي، فكيف به وهو يفتح على نفسه جبهاتٍ لا قِبَلَ له بها، وقد تُسبِّبُ له عداوة تدوم قرونا من الزمان مع دولٍ وشعوبٍ أخرى؟!
ولعل قائلا يقول: “في السياسة العبرة بالمكسب الصلب الاستراتيجي وليس بالمكاسب الهشَّة، والحروب التي يتم نقل السوريين إليها تدخل في هذا الباب على صعيد من أرسلهم”، ويأتينا أخر ليسترجع ذكريات الماضي فيقول: “أهلنا قاتلوا في جنق قلعة وفي غيرها”، فنقول له هذا صحيح في حينها، يوم كان ابن حلب كابن استانبول، مواطنان في دولة واحدة يتمتعان بنفس الحقوق والواجبات، أما الآن ونحن لسنا كذلك، ونحن نرى أرضنا أمامنا تسلب منا، ونحن نرى المتاجرة بأبنائنا وتنفيذ مخططات الدول بنزع شوكة أهل السنة وتفريغ سوريا من سلاح السنة فقط ومن مقاتليهم، حينها سيكون سؤالنا: وما دخلنا نحن بتلك الحروب، التي تعطي مزيد شرعية للنظام ومن معه (وهم الذين يملكون آلة إعلامية أقوى من آلة الثورة الإعلامية بكثير) ليرسِّخوا فكرةَ أنهم نظام شرعي يقاتل عصابات مرتزقة إرهابية عابرة للحدود… فضلا عن ترسيخ هذه الفكرة في أذهان المقاتلين أنفسهم وفي العقل الجمعي للمجتمع.
بين الحقيقة والأوهام
العاقل ينطلق من الحقيقة والواقع، لا مِن الخيال المتوهَّم والمتمنَّى، وهذا التذكير مهم جدا وبالذات للمشايخ الذين ينطلقون من أماني شاعرية مرتبطة بما طواه التاريخ… فضلا عن أنَّ ما تحلمون به ينكره الطرف الآخر قولا وفعلًا، ويكفي أن تنظر لمعاملتك ومعاملة نظيرك من أبناء تلك الدولة لتعرف الفرق.
وأد فكرة الثورة
قالوا يوما: “الثورة فكرة، والفكرة لا تموت”، واليوم ما نشهده هو محاولة لدق المسامير الأخيرة في نعش فكرة الثورة، وبعد سنواتٍ قليلة سيعتاد المقاتل على فكرة القتال لمن يدفع له بغض النظر عن المبدأ والفكرة، وسيعتاد المجتمع قبول ذلك، تمهيدًا لمرحلة جمع أبنائنا من جديد مع أعدائنا في جيشٍ واحدٍ سيُسلَّطُ علينا وليس على غيرنا، بعد نزع سلاحنا وتجويعنا.
إضعاف عزيمة الصمود
فيما مضى كان ذلك الفقير الجائع البسيط يصمد مع أنه يَرى كيف قُتِل إخوانهُ فشُرِّد أولادهم ولم يلتفت لهم أحد، ومع ذلك يصمُدُ ويثبُت لأنه يُقاتِل عن عقيدةٍ ومبدأ، فكانت عقيدته وفكرة الثورة تثبتُه، ولكن مالذي سيدفعه للثبات اليوم وهم الآن يحاولون ترسيخ فكرة أن الجميع يقاتلون لمصلحة دولة أخرى، حينها سيسأل نفسه لماذا أقاتل هنا وأبقى فقيرًا… وشيئا فشيئا لن نجد من يدافع عما تبقى من أرضٍ لجأ إليها أحرار سوريا.
صناعة المافيات
أخطر ما في الموضوع أن هذا الباب لما فُتِح فتَح معه بابَ إثراءٍ غير شرعي إضافي لقادةٍ وزعماء، فالناس لِما بلغت من جوع وقهر تتنافس على الذهاب، والبعض يفرض اقتطاع 300 أو 500 دولار من راتب كل مقاتل شهريا، فلو كان لديه 500 مقاتل محسوبين عليه، فأنت تتحدث عن ربع مليون دولار دخل شهري له، هذا عدا ما يجنيه من التجارات غير الشرعية العابرة للدول!!!
تخيلوا معي أناسًا بلا مبدأ ولا أخلاق أصبح معهم ملايين الدولارات ومئات أو آلاف المقاتلين الذين يتم تعويدهم على القتالِ لمن يدفع لهم، هؤلاء بعد سنوات سيكونون كما (بلاك ووتر) في العراق، سيُسلَّطون على هذا الشعب لإسكاته ولقمعِه ولقتله ولترويضه حتى يعود إلى حظيرة الذل من جديد.
ليس هذا فحسب، بل تخيلوا نظرة شعوب الأرض إلينا، بعد الرسائل العملية التي يشاهدونها من سلوك مَن لا خلاقَ لهم من المقاتلين المرتزقة، الذين غدوا سفراء للشعب السوري في تلك الأماكن.
في الختام أقول:
أي مقاتل ترسله دولته للدفاع عن مصالحها الاستراتيجية عليه أن يلبي النداء، فراسموا السياسات أعلم بالمصلحة، ولذلك عندما نُعامل كمواطنين بكامل الحقوق حينها يجب أن نؤدي الواجبات، أما أن يقتل أبناؤنا لتُسلَّمَ أرضُنا، ولينعم غيرُنا بمزيدٍ من الرفاهية فهذا لا يرضاه عقلٌ ولا شرع، ومن قال لكم اذهبوا، قولوا له “تفضل قاتل معنا”… *وأما عن:*
**صراع العقل والعاطفة ومسؤولية القادة والنظرة الأخرى
**وقول بعض المشايخ ان هذا الفعل في دائرة المباح
فتعليقنا على ذلك تجدونه في الرسالة التالية إن شاء الله.👇
دينا بهذه النية والعقلية نعم مرتزقة
(ملاحظة: أكتب وجهة النظر الدينية هذه بعد احجام الجهات المتصدرة كمرجعيات شرعية عن الكلام في الموضوع، وكنت أنتظر مبادرتهم).
بسم الله…
من فترة خرجَ علينا بعض المشايخ، فقالوا لا يجوز أن نُسمي هؤلاء الذين يتركون أرضهم ليقاتلوا لأجل المال فقط في أماكِن أخرى مرتزقة، حتى قال بعضهم أن هذا الفعل (القتال مقابل المال) يدخل في دائرة العمل المباح، كالسفر للتجارة والعمل… وما شابه ذلك من كلام!!!
وقد أخطأوا في ذلِك أيَّما خطأ، لأنَّ الأدلة في الباب واضحة، وأشهرها الحديث الصحيح الذي نحفظه جميعًا من الصِّغَر، «إنّما الأعمال بالنِّيّات، وإنَّما لكل امرىءٍ ما نوى، فمن كانت هِجرتُه إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يُصيبها، أو امرأةٍ ينكِحُها، فهجرته إلى ما هاجر إليه» [والحديثُ متفقٌ عليه]. فمن كانت هجرته (وليس قتاله) لدولاراتٍ يجمعها فهجرته لما هاجر إليه، هذا إن كان الأصل في سبب الهجرة مباحًا، ولكن من قال لكم بأنَّ قصدَ القتال بما فيه من سفكِ الدماء وقتلِ الأنفس البشرية وتعريضِ النفس للتهلكة الأصلُ فيه الإباحة؟! وأي جاهلٍ يقيس ذلِك على طلب الرزق بالطرقِ المباحة؟!
الأصل في الأنفس البشرية حُرمة الدماء، ما لم تحِلَّ بطريقٍ وسبب شرعي صحيح، ولا يصح مباشرة الفعل المفضي إلى ذلك إلّا بنيَّةٍ مَرضِيَّةٍ شرعًا، وفي الحديث المتفَقِ عليه عن أبي موسى عبد الله بن قيس الأشعري – رضي الله عنه – ، قال: سُئِل رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – عن الرجلِ يُقاتِل شجاعةً، ويُقاتِل حمِيَّةً، ويُقاتِل رياءً، أيُّ ذلك في سبيل الله؟ فقال رسول الله – صلَّى الله عليه وسلّم-: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، فهو في سبيل الله». أي حتى القتال الذي سببه مَرْضيٌ شرعًا إذا خالط الإنسانَ زيغٌ في نيَّتِه فغدت الغنيمةُ التي أحلَّها الله للمجاهدين هي سببَه الأساسي للقتال قبل مرضاة الله، فلا يكون هذا جهادًا في سبيل الله، وإن كانت غنيمةُ المجاهدِ مِن أطيبِ الرِزق والنبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «جُعِلَ رِزْقي تحت ظِلِّ رِمحي». [البخاري]. ولكن ذلك بعد أن يكون قصد القتال في سبيل الله لا في سبيل المال.
وكذلك أخطأ من قاس ذلك على خروج الصحابة يوم بدر لاعتراض قافلة أبي سفيان، فقياسه باطل لأن الصحابة خرجوا لاستعادة حقوقهم وقطع الطريق على قافِلةِ من سَلبوا أموالَهم، وأخرجوهم مِن ديارِهم، وهم معهم في حالةِ حرب أصلًا، وبأمر النبي الذي ما ينطِقُ عن الهوى إن هو إلّا وحيٌ يوحى….
الخلاصة: إذا كان من قاتل مع النبيّ ولكن لم يُخرجه إلا السعي وراء الغنيمة، لم يعتبر النبيُ -صلّى الله عليه وسلَّم- جهادَه في سبيل الله، وإذا كان من هاجرَ لدنيا يصيبها، قال عنه النبي: فهجرته إلى ما هاجر إليه، فكيف لا نقول #مرتزقة عمن ذهب وترك وطنه ليقاتِل في غيره لا لأجل شيء سوى المال.
وهنا قد يقول القائل مبرِّرًا: الحربُ هناك حربُنا، فحينها سيكون الجواب ببساطة، لو دعيت للقتال هناك بنفس المنحة المادية التي يأخذها المرابط في الشمال السوري، هل كنت ستذهب؟ غالبا سيكون الجواب: لا، ولئن كذبتَ على الخلق أفتكذِبُ على الخالِق!
وحسبنا الله ونعم الوكيل،
طبعا أكرِّرُ التذكير بأنَّ الكلام أعلاه لمن يذهب من الشمال السوري المحرر، أمّا من كان جنديًا في دولةٍ وأرسلته دولتهُ لمصالِح استراتيجية لها، فذلك كما أسلفنا في الرسالة الماضية له حكمٌ آخر وواجبٌ عليه السمع والطاعة فيما لا يُغضبُ الله.