بقلم: لبيب النحاس
لا شك أن الأشهر الستة الأخيرة غيَّرت المشهد العسكري والسياسي في الساحة السورية بطريقة سلبية من منظور الثورة ومصلحة الشعب السوري الثائر، وإن تم مؤخرًا الحد من الديناميكية السلبية التي دخلتها الساحة، ولكن يبقى غياب الرؤية الشاملة والاستراتيجية المتكاملة هو العنوان الرئيس لعمل الثورة الذي بات يحتاج حلًّا جذريًّا سريعًا.
لقد تمكن الروس من خلال إدارتهم لرقعة الشطرنج التي تمتد على كامل الأراضي السورية، وبتفاهمات معينة مع أطراف دولية وإقليمية، من فرض قوانين لعبة جديدة على الساحة السورية ستكون قاتلة للثورة- لا قدر الله- في حال استمر الوضع على حاله دون قلب للطاولة.
فبعد بدء التدخل الروسي العسكري المباشر في أواخر الشهر التاسع من العام المنصرم، بدأ تحرك سياسي دولي حثيث تجاه القضية السورية، كان بمثابة الإعلان الواضح عن انتقال الدول الكبرى من حالة “إدارة الأزمة” إلى حلها، وتجلى هذا واضحًا في أخذ روسيا وأميركا بزمام الأمور بشكل مباشر وفعال، وتنحية الأمم المتحدة إلى دور مراقب تنفيذي، ويمكن اعتبار مؤتمر فيينا الثاني في شهر نوفمبر الماضي نقطة تحول خطيرة في مسار الحرب في سوريا، تلته محطات سياسية ما زلنا نعيش ارتداداتها على الساحة.
لقد تمكن الروس من خلال تطبيق منسجم وعملي لمزيج من العمل العسكري والدبلوماسية الصلبة من التعافي من صدمة الفشل الميداني في الأشهر الأولى لتدخلهم المباشر في سوريا، عن طريق سياسة “الأرض المحروقة”، أتبعوه بتغيير كامل لقواعد اللعبة في سوريا، تجلى في فرض حدود فصل جديدة بين الثوار والنظام هي في صالح النظام نسبيًّا، ثم تثبيت هذا الواقع الجديد من خلال هدنة ما زال يستثمرها الروس لأمرين أساسيين من الناحية العسكرية وهما: التركيز على المناطق الاستراتيجية ومحاولة احتلالها رغم الهدنة، والتوسع باتجاه الأراضي التي يسيطر عليها تنظيم الدولة.
هذا العمل لا يزال مستمرًّا حتى بعد أن أعلنت روسيا انسحابًا “مشرفًا” بعد أن شعرت بأنها استخفت بالخصم، وكانت على وشك أن تتورط بمستنقع خطر أعاد ذكريات مؤلمة من تاريخها الحديث، وبعد أن بدا لها واضحًا ضعف النظام وبوادر عقوقه السياسي، فإنها لم تنسحب حتى ثبتت أركان عملية سياسية أقرب ما تكون لصالحها وصالح حلفائها.
وحتى تضمن روسيا استمرارية الوضع والتآكل البطيء- ولكن المتواصل للأراضي المحررة والمحاصرة- أعلنت عن قرارها بمراقبة الهدنة بنفسها واحتفظت بحق معاقبة المخالفين، ولاسيَّما أنها ورغم إعلان الانسحاب من سوريا فإنها احتفظت بقدرة قتالية عالية في مطار باسل الأسد، متمثلة بطائرات السوخوي 30 و35؛ بل أضافت إليها مروحيات ميل مي-28 وكاموف كا-52 المتخصصة بتقديم التغطية الجوية المباشرة لتقدم القوات البرية، لعلم الروس أن النظام غير قادر على الحفاظ على المكتسبات الأخيرة المحدودة دون دعمهم المباشر.
أما سياسيًّا، فقد تم تثبيت واقع جديد يجعل الحل في سوريا يمر من التفاوض مع النظام دون أي ضمانات أو حتى وضوح بشأن مستقبل رأس النظام وأجهزته الأمنية، بل إن ما تسرب حتى الآن عن اجتماعات جنيف بدأ يثير القلق في صفوف الشعب السوري الثائر، وتم إغراق المعارضة بتفاصيل وشكليات تتعلق بالعملية التفاوضية، بينما يقوم النظام على الأرض وبإدارة وتوجيه روسي بإحكام الحصار على المناطق المحاصرة والضغط عليها للقبول بالمصالحة والتسوية، مستثمرين حالة الجمود العسكري والسياسي في ظل استمرار سياسة التجويع والإبادة غير القانونية وغير الإنسانية لهذه المناطق، مما سيجرّد الطرف المفاوض عن الثورة أوراقًا إضافية، ويضعف موقف الثورة بشكل عام.
إن من أكبر المخاطر التي تواجه الثورة حاليًّا- وهي كثيرة- انفصال هيئة التفاوض عن الأرض والدخول في فقاعة سياسية وهمية، بينما تقوم روسيا والنظام بسحب الأوراق الحقيقية من يد الثوار تدريجيًّا حتى تصل اللحظة التي لن يجد المفاوضون ما يفاوضون عليه.
سيقول الكثيرون إن حركة أحرار الشام أخطأت في الانسحاب من مؤتمر الرياض الذي دعمته المملكة مشكورة، وكان من الممكن أن تلعب الآن دورًا أكبر في دعم التوجه الثوري السليم داخل هيئة التفاوض التي تعاني أصلًا من عدم الانسجام في بنيتها وتوجهها، ونقول: إن المشاكل التي بدأت تطفو على السطح في أداء الهيئة أكدت صحة رؤية الحركة بما يخص هشاشة الأسس التي بنيت عليها الرؤية التفاوضية من حيث المبادئ والآليات والهيكلية، ولكن ربما لم يتم استنفاد كل السبل والوسع لتحقيق الإصلاح، وكان بإمكان الحركة الإصرار أكثر والدفع بالاتجاه السليم، إلا أن الواقع الحالي يوحي أننا كنا سنصطدم بنفس الجدار.
السيناريو المرتقب، في ظل ما ذُكر آنفًا ومع تردد الأنباء عن اقتراب استيلاء النظام على مدينة تدمر نرى أن روسيا والنظام سيعملان على تثبيت حدود شباط/ فبراير ٢٠١٦ مع محاولات إحداث اختراقات في المناطق الاستراتيجة، وابتلاع المناطق المحاصرة تدريجيًّا عن طريق المصالحات، بينما يتم التوسع باتجاه أراضي تنظيم الدولة لتحقيق نصر سياسي دولي، ورفع نسبة الأراضي التي يسيطر عليها النظام حتى تصبح هذه النسبة أضعاف ما يسيطر عليه الثوار، وستكون معظمها ذات أهمية استراتيجية عالية، سواء من ناحية الثروات والموارد الطبيعية أو الموقع الجغرافي، بالتزامن مع استمرار دور عملاء ومرتزقة البي كي كي، نتائج هذا السيناريو الافتراضي كارثية، ولكن ما زلنا نملك الأوراق لمنعها.
دون الخوض بتفاصيل حقيقة الموقف الأميركي ونحن نقترب من أهم مراحل الانتخابات الرئاسية، أو التفاهمات الإقليمية الأخيرة بما في ذلك دور إيران بعد التهميش الروسي لها في سوريا، فإن الثورة ما زالت تستطيع استرداد روح المبادرة، وعليها أن تركز على عناصر القوة الذاتية فيها، والتي يتم إغفالها في الكثير من الأحيان.
البداية يجب أن تكون بالعمل على فرض قواعد لعبة جديدة، عسكرية وسياسية، لخروقات النظام المدروسة للهدنة، فلا يعقل أن تطبق هذه القواعد على طرف واحد فقط، وأن تلعب روسيا دورًا مزدوجًا في العملية السياسية رغم جرائم الحرب التي ترتكبها.
كسر قوانين اللعبة يتطلب انسجامًا كاملًا بين الفصائل وقوى الثورة داخل سوريا مع الأجسام السياسية في الخارج، ومنها هيئة التفاوض، بحيث تتشكل مرجعية ثورية حقيقية ضابطة للعملية التفاوضية وداعمة لها في الاتجاه الذي يحقق ثوابت الثورة، فأي وثيقة تقبل بها الهيئة لا تلبي ثوابت الثورة سيتم دفع الكثير من الدماء لمحو حبرها.
على الهيئة أن تنظر في تجارب الأجسام الثورية السابقة وما وقعت فيها من غياب للشفافية ولآليات اتخاذ القرار الواضحة، وما نجم عن ذلك من فقدان الثقة بها وانفضاض الشعب عنها، وألا تتحول إلى أداة لتفريق الثوار من حيث لا تعلم، وعليه فيجب ترسيخ الثوابت الثورية المعروفة، وتحديد خطوط حمراء سياسية وعسكرية لا يمكن التراجع عنها: منها استمرار الخروقات دون رد يتناسب مع حجمها وأثرها، ومنها تنفيذ النظام لأي خطوات من ضغوطات أو منع الطعام عن المناطق المحاصرة في سعيه الحثيث للاستيلاء عليها، فضلًا عن الشروط الإنسانية التي كان يفترض أن تتحقق قبل التفاوض وتم تجاوزها إلى درجة كبيرة.
لا شك أن هذا الأمر يتطلب من الفصائل أن تحدث تغييرًا فوريًّا في رؤيتها وأدائها، وأن تستشعر خطورة المرحلة والأخطاء التي ارتكبت في الماضي، وتسرع في إيجاد صيغة لتوحيد الصف، وأن تتبنى النفس الثوري المتجدد الذي انطلق، مذكرًا بأنه لا مستحيل أمام هذا الشعب العظيم، وأن يتم إعطاء الأولوية المطلقة للحل الجامع المشترك أمام أي مشاريع خاصة سيكون لها وقتها ومكانها بعد التخلص من النظام والاحتلال، وأن يتم التركيز على رفع مستوى معيشة المواطنين في المناطق المحررة، وهذا يحتاج إلى انفتاح على شراكات مضبوطة مع أطراف ثورية أخرى.
على الفصائل أن تعي أنها دخلت لعبة سياسية معقدة جدًّا لا تشبه أي تجربة سابقة، وأنها الآن مجتمعة أمام مسؤولية عظيمة يلزمها أن تخرج من حالة التخدير السياسي والعسكري، وأن تكون عند حسن ظن الشعب بها.
ويبقى الميدان هو الفيصل، ويبقى من حملوا أرواحهم على أكفهم هم أمل هذه الثورة بعد الله سبحانه وتعالى، وهم من يعول عليهم لقلب موازين المعركة، فالخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة، والثورة لم تقل كلمتها الأخيرة بعد.