بقلم: معتز ناصر (نداء سوريا)
قبل الثورة كانت الأحداث المميزة في حال تجميعها معاً تأخذ بأعلى تقدير 1% من حياة المواطن السوري، أما بعد الثورة أصبحت حياة المواطن السوري كلها أحداثاً مميزة، سواء سلباً أو إيجاباً.
كل قذيفة تنفجر قربك أو لم تنفجر حدث مميز، كل طلقة تصيبك أو تخطئك حدث مميز، كل اعتقال نجوت منه، أو تعرضت له، كل نزوح أو تهجير، كل لحظة تمر عليك بهذه العاصفة هي حدث مميز يمكنك من تأليف عدة كتب عنها، أو ارتقاء منصة عالمية لتقدمها محاضرات لجمهور كبير حول العالم أقصى مغامرة عاشها تعتبر عندك شيء سخيف لا يذكر مقارنة بزحام بنات الدهر اللواتي عشتهن.
تبقى الأوليات في الحياة أشد اللحظات تميزاً، الحب الأول، القبلة الأولى، الصوم الأول، المولود الأول، الرؤية الأولى للكعبة، أول مرة تشتري ثيابك بنفسك…..
بالنسبة لي سأخبرك عن أول مظاهرة خرجت بها في مدينتي حلب.
في نيسان من عام 2011، لا يزال الحديث عن ثورة في حلب مبكر جداً، خاصة بالقبضة الأمنية الفولاذية التي خنق النظام بها عاصمة الشمال، مع الضخ الممنهج عبر مشايخ النفاق عن فتنة القيام على الحاكم الذي تولى كباره أمثال الحوت وغيرهم، إضافة لذكريات قمع لا تزال حية من ثمانينيات القرن الماضي وهي بكامل شبابها وقواها في أذهان أبناء حلب، يتناقلونها كتراث من الآباء للأبناء.
جامع “آمنة” في حي سيف الدولة خرجت منه أولى المظاهرات آذار الماضي لنفس السنة، في وقت لما تتكون به بعد التنسيقيات، ولم يتعرف به الثوار على أداة تواصل تجمعهم، لذلك أصبح الجامع المكان الرمزي المعتمد من قبل ثوار مبتدئين لا يعرفون بعد طريقة للتواصل بينهم للخروج في المظاهرات.
باختصار أصبح الجامع ملاذاً للدراويش الذين يريدون اختبار الحرية للمرة الأولى، كحالي تماماً.
ذهبت للصلاة بوقت مبكر لبعد منزلي عن مكان الجامع، ومعي أحد أصدقائي، كان الرعب سيد الموقف، كنت وقتها أصارع أشد مخاوفي، ألا وهي فوبيا المخابرات السورية، مجرد ذكر كلمة المخابرات حينها كانت تحول أعتى الرجال من ذوي الشوارب والعضلات لأطفال صغار يبولون على أنفسهم من الخوف، إذاً كيف سيكون حالي وأنا الشاب الجامعي النحيف الهزيل، الذي لم يسل دماً بحياته، ولا رأى سلاحاً، ويمرض إن اغبّر حذاؤه.
كنا وصديقي غارقين بدوامة نفسية ممزقة، ما بين التعطش لمستقبل أفضل، والرغبة بتقليد نموذج الشاب المصري أو التونسي أو الليبي الثائر الواعي المقدام، مع غضب شديد لما حصل في درعا وغيرها، وموروث حقد دفين عما فعله النظام في مدينتنا وأهلنا سابقاً، وبين قصص كابوسية لأناس زاروا معتقلات النظام وأفرعه الأمنية، خرجوا منها إما جثثاً، أو محطمين نفسياً، أو بإعاقات جسدية دائمة، أو شيوخاً بلغوا من الكبر عتياً في أفظع مسالخ سمعت بها البشرية.
نزلنا الحافلة بأقدام رخوة لا تحمل أجسادنا، ورؤوس مخدرة من الرعب، وقلوب كمحركات سيارات سباق الفورمولا 1، تضخ الدم الممتزج بالأدرينالين بشكل جنوني، تتنازعها رغبة التحرر والكرامة، ورهبة سطوة الجلاد.
الطريق من الحافلة للمسجد يأخذ عادة خمس دقائق، بينما معنا احتاج 25 دقيقة، فالتردد والحذر أجبرانا على إبطاء سرعتنا، ثم فحص كل زاوية، وكل حجر من الشارع، مع تصفح وجوه الناس فيه، وكانت أغلب تلك الوجوه تشعرك أنك في السجن المركزي، تحديداً طابق أصحاب جنايات الكسر والخلع، والاغتصاب، والقتل، والمخدرات.
فهؤلاء هم الشبيحة الذين نسمع عنهم، ونشاهدهم في الصور والمقاطع المرئية.
تذكرت وقتها كل آيات القرآن الكريم عن الفجار، والأشرار، والمجرمين أصحاب النار.
طاقم تمثيلي كامل وجاهز ليأخذ دور مشركي مكة، ومنافقي المدينة، ويهود خيبر، في أي عمل درامي عن فترة ظهور الإسلام.
يتخلل الشبيحة سيارات وعناصر المخابرات، وهم أقرب لشخصية عنصر المخابرات الذي يظهر في مسلسل بقعة ضوء بأجزائه الأولى، تحديداً الممثل عبد المنعم عمايري في لوحة حدث في السينما، نفس البلاهة، والذوق الشنيع في اختيار الملابس وتسريحات الشعر المثيرة للغثيان، والحقد على المجتمع، مع نظرات إجرامية سادية متوحشة.
آلاف الشبيحة وعناصر المخابرات، لإحاطة مئات المصلين، الذين قد يخرج من بينهم عشرات المتظاهرين.
دخلنا المسجد لنرى عشرات الشبان من ذوي الهيئات، وفي مثل عمرنا، ومن ثيابهم، وارتباكهم عرفنا أنهم يتعرفون على جامع “آمنة” للمرة الأولى، ولنفس الغاية التي جئنا بها، تلاقي الأعين بيننا وبينهم بعث فينا الطمأنينة، فعلى الأقل لسنا الاستشهاديين الوحيدين هنا!!
ارتقى الرفيق الشيخ منبر الخطابة، ليخطب فينا خطبة عصماء عن السلام، والبعد عن الفتن، ( طبعاً السلام الذي يقصده هو الاستسلام لإجرام النظام، والفتن هي الثورة عليه ) ثم ختم خطبته الرنانة بدعوات تفيض نفاقاً وتشبيحاً لسيده الرئيس، ومما أسعدني أن صوت “آمين” في تلك الدعوات كاد أن يكون صامتاً، برسالة مبطنة من الجماهير للسلطة.
دخلنا الصلاة وأنا في قمة توتري وانفعالي، قلبي أصبح فارغاً كفؤاد أم موسى، ولولا أن ربط الله عليه وثبتني لخررت مكباً على وجهي من شدة الخوف من المواجهة القادمة.
في القعود الأخير دعوت الله ألا تنتهي الصلاة، أو تقوم الساعة، أو على الأقل يحصل زلزال أو بركان، أو أي كارثة طبيعية تشغل الناس وتعطيني مبرراً محترماً للهرب والعودة لمنزلي محتفظاً بماء وجهي.
السلام عليكم ورحمة الله ، السلام عليكم ورحمة الله… هكذا فُضَّت الصلاة بكل بساطة ويسر دون أي شيء يؤخرها أو يعكر صفوها، ودون أي شيء خوارقي ينقذني من الهول القادم.
نظرت لصديقي فازداد رعبي، فوجهه كان كمن انتهى آنفاً من تغسيل ميت لأول مرة، لذلك من الدروس التي استفدتها مبكراً في الثورة هي ألا تأخذ معك من هو مثلك فتزداد هلعاً، إما أن تذهب مع من هو أكثر خبرة منك لتطمئن أنك مع خبير، أو مع من هو أقل خبرة منك لتستعرض عضلاتك عليه وتشعر بثقة أنك أنت الخبير، المهم لا تذهب مع ساذج مثلك فيزيد رعبك.
انقسم الناس داخل المسجد وخارجه لثلاث فرق، الفرقة الأكبر هي الشبيحة وعناصر المخابرات، بوجوههم الشيطانية المقززة، ترى الحقد والإجرام يقطر من ملامحهم، وفرقة أقل منها هي الجمهور الحيادي، والذي يضم طيفاً واسعاً من الأفكار، والتوجهات، يجمعهم الجبن وعدم الاستعداد للتضحية من أجل أفكارهم، نظراتهم حائرة، أشبه بنظرات قطيع مسالم من الخراف، والفرقة الثالثة وهي الأقل هم المتظاهرون، وغالبيتهم الساحقة من الشباب، هندامهم يدل على أن أكثرهم من الطبقة المتوسطة، أو الغنية، بإمكانك بسهولة أن تلحظ أن نسبة كبيرة منهم جامعيون، ترى نظرات التحدي والتوتر في أعينهم، فهم يقفون الآن على البرزخ بين السلامة والعطب، بين رطوبة زنزانة فرع المخابرات، ودفء سرير المنزل، بين الحرية والعبودية.
بدأ المتظاهرون بترديد حسبنا الله ونعم الوكيل بصوت متحفز آخذ بالارتفاع، كأن الغاية منها تسخين العزائم، وتحضير الهمم، واستجماع الإيمان بعدالة القضية، وطمأنة أنفسهم على ما هي مقبلة عليه، وفي مثل هذا الموقف تشعر أن حسبنا الله ونعم الوكيل كأنها نزلت الآن { الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم، فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل }.
آلاف الشبيحة تتلمظ كالكلاب المسعورة لتنهش لحم هؤلاء الفتيان الذين تجرؤوا وتمردوا عن القطيع.
ثم “تكبير”….. خرجت مدوية من أحد الشباب كالصافرة التي تعلن بدء المباراة
تجاوبنا معه وصرخنا الله أكبر… ومع هذه الصرخة نكون قد دخلنا طريق اللاعودة، وحكمنا على أنفسنا بالإعدام وفقاً لقانون الإجرام.
يا الله على التكبيرة الأولى في المظاهرة الأولى…!!!! زُلزِلَ كياني!!
شعرت أن شخصاً آخر أكثر قوة وثقة قد استلم زمام قيادة نفسي عني، بينما أنا تنحيت جانباً أراقب الأحداث.
الله أكبر… الله أكبر…
ومع كل تكبيرة تعلو الأصوات أكثر، وترتص الأكتاف أكثر، ويتشجع المتردد أكثر.
كنا حوالي المئة وخمسين متظاهراً، تكتلنا سوياً واقتحمنا أول طوق للشبيحة كان متواجداً على باب المسجد ليمنعنا من الخروج، لكن هذا الانتصار لم يدم طويلاً، فسرعان ما تم الهجوم المعاكس علينا من مئات الشبيحة المسلحين بالسكاكين والشنتيانات وأكثرهم إنسانية كان يحمل عصاً.
تم قمع المظاهرة بوقت قياسي، مع بضعة معتقلين وجرحى، وبفضل الله كنت محظوظاً بأن أخرج سالماً، تواصلت مع صديقي عبر المحمول بعد أن تفرقنا لحظة الهجوم، كان أيضاً محظوظاً مثلي، وعدنا ماشيين لبيوتنا كل تلك المسافة كأننا سكارى ومذهولان بالمغامرة التي عشناها، والجريمة التي شهدناها، مفكرين هل ارتشاف خمر الحرية والكرامة للحظات ثمنه هذا الإجرام الدموي؟
هل تستحق الكرامة والحرية هذا الثمن؟
السؤال ليس لنا فقط بل لكل الشعب السوري، ومن تسع سنوات مرت نستطيع أن نسبر إجابة فئات هذا الشعب الذي ما زال لليوم يغني للحرية ويلعن الطاغوت، ويقاوم المخرز المسموم بعينه الشجاعة، ويضمد جراحه بتراب وطنه الطاهر كطهر دماء الشهداء التي سقته، وعما قريب سيسقط الصنم، ويُكسَر القيد، ويخرّ عرش الظالم، سنة الله في نصر الحق ولو بعد حين.