بقلم: عبد الملك الأموي
بداية فتساؤلي ليس لانتقاد رحلة جهاد مشرفة استمرت لما يقرب من تسعة عشر عاما ضد أعتى قوة بشرية، لكنه لتقرير نقاط أود تسليط الضوء عليها فيما يخص تجربة الطالبان الأماجد، وهو أيضا ليس للفت أنظار ذوي العقليات الخلبية الجوفاء، من أرباب الشعارات والمزايدات والعقليات الكرنفالية الغوغائية.
في البداية هناك فارق كبير بين الانتصار وبين تدارك الهزيمة، فعلى الرغم مما وصلت له الطالبان اليوم بعد عقدين من النضال إلا أنها لما تصل إلى نقطة الصفر بعد، والتي بدأ من عندها الانحدار ودمار التجربة حينئذ، فما حصّلته اليوم هو اتفاق للمضي قدما في رحلة سياسية، كانت قد قطعت فيها شوطا بعيدا قبل أن يقرضها جرذان القاعدة، فهي اليوم توقع اتفاقا يتضمن اعترافا بها كجهة سياسية من طرف عدوها، للبدء في مفاوضات حول بنود تم الاتفاق عليها، تتضمن انسحاب المحتل وتقليص عدد الجنود الأمريكان، وشراكتها في الحكم والتعهد بعدم إيوائها لأي جهة تهدد الأمن الأمريكي، لكن! أين كانت الطالبان قبل بدء الغزو عن ذلك كله؟!
حسنا؛ لقد كانت تقترب من السيطرة على جميع الأراضي الأفغانية، وكانت تحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وكانت شرعيتها في المجتمع الدولي تصل إلى افتتاح سفارات رسمية لها في بلدان، ومكاتب تمثيل سياسي في بلدان أخرى، وكان لها تمثيل وسفير لدى الأمم المتحدة -رغم عدم اعتراف الأمم المتحدة بها كحكومة شرعية- وكانت حريصة على بناء العلاقات وتحصيل الاعترافات واستقطاب المنظمات والداعمين، في عالم مليء بالألغام والمتربصين، وفي زمن القطب الأوحد.
ثم كانت القاعدة
وفي مطلع الحديث عن القاعدة فلابد من استشراف بداياتها بكونها قامت على كسر وتدمير استراتيجية عبد الله عزام رحمه الله في مكتب الخدمات، والذي كان يصر على أن الشأن الداخلي لأفغانستان شأن داخلي محلي، وأن دوره هو خدمة المجاهدين هناك ودعمهم بما يمكن والنصح لهم، حتى جاءت مكونات القاعدة (قبل أن تعلن عن نفسها كقاعدة) بإصرار عجيب ومريب على كسر سياسة عبد الله عزام رحمه الله، فعملوا على حشر أنوفهم داخل الأراضي الأفغانية مستظلين بظل الطالبان مع بقائهم كيكان مستقل له أهدافه وخططه المنفصلة عن الطالبان، وله ظهوره الإعلامي المستقل، وله أعداؤه وعلاقاته ومعسكراته في انفصال عن مشروع الطالبان وسياستهم العامة، وعملوا على استقطاب المهاجرين ونظمهم في معسكرات وتكوينات لها أيدولوجيتها وخطابها المستقل، فكان ابن لادن يصور مقاطع الفيديو وهو يصرخ بالبيعة (لأمير المؤمنين الملا محمد عمر مجاهد) على السمعة والطاعة في المنشط والمكره، ثم مقطعا بتجديد البيعة، ثم بتجديد تجديد البيعة، وكذلك فعل الظواهري فيما بعد، مع أنهم كانوا في غاية الاستقلالية عن مشروع الطالبان، ماعدا تلك التوريطات الإعلامية المشبوهة! ومن يقرأ مذكرات الملا عبد السلام ضعيف بعد خروجه من غوانتنامو ليدرك مدى ثقل كاهل تجربة الطالبان الوليدة بأولئك القوم، فلم يكونوا يستأمرونهم أو يستشيرونهم أو حتى يعلمونهم بما يدبرونه.
وانتهى المسلسل التراجيدي بأحداث الحادي عشر من سبتمبر، أو قل ابتدأ!
فالعمليات انطلقت من مناطق سيطرة الطالبان، والمنفذون عندهم، والتبعة على عاتقهم، ويروي الملا عبد السلام كيف أنه هرع مسرعا إلى قادة القاعدة ليستوثق من الخبر فوجدهم مخمورين بنشوة النصر لا يلقون بالا لأية عواقب
ناور الطالبان سريعا مناورات سياسية يائسة لاستنقاذ الوضع، فأصدروا بيان تعزية لأمريكا في ضحايا الحادث -وكانوا قبلها قد أصدروا بيانا لتهنئة جورج بوش بفوزه في الانتخابات الرئاسية- وذهب الملا عبد السلام كمندوب للطالبان في الأمم المتحدة والتقى السفير الأمريكي هناك والذي طالبه بتسليم ابن لادن، لكن الملا عبد السلام وقتها أخبر السفير الأمريكي أنه ليس ثمة بين الدولتين اتفاقيات لتسليم المتهمين، وأنهم سيحاكمونه عندهم، لكن الأوان كان قد فات، وبدا جليا أن قرار الحرب اتخذ سلفا.
ثم كانت النكسة
فالعمل السياسي البنائي صعب طويل تراكمي دونه السنوات والعقود، لكنه يهدم في لحظات بحماقة أو خيانة.
مئات آلاف القتلى من الشعب المسلم قتلا وجوعا وبردا وتشريدا، انتهاء حكم الطالبان، علو سفلة القوم وخونتهم إلى سدة الحكم على ظهر الدبابات الأمريكية، انتعاش المخدرات مجددا، نشر التغريب وتقويض أركان الدين، حرب على أي نبت إسلامي وليس آخرها مصادرة موارد الدولة لصالح المحتل، باختصار تدمير كامل لتجربة إسلامية وليدة وواعدة.
وهنا عادت الأمور لما قبل الصفر بمراحل، لتبدأ رحلة جهاد شاقة طويلة منزوعة المقومات، أثبت فيها الطالبان بسالة وحكمة يضرب بها المثل، ليعيدوا لملمة جراح أمتهم بلا كلل ولا ملل.
وهنا يتكرر السؤال، أين القاعدة من ذلك كله؟! خاصة وأن الملا عمر رحمه الله أصدر بعد سقوط الإمارة أمرا بخروج جميع المهاجرين من الأراضي الأفغانية لبدء مرحلة حرب العصابات.
مجددا كانت القاعدة تصدح ببيانات التحدي والمقاومة للمحتل والبيعة للملا محمد عمر! ليقتل ابن لادن فيما بعد في باكستان في ظروف مبهمة وليتولى بعده قيادة دفة القاعدة حكيم الأمة!!
وهنا أعرج على نقطة هامة، ألا وهي أن الطالبان كانوا يستخدمون منطقة جبال البشتون على الحدود الباكستانية كقواعد خلفية لهم، لتظهر القاعدة مجددا في المشهد في حرب شعواء ضد الجيش الباكستاني هناك!
وحتى اللحظة، وبعد كسر إرادة العدو على مواصلة القتال، فلم تنته الحرب بإبادة للجيوش الأمريكية أو إسقاط طائراتها بالجملة أو مجازر لأساطيلها وتراساناتها المجنزرة والمقطورة كما يحلو للبعض أن يتخيل، فتوقف خصمك عن تحطيم أسنانك باللكمات لا يعني بالضرورة أنك انتصرت، خاصة وأن الغول الأمريكي لازال يعربد في العالم كما يحلوا له، لكنه صمود الرجال إذ أحيط برعاية الله، ثم كلل بانتزاع شيء من المكتسبات التي فقدت ودمرت بفعل فاعل.
واليوم تخطو الطالبان مجددا إلى عالم النور، كحكومة إسلامية وطنية -حسب تصريحاتها السياسية- تريد السلم لشعبها ولجميع الدول المجاورة وشعوب العالم، وتناضل لأجل طرد المحتل الغاصب، لكنها بإذن الله تنمو نموا أكثر ثباتا وأرسخ جذورا وأكثر حلما وخبرة.
فهل حقا انتصرت الطالبان؟! أم أنها -فقط- تحاول تدارك الهزيمة لصناعة مستقبل جديد؟!
⚠️ ليس تقليلا من شأن انتصار الطالبان وصمودهم في وجه أقوى دولة على وجه الأرض ولكنه درس يجب أن يتعظ منه الجميع لمعرفة دور ذلك السرطان الخبيث الذي دمر التجارب الجهادية في العديد من الدول المسلمة…