#خطبة_الجمعة
#الشيخ_محمد_أبو_النصر
وجاء الشتاء
🕌 أحد مساجد ريف حلب المحرر.
⏱ المدة: دقيقة.
التاريخ: 2/ربيع الآخر/1441هـ
الموافق: 29/تشرين الثاني/2019م
🔴 الأفكار الرئيسة في الخطبة الأولى:
1️⃣ الشتاء نعمةٌ وشِدة.
2️⃣ المؤمن والشتاء.
3️⃣ أذكار المطر والبرق والرعد والرياح.
4️⃣ حال سلفنا الصالح في الشتاء.
5️⃣ العبادة في الشتاء.
6️⃣ المجاهدون في الشتاء.
7️⃣ واجب يتجاهله بعض الآباء تجاه عيالهم في الشتاء.
8️⃣ واجب الأمير والمتصدِّر لشؤون المسلمين في الشتاء.
🔴 الأفكار الرئيسة في الخطبة الثانية:
دعاء فقط
لتحميل الخطبة كتابيا بصيغة PDF
- ملاحظة: ما بين معكوفتين [ ] فهو شرح مُدرج في سياق ذِكرِ الدليل.
الخطبة الأولى:
الحمد لله ذي العفوِ والغُفران، له في الآفاق آياتٌ تعصِم العقل من زلل الشِّرك والعِصيان، يرفع الله بها قدر المؤمنين في الإيمان، له الحمد سبحانه وتعالى في كل آنٍ ومكان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملِكُ الحقُّ الدّيان، شرَع دلالات القدرة المبهرة لخلقه حتى يعرفوه وحدَه سبحانه، وأفاض عليهم من النِعَمِ ليعبدوه ولا يجحَدوه، وذكّرهم عظمته في آياتٍ كثيرة ليذكُروه دائما ولا ينسوه، وأشهد أنَّ نبينا وحبيبنا وقائدنا محمّدًا عبد الله ورسوله قدوةُ الأنامِ والهادي إلى طريق الرحمنِ، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وأتباعهم ومن تبعهم بإحسان، أمّا بعد إخوة الإيمان:
ها قد جاء الشتاء، جاء الشتاء بخيراته وبشاراته وغيثه، جاء الشتاء بشدّته وقساوته واحتياجاته ومستلزماته، جاء الشتاء بعبره وآياته (صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ) [النمل: 88]، جاء الشتاء عبرةً للمعتبرين، جاء الشتاء عِظَةً للمتعظين (وَكَأَيِّن مِّنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ) [يوسف: 105]، جاء الشتاء وما فيه من تجلِّيات القُدرة المبهِرة في هذه الآيات الكونية الدّالة على عظمة الخالق سبحانه وتعالى (وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) [الحج: 5]، جاء الشتاء -أيُّها السادة- وهو على ما فيه من شدّة ظاهرة يحمل من الله كرمًا واضحًا ويزرع الأمل في نفوس المؤمنين (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ) [الشورى: 28]، لمّا يرى المؤمن هذه الآيات؛ يرى كيف ينزل الغيث برحمة الله تعالى فيحيل الأرض الجدبة خضرة وحياةً وزهوراً، يشعر بالأمل، يشعر بالتفاؤل، يشعر بالثقة بالله سبحانه، فهو ربُّ الأرباب، مُسبِّبُ الأسباب، قادرٌ على أن يُبدّل الأحوال من حال إلى حال…
ينظر المؤمن في هذه الآيات (وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُّبَارَكًا فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ * رِّزْقًا لِّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كَذَٰلِكَ الْخُرُوجُ) [ق:9-11]، رزقًا للعباد، رحمةً وكرمًا أملًا وتفاؤلًا غيثًا وحياةً بالماء (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ) [الأنبياء: 30]، ليس هذا فحسب بل عظة وعبرة (وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كَذَٰلِكَ الْخُرُوجُ)، الله تعالى الذي أحيا الأرض بعد موتها وقد غدت جدباء خالية فأحياها وأنبت فيها هذا الزرع كذلك سيُنبِتُ الناسَ ليومٍ وعدَهم إيَّاه، يُحِقُّ فيه الحقَّ ويقتص للمظلومِ من الظالم، يوم تُنصَبُ الموازين وتُنشر الدواوين.
لذلك -أيُّها السادة- كان من شأن أهل الإيمان ألا يتبرّموا بنعمة الله تعالى في الشتاء، الإنسان دائما يتبرّم:
يتمنَّى المرءُ في الصيف الشتا *** فإذا جاء الشتا أنكره
فهو لا يرضى بحال واحدٍ *** قُتلَ الإنسانُ ما أكفرَه
إذا جاء الصيف وحرّه أراد الشتاء فإذا جاء الشتاء وبرده أراد الصيف، يتبرّم بنِعم الله تعالى وكلّ منها جعلها الله سُنَّةً في هذا الكون لغايةٍ تنفع البشر، ولغاية تَصلُح بها هذه الدنيا. لذلك -أيُّها الأحبَّة- سنَّ لنا النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- سُننا من الأذكار في الشتاء الغاية منها أن يبقى العقل مشغولا بمُسبِّب الأسباب، بمنزِل الأمطار، بمُسيِّر السحاب.
في البخاري ومسلم -أيُّها السادة- عن زيد بن خالدٍ الجُهَني قال: صلَّى بنا رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- صلاة الصبح بالحديبية في إثر السماء كانت من الليل، فلما انصرف أقبل على الناس فقال: «هل تدرون ماذا قال ربكم؟»، قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: «قال: أصبح من عبادي مؤمنٌ بي وكافرٌ، فأما مَن قال: مُطِرْنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمنٌ بي كافرٌ بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنَوْء كذا وكذا، فذلك كافرٌ بي مؤمنٌ بالكوكب».
العرب في الجاهلية -أيُّها السادة- كانوا يتَّبَّعون النجوم ويتنبّؤون بالمطر، يظنون أنّ دخول نجمٍ في مسارِ نجمٍ هو سبب المطر، وامتناع نجم عن مسارٍ ما هو سبب حبسِ المطر، فكان منهم هذا الاعتقاد الفاسد فحذّرنا النبيّ من ذلك لكي يوجِّهنا إلى الاعتقاد والتفكّر دائما بمُسبِّب الأسباب سبحانه وتعالى.
في زماننا -أيُّها الأحبّة- وقد تطور العلم نحن كثيرا ما نفكّر بالأسباب الظاهرة، سيأتينا المطر لأن منخفضا جويًا آتٍ من الجهة الفلانية هذا صحيح -أيُّها الأحبَّة- ولكن من الذي أتى بالمنخفض الجوي؟ من الذي سيّر السحاب؟ من الذي حرّك الرياح؟ الله تعالى سبحانه هو الفعّال هو القدير، وشأن قليل الإيمان أنّه دائما يتفكّر في المُشاهَدات وذِهنه مشغول بالأسباب. وفي المقابل فإن ما وجهكم رسول الله إليه يا أهل الإيمان: عندما ترون هذه المشاهدات فليكن القلب والعقل مشغولًا بمسبّب الأسباب، فلتكن هذه المشاهدات سببًا لزيادة الإيمان، سببًا للتعلّق بالرحيم الرحمن، سبّبا للتفاؤل بالله سبحانه وتعالى…
عندما نرى المطر نسأل الله الخير نقول: «اللّهم صيّبا نافعا»” [رواه البخاري]، فإذا انقشع نقول: «مُطِرنا بفضلِ الله ورحمتِه». [رواه البخاري]. هكذا علّمنا رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم. فإذا كَثُر المطر وزاد المطر وخيف منه الضرر نهانا النبيّ أن ندعو الله بحبسِه فهو حياة الأرض، ولكن ندعو الله تعالى كما علّمنا رسول الله فنقول: «اللّهم حوالينا ولا علَينا، اللهم على الآكام والظِّراب وبطونِ الأودية ومنابِت الشجر». [متفق عليه]، أي يا رب اصرفه عن مكان ضرره بسكن الناس واجعله على الأشجار وعلى الأراضي الزراعية وعلى الوديان لكي تسير ولكي تجري أنهارا بقدرة الله سبحانه.
علّمنا النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- عندما نرى الريح قد هبّت أن ندعو فنقول: «اللّهم إنّا نسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أُرسِلت به ونعوذ بك من شرِّها وشرِّ ما فيها وشرِّ ما أُرسِلت به». [رواه مسلم]، فالرياح -أيّها السادة- تسوق الغيث تسوق الغمام تسوق الغيث إلى الأرض الميتة لتحيا وتنبت وتزهر بإذنه سبحانه وتعالى (وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا * لِّنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا) [الفرقان: 48-49]، وبالمقابل -أيُّها السّادة- هذه الريح جنديّ من جنود الله لا يقدر عليها البشر أبدا مهما بلغوا من العلم ومهما بلغوا من القوّة، هذه الريح إن أراد الله تعالى أن يجعلها عذابا ونقمة وانتقاما لا يقدر عليها أحد، كلّ عام تأتي أعاصير على بعض الولايات في أمريكا وفي غير أمريكا تدمّر قرى كاملة تمحو مدنا كاملة من على الأرض، تلك البلاد التي ظنّت أن لن يقدر عليها أحد يرسل الله عليها تلك الأعاصير لكي يعلموا أنّه هناك من يقدر على الخلق جميعا، هذه الرياح دمّر الله بها أقواما كثيرة (كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ * فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ * وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَىٰ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ * فَهَلْ تَرَىٰ لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ) [الحاقّة: 4-8]،
أيُّها الأحبَّة أيُّها السّادة هذه الرياح هذه الأمطار هذه الآيات التي تدلّ على عظمة وقدرة الله الواحد القهّار، آيات تزيد المؤمن إيمانا، وتُذكِّر الغافل وتؤدّب الجاحد، وتكون سبب نعمة ورحمة على من أراد الله بهم خيرا.
في الشتاء -أيُّها السّادة- يأتينا البرد الشديد ويأتينا الصقيع ويأتينا الزمهرير لكي يذكّر البشر بزمهرير جهنّم، ورسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- قال: «اشتكت النار إلى ربها فقالت: يا رب أكل بعضي بعضاً فجعل لها نفَسَين؛ نفسٌ في الشتاء، ونفسٌ في الصيف، فشِدة ما تجِدون من البرد من زمهريرها، وشدة ما تجدون من الحر من سَمومِها» [رواه البخاري ومسلم].
أيُّها الأحبّة، آيات عظيمة تمرُّ على الناس يرونها بأعينهم ويسمعونها بآذانهم ويشعرون بها بأبدانهم وقليل هم المتعظون قليل هم من توقِرُ تلك الآيات خوفًا من الله في قلوبِهم (وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ) [الرعد: 13]، تلك الصواعق؛ أيُّها الأحبّة الآن الأبنية الكبيرة يضعون لها مانع صواعق هذه تحمي من الصواعق البسيطة فإذا أراد الله بقوم شرا والعياذ بالله أتت الصاعقة. الصواعق -أيُّها السّادة- تدمر أكبر الأبنية تدمّرها تدميرا بل تفجّرها تفجيرا وبعضها يجعل في الأرض حُفرا عظيمة، شيء أقوى من القنابل التي صنعها البشر واخترعها البشر لكي تُذكّر الناس بعظمة الله وبقدرة الله. لذلك كان من شأن التابعين أنّهم إذا سمعوا صوت الرعد ورأوا البرق ذكروا هذه الآية وقالوا: “سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته”. وكان عبد الله بن الزبير يقول: “والله إنّه لوعيد شديد لأهل الأرض.” [مالك في الموطّأ والبخاري في الأدب المُفرَد وإسناده صحيح]. وعيد شديد يرون هذه الآيات ويرون هذه القوّة العظمى التي لا تقهر وقليل منهم من يتعِظ.
عندما نتحدّث عن الشتاء -أيُّها الأحبّة- لابدَّ أن نتحدّث عن حال سلفنا الصالح مع الشتاء، سلفنا الصالح -أيُّها الأحبَّة- كانوا دائما يتواصون بالخير في أيام الشتاء فكان مما قاله الفاروق عمر -رضي الله عنه- كان دائما يقول لهم: “الشتاء غنيمة العابدين” [أبو نعيم في الحلية 1/36]. وقال الحسن -رضي الله عنه-: “نِعم زمان المؤمن الشتاء، طال ليله فقام، وقَصُر نهاره فصام”. الشتاء -أيُّها الأحبَّة- ربيع العابدين، تصوم ولا تشعر بتعب الصوم، تأخذ الأجر وتكون من أهل باب الريّان ولا تبذل جهدا يذكر لقلة ساعات اليوم ولبرودة الجوّ لذلك قال – صلّى الله عليه وسلّم-: «الغنيمة الباردة الصوم في الشتاء». [صحيح أخرجه التِّرمِذيّ]، وكذل الأمر لقيام الليل، يطول الليل فتنام باكرًا وتستيقظ ولمّا يؤذن الفجر فتقوم الليل قربا لله تعالى، تطرق باب ملك الملوك سبحانه الذي ينزل في الثلث الأخير إلى السماء الدنيا يقول هل من سائل فأعطيه؟ هل من داع فأجيبه؟ هل من مريض فأشفيه؟ هكذا حتى يطلع الفجر.
في الشتاء -أيُّها الأحبَّة- يتكاسل البعض من البرد فيقصِّر في طهارته في صلاته… ورسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- قال: « ألا أدلُكم على ما يمحو اللهُ بهِ الخطايا ويرفعُ بهِ الدرجاتِ؟ قالوا: بلى. يا رسولَ اللهِ قال إسباغُ الوضوءِ على المكارهِ. وكثرةُ الخُطى إلى المساجِدِ. وانتظارُ الصلاةِ بعدَ الصلاةِ….» [رواه مسلم]. نعم -أيُّها الأحبَّة- إسباغ الوضوء على المكاره، أي تمام الوضوء رغم شدّة البرد أو ضيق الثياب، ففي الشتاء تتكاسل من ضيق الثياب أو من شدّة البرد، رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- بشّرك أيُّها المؤمن قال: “إسباغ الوضوء على المكاره يمحو الله به الخطايا ويرفع الدرجات”.
وأيضا -أيُّها الأحبَّة- إذا أردنا أن نتحدّث عن شأن أهل الإيمان مع الشتاء لن نذكر فقط الصيام ولن نذكر فقط قيام الليل بل سنذكر أيضا حال المُنِفقين وحال المتصدِّقين الذين يجودون بأموالهم في هذه الأيّام، «فمن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة» [البخاري ومسلم] ومن كسا مسلما في الدنيا كساه الله من حلل الجنّة…. ففي هذا الوقت، في وقت الشتاء، وقت البرد، وقت الشدّة يوم يحتاج النّاس اللباس ويحتاجون الكساء ويحتاجون الدفء، في مثل هذه الأوقات يتنافس المؤمنون ويتنافس الصالحون بالصدقات.
ولكن -أيُّها الأحبَّة- في مثل هذه الأوقات هناك أقوام يتنافسون في باب أعلى، باب أعلى وأكبر، باب هو ذروة سنام الإسلام، باب يحتاج ذوي الهمم من الشباب والأبطال، هذه الباب -أيُّها الأحبَّة- أذكره لكم فيما نقله الإمام الذهبي عن سيف الله المسلول خالد بن الوليد -رضي الله عنه- قبل أن يموت كان يحدّث عن ما جرى معه في معاركه وفي غزواته فكان يقول: “والله ما ليلة يُهدى إلي فيها عروس أنا لها مُحبٌّ أحبُّ إلي من ليلة شديدة البرد كثيرة الجليد في سرية أصبِّح بها أعداء الله” [سير أعلام النبلاء ص 366 / ج1 / مؤسسة الرسالة 2001م]. هكذا كان حال الصحابة الكرام والتابعين بل هكذا كان وما زال حال أبطالنا في أرض الشام والله -أيُّها الأحبّة- في هذه الأرض أبطال لو هيّأ الله لهم قائدا عطوفا حنونا شديدًا على الكفّار رحيمًا بهم لسار بهم من إدلب حتى بلغ بهم دمشق، والله -أيُّها السّادة- في هذه الأرض أبطال أحدُنا يسهر في بيته ينام قرب مدفأته ومع زوجته وهم تحت الثلج وتحت المطر وتحت البرد مرابطون صابرون ثابتون لا يبغون إلا وجه الله الكريم سبحانه وتعالى، أولئك هم أصحاب الهمم العالية، أولئك هم -أيُّها الأحبَّة- المغتنمون حقّ الاغتنام، المجاهدون حقّ الجهاد في سبيل الله.
عندما نتحدث -أيُّها الأحبَّة- عن الشتاء وما ينبغي للشتاء لابدّ أن نتذكّر جميعا بل ولعل هذا شيء لا ننساه أبدا بأنّ هذا الشتاء يحتاج مؤنة من اللباس من الدفء يحتاج احتياجات ومستلزمات والناس في ذلك -أيُّها الأحبَّة أنواع: منهم أنعم الله عليه ولكنّه تراه مُهمِلا لأهل بيته، مهمِلا لامرأته، مهمِلا لأولاده، لا يتعاهد احتياجاتهم وقد أتى هذا الفصل وما فيه من احتياج، فترى امرأته بالعباءة الصفيقة وبالثوب الرقيق وبالملابس التي لا تمنع برد الشتاء وزوجها لا يتذكّر احتياجها وهو مُنعَم وهو صاحب مال!!
وترى من ينسى ويتجاهل أولاده؛ طلّق امرأته وترك أولاده مع المرأة لا يسأل ما احتياجات أولاده وقد دخل الشتاء ويحتاج المؤونة واللباس والكساء والدفء.
عندما نتحدّث -أيُّها الأحبَّة- عن احتياجات الشتاء نتحدّث أيضًا عن نوع آخر نوع بالتأكيد يشعر باحتياج الشتاء ولكنّه لا يملك الثمن وقد غلت الأسعار وارتفعت الأثمان فمثل هذا -أيُّها الأحبَّة- وجب على جيرانه وعلى من حوله من الأغنياء أن يتذكّروه وأن يعينوه، بل وأوجب من ذلك -أيُّها السادة- ما يجب على الأمراء وعلى المتصدرين من وُلِيَ شؤون المسلمين -أيُّها الأحبّة.
روى ابن المبارك -رحمه الله- عن عمر بن الخطّاب -رضي الله عنه- أنّ عمر -رضي الله عنه- كان يتعاهد رعيته في الشتاء بل ويكتب الكتب إلى عماله (أي إلى الولاة مثل المحافظين في زماننا مثل المجالس المحلية) يكتب إليهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب يقول: “إنّ الشتاء قد حضر وهو عدوّ فتأهبّوا له أهبته من الصوف والخفاف والجوارب واتخذوا الصوف شعارا ودثارا فإن البرد عدوٌّ سريع دخوله (أي في الجسد) بعيد خروجه”. وكان ذلك من تمام نصحه رضي الله عنه، لا يكتب لهم فقط هذا الكتاب، يقول ابن المبارك: “كان يتعاهد رعيته”؛ أي يرسل المؤن ويسعى في تأمينها وتأمين احتياجات النّاس في الشتاء ويذكّرهم بأن يتخذوا المؤونة للشتاء. لذلك -أيُّها الأحبّة- أوجب الواجبات على من ولي شؤون المسلمين في هذا الفصل في شدّة البرد والشتاء، شدّة والشتاء تكثر احتياجاته أن يكون سببا في تخفيف معاناة النّاس ما أمكنه ذلك، أن يكون سببًا في تأمين احتياجات الناس ما أمكنه ذلك، أن يكون سببًا في خفض الأسعار على النّاس ما أمكنه ذلك، وإلا فلماذا تصدّر لاحتياجات المسلمين؟!! ولماذا تصدّر للتزّعم على المسلمين؟! «إنّها أمانة وإنّها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدّى الذي عليه فيها».
اللّهم ولي علينا خيرانا ولا تسلّط علينا شرارانا، اكفنا بحلالك عن حرامك واغننا بعظيم فضلك عمَّن سواك، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه فيا فوز المستغفرين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وكفى، وصلاةً وسلامًا على عبده الذي اصطفى، عباد الله، خيرُ الوصايا وصيّةُ ربِّ البرايا: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ) [النساء:131]، فاتقوا الله عباد الله، فبتقوى الله العِصمة من الفتن، والسلامة من المِحَن، واعلموا -أيُّها السَّادة- أنّ للشتاء أحكاما فقهية تتعلق به، فالله ما جعل علينا في الدين من حرج، ولكني أتركها للأسبوع القادم إن شاء الله تعالى لكيلا أطيل عليكم.
إني داع فأمنوا …