#خطبة_الجمعة
#الشيخ_محمد_أبو_النصر
بعنوان: من دروس سورة الكهف (4)
فتنة العلم وخطورة الاغترار به…
وقد كادت تقصم ظهر ثورتنا السورية في ذكرى انطلاقتها الخامسة
التاريخ: 9/ جمادى الآخرة/1437هـ
الموافق: 18/آذار/2016م
المدة: 35 دقيقة
الأفكار الرئيسة في الخطبة الأولى:
1. الذكرى الخامسة للثورة التي قصمت فتنة العلم ظهرها وفرقت جمع مجاهديها.
2. قصة موسى والخضر درس لكي لا يغتر عالمٌ بعلمه.
3. العاصم من فتنة العلم: الصبر وطاعة من شُهد لهم بالعلم والخيرية.
4. خطورة اتباع الجهال والمجاهيل (الإسناد من الدين).
5. نبيٌّ يأمره ربُّه بالتعلم من رجل .. ومع ذلك أنكر عليه عندما بلغ الأمر مبلغ القتل!!
الأفكار الرئيسة في الخطبة الثانية:
6. دروس وعبر من قصَّة موسى والخضر
7. ليس كل ما تراه شرًّا هو بالحقيقة كذلك.
8. حفظ الأبناء بصلاح الآباء.
لتحميل الخطبة كتابيا بصيغة PDF
تابعوا كل مميز عبر قناتنا على التليغرام على الرابط التالي
https://telegram.me/do3atalsham
* ملاحظة: ما بين معكوفتين [ ] فهو شرح مُدرج في سياق ذِكرِ الدليل.
الخطبة الأولى
الحمد لله مُعِزِّ الإسلام بنصره، ومذلِّ الكفرِ بقهره ومصرِّف الأمور بأمره، ومُديم النِّعمِ بشكره. الذي قدَّر الأيام دُولًا بعدله، فاستدرج الكفار بمكرِه وجعل العاقبة للمتقين بفضله، وأظهر دينه على الدين كُلِّه.
القاهرُ فوق عبادهِ فلا يُدافع، والظاهر عليهم فلا يُمانَع، والآمرُ بما يشاء فلا يُراجع ولا يُنازع، أحمَدُه جلَّت قدرته وعزّ سلطانه وأعوذ به مما أحاط به علمه وأحصاه كتابه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، شهادة من طهَّر بالتوحيد قلبه، وأرضى بها ربَّه، وأشهد أنَّ نبيَّنا محمداً عبده ورسوله رافِعُ الشكِّ وداحِضُ الشرك، بلّغ الرسالة وأدّى الأمانة ونصح الأمّةَ وكشف الله به الغُمّة، وأقام في الناس كلمة التوحيد، مَن آمن بها وعمل بمُقتضاها فقد أفلح وفاز فوزاً عظيماً، فصلوات ربِّي وسلامه عليه وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين وأصحابِه الغُرِّ المحجَّلين ومن سار على دربهم واهتدى بهداهم وتبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد إخوة الإيمان:
لقاؤنا بكم يتجدد، ونحن نتدارس أصول الفتن التي ذكرتها سورة الكهف، الفتن الأربع الرئيسة في هذه الحياة الدنيا، (فتنة الدين وفتنة المال وفتنة العلم وفتنة السلطة)، وحديثنا اليوم أيها السادة عن فتنة العلم، وحديثنا عنها يتزامن اليوم مع الذكرى الخامسة لإنطلاق الثورة السورية، حجيثنا اليوم عن فتنة العلم؛ عن فتنة الاغترار بالعلم، أتى في يومٍ تُتِمُّ فيه ثورتنا عامها الخامس وقد كادت أن تقصم فتنة العلم ظهرها عندما وقع كثيرٌ ممن جاهد في فتنة الاغترار بالعلم، فظنَّ كلٌّ منهم أنَّ الحقَّ معه وحده….
هذه الثورة أيها السادة قاست المآسي والويلات عندما سقط أبناؤها في فتنة العلم، ومازلنا إلى اليوم نقاسي تبعاتها حتى وصلنا إلى ما نحن عليه اليوم؛ من تأخر النصر وتكالب الأعداء…
وصلنا إلى ما نحن عليه اليوم، يوم غدا من ليس منَّا يُمثِّلنا، وصلنا إلى ما ترون من التفرق والتشرذم نتيجة ما اغتر به البعض في فتنة العلم…
أمّا القصة موضع حديثنا اليوم أيُّها السادة فتبدأُ عند قوله سبحانه في سورة الكهف: ((وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60))
وسبب هذه القصَّة كما روى الإمام البخاريُّ في صحيحه: أنَّ موسى – عليه السلام – ” قَامَ خَطِيبًا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ فَقِيلَ لَهُ: أَيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ؟ قَالَ: أَنَا …[هل على هذه الأرض أعلم منك يا موسى؟ …
ففكَّر موسى، وهو النبي وهو المؤيَّد بالمعجزات، وهو كليم الله ربِّ السماوات، فقال: أنا، ظنَّ أنه لما أسلفنا أعلم من على الأرض، ولم يردَّ العلم لله سبحانه، لم يقل الله تعالى أعلم، لم يراجع ربَّه في المسألة وتعجَّل الإجابة] فَعَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ إِذْ لَمْ يَرُدَّ العِلْمَ إِلَيْهِ، وَأَوْحَى إِلَيْهِ: بَلَى عَبْدٌ مِنْ عِبَادِي بِمَجْمَعِ البَحْرَيْنِ، هُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ، [(وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) (يوسف:76) إذ لا يمكن لإنسانٍ أن يُحيط بكلِّ العلوم والمعارف، فبحزر العلوم عظيمة وكبيرة، ومتشعِّبة ومتفرِّقة، وأنَّا لإنسانٍ أن يجمع هذا كلَّه؟!! وما علم أهل السماوات والأرض مِن علم الله سبحانه إلّا كنقرةِ طائرٍ نقر نقرةً أو نقرتين من ماء البحر…
فلمَّا أَوْحَى الله إِلى موسى: أنَّ عَبْدًا مِنْ عِبَادِ الله بِمَجْمَعِ البَحْرَيْنِ، هُوَ أَعْلَمُ مِنْه] قَالَ موسى: أَيْ رَبِّ، كَيْفَ السَّبِيلُ إِلَيْهِ؟ قَالَ: تَأْخُذُ حُوتًا فِي مِكْتَلٍ، [والمِكتل هو الزنبيل] فَحَيْثُمَا فَقَدْتَ الحُوتَ فَاتَّبِعْهُ، [عند مجمع البحرين، ولم يسمِّ لنا القرآن البحرين، ولم يسمِّ المكان، إذ المقصود أن نركِّز على العظة والعبرة، وليس المقصود أن نخوض في جزئيَّاتٍ وتفاصي لا نفع من معرفتها]
(وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60)
[لا أبرح ولا أترك المسير حتّى أبلغ مجمع البحرين ولو سرت دهرًا طويلًا …] فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61) [نام موسى وفتاه قرب صخرة فدبّت الحياة في السمكة المأكول منها بقدرة الله مُحيي الموتى، فقفزت في البحر، ونسي غلام موسى أن يخبر موسى بذلك…] فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62) قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63) [انطلق الحوت، وقفز من الزنبيل وعادت إليه الحياة بشكلٍ عجيب، ونسيت أن أخبرك بهذا حينها..] قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا (64) فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65) [الرجل الصالح، الخضِر عليه السلام، أوتي عِلمًا من عِلم الله لم يعلمه موسى، وهو النبي وهو كليم الرحمن المنَّان] قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66) [هل تأذن لي بأن أصاحبك لأنتفع بصحبتك وأتعلَّم من علومك..] قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68) [قال الرجل الصالح لموسى: يا موسى إنك لن تستطيع على أن تصبر معي؛ فإنِّي عُلِّمت علومًا من عِلم الرحمن، فسترى منِّي أفعالًا لن تقدر على فهم حكمتها فسيضيق صدرك عن الصبر على متابعتي] قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا [صابرا على طلب العلم] وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69) …)في هذه الآيات أيُّها السادة توجيهٌ من الله سبحانه إلى العاصِم الذي يعصِم مِن فتنة العِلم، ألا وهو الصبر على تحصيله وطاعة أهل العِلم ممن شُهد لهم بالعلم والصلاح والخيريَّة… فعندما تريد أن تكتسب علما، عندما تريد أن تأخذ الرأي والفتوى في مهمَّات الدين، (في دماء المسلمين، في أموال المسلمين، في جهاد المسلمين، بل في جهاد بلدٍ كامل…) لا يصحُّ أبدًا أن تأخذ العلم والفتوى عن المجاهيل ممّن لا تعرف اسمه ولا تعرف من أيِّ بلدٍ هو ولا تعرف علمه، [وفي الحديث الصحيح الذي رواه ابن ماجه وأحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه – قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم -: سَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ سَنَوَاتٌ خَدَّاعَاتُ، يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ، وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ، وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ، وَيُخَوَّنُ فِيهَا الأَمِينُ، وَيَنْطِقُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ، قِيلَ: وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ؟ قَالَ: الرَّجُلُ التَّافِهُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ”… التافه، قليل العلم، صغير السن، من حدثاء الأسنان ينطق في أمر العامَّة، يحكِّم فهمه ونظره القاصِر، في أمور بلدٍ كامل، في دماء المسلمين وفي أموالهم وجهادهم وسياستهم…
ولعلّ الأشدُّ منه جهلًا والأقلُّ منه عقلًا من يتبعه؛ من يتبع جاهلا لا يعرفه ولا يعرف اسمه ولا يعرف من أيِّ بلدٍ هو، ولا من شيوخه، ولا عمّن تلقى علومه، فيأخذ منه العلم ويستفتيه!!!! ورحم الله الإمام مسلم إذ وضع في مقدِّمة صحيحه القاعدة المهمَّة الخطيرة التي نصَّ عليها العلماء، وهي قول عَبْدِ اللهِ بْنِ الْمُبَارَكِ- رحمه الله -: «الْإِسْنَادُ مِنَ الدِّينِ، وَلَوْلَا الْإِسْنَادُ لَقَالَ مَنْ شَاءَ مَا شَاءَ»، انظر عمَّن تأخذ من هو؟ ما عِلمه؟ من شيوخه؟ «إِنَّ هَذَا الْعِلْمَ دِينٌ، فَانْظُرُوا عَمَّنْ تَأْخُذُونَ دِينَكُمْ» [قولٌ لابن سيرين – رحمه الله – أورده الإمام مسلم في مقدِّمة صحيحه]
عمَّن تأخذون علمكم؟! أيؤخذ العلم من الصغار حدثاء الأسنان؟! أيؤخذ عن أولئك المغرورين الذين يتوهَّمون أنَّه ما من أحدٍ بلغ علمهم؟!!
نعم أيُّها السادة، فتنة الاغترار بالعلم، فتنةٌ تركت جراحا لا تندمل في جسد ثورتنا، فتنةٌ سقط فيها الكثير من الناس، فتنةٌ بدأت من اليوم الأول لهذه الثورة، مع مشايخ السلطان، يوم أبى أولئك إلا أن يبقوا مع الكفر والطغيان، لم يسمعوا للناصحين، ولم يتعظوا بوعظ الواعظين، لم يريدوا أن يغيِّروا ما كانوا عليه، مكتفين مغترين بما لُقِّنوه من الفجرة الدجاجلة، أزلام الطغاة، فكانت أول فتنة العلم عندهم، ثمَّ ومنذ أن انطلق جهاد أهل الشام المسلَّح، ما فتئنا نشهد مظاهر جديدة من مظاهر الاغترار بالعلم، إذ ظهرت لدينا مجموعاتٌ من الغلاة الجفاة… خرج علينا الخوارج البغاة، فزيَّن لهم الشيطان أعمالهم، وظنُّوا أنَّهم وحدهم على الحق، وأنَّهم وحدهم دعاة الإسلام وناصروه، وأنَّ أهل هذه البلد أهل كفرٍ وطغيان…
فخرجوا على المسلمين، يقتلون أهل الإسلام ويذرون أهل الشرك والأوثان، وما ذاك إلّا نتيجة اغترارهم بعلمهم، وسقوطهم في فتنة العلم، ما ذاك إلا لأنَّهم سوَّدوا عليهم المجاهيل والرويبضة، وتأتيهم الأوامر من حيث لا يعلمون فينفِّذون ويطيعون، فكان ما تعلمون من فتنة (( داعشٍ )) وما بعدها …
فتنة الاغترار بالعلم أيُّها السادة، بسببها لا يبقى للنصح معنى ولا يبقى للعلم معنى، إذ أنَّك تخاطب من أمامك، فلا يتعظ ولا ينتصح ولا يعتبر، لأنَّه يظنُّ في نفسه أنَّه المجتهد العالم!! فلا يسمعُ نصحًا ولا وعظًا إلَّا ويزدريه …
ولقد رأينا حصاد من عمل دورةً شرعية ليتعلَّم المعلوم من الدين بالضرورة، فصدَّرته جماعته، حتى غدا بعضهم قُضاةً يقضون بين الناس…
وهذا من شرِّ ما نراه في ثورتنا…
فبسبب الاغترار بالعلم تطاول الصغار على الكبار، وتطاول الجهال على العلماء، فلم يفهموا سعة الإسلام وتنوّع فقهه، فلم يعرفوا أنَّ الإسلام فيه سعة، إذ لو كان الإسلام لونًا واحدا لما سمِعنا بالمدارس الفقهية المتنوعة عند أهل السنَّة والجماعة تلك التي عُرِفت منذ القرون الثلاثة الأولى…
عندما تصدَّر الجهال المغترُّ بعلمه أيُّها السادة تشبَّهنا بالمشركين،…
فعندما تصدَّر الجهال والمجاهيل وقليلو العلم ممن لا ندري علمهم ولا نعرف سندهم، تشبَّهنا بالمشركين، والله تعالى يقول: (وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)) (الروم:31-32)
كلُّ حزبٍ منهم يفرح بعلمه، ويظنُّ أنه وحده هو العالم، وأنَّ الحقَّ عنده وحده، وأنَّ باقي الناس ممن خالفوه رعاعٌ جهال…
(وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)) (الروم:31-32)
عندما تصدَّر أولئك أيُّها السادة، وعندما وقعنا في فتنة العلم، حتى شهادة التوحيد (لا إله إلا الله محمدٌ رسول الله) حتى كلمة التوحيد لم تعد تجمعنا…
انظروا إلا الأعلام والرايات، يكتبون شهادة التوحيد ويشركون معها أسماء جماعاتهم وفصائلهم، إذ لو كنَّا مسلمين نقاتل في سبيل الله حقًّا، لما اضطرّ كلٌ لأن يُشرك مع كلمة التوحيد أسماء أخرى … وكأنَّ لسان حالهم يقول: (لا إله إلا الله) خاصَّتي، تختلف عن مقصود (لا إله إلا الله) عندك.
لما تصدَّر من اغترَّ بعلمه، حتّى الصلاة لم تعد تجمعنا، فأصبحنا نختلف على مواقيت الصلاة وكأنَّنا في الشام – في عقر دار الإسلام – نصلِّي لأول مرَّة!!
أليس هذا ما نراه؟! ألم يعد الناس يختلفون على أوقات الصلاة؟! … حتى رمضان، الصيام الذي كان يجتمع عليه المسلمون، أصبحنا نختلف على وقت الإمساك وكأنَّنا نصوم لأوَّل مرة!! وما مردُّ ذلك إلا بسبب الاغترار بفتنة العلم، يوم صدَّرنا من توهم أنه ما على الحق إلا هو!!
عندما نتحدث عن فتنة الاغترار بالعلم أيها السادة، لا بدَّ أن نعترف بأنَّنا – وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ – بأنَّنا في الفصائل الإسلامية أوّل من وقع في هذه الفتنة، كيف لا وكلُّ فردٍ في هذه الجماعات يعتبر نفسه عالمًا، بل مجتهدًا !! ولهذا لا تجد للشرع عندهم سلطةً، يقول لهم الشرعي [مجازًا] فينصحهم ويعظهم فلا ينتصحون ولا يتعظون، لم؟ أهم يُعادون الشرع ويرفضونه؟! لا، معاذ الله، ولكن زيَّن لهم الشيطان أعمالهم، فالعسكري الذي خضع لدورة شرعية، مدتها أسبوعين ليتعلم المعلوم من الدين بالضرورة، يظنُّ نفسه مجتهدًا في الدين، والأمني الذي يقود الفصيل من وراء الكواليس، يظن نفسه مجتهدًا في الدين، فلا يبقى للمشايخ وللشرع ولأهل الدين عليهم سلطة، فيكون الاغترار بالعلم…
ذاك الذي يزين به الشيطان الباطل، فتستباح الدماء والأموال المعصومة باسم الدين، ثمَّ يلومون غيرهم ممن يسرف على نفسه، فذاك يسمى سارق، حرامي، قاطع طريق،…
أمَّا غيره فيستبيح الدماء المعصومة والأموال المعصومة، يقتل المسلمين ويذَرُ المشركين باسم الدين، وبفتاوى الرويبضة العابرة للقارات، فترى ذاك البعيد يُفتي ويُبيح ويمنع في أرض الشام، ولا يتجرَّأ عن الحديث عن البلد الذي يقطن فيه، ثمَّ يخاطبنا وكأنَّ أرض الشام خلت من العلماء، وحسبنا الله ونعم الوكيل…
ويحٌ لمن باع الأمانة والهدى *** ومضى بحقدٍ يستبيح المسجدا
تركوا المجوس وراءهم وتسابقوا *** يستهدفون الراكعين السجدا
اللهم لا تجعلنا منهم، واحفظنا من مكرِهم، واهدنا وإياهم إلى سواء السبيل، أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه فيا فوز المستغفرين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وكفى، وصلاةً وسلامًا على عبده الذي اصطفى، عباد الله، خيرُ الوصايا وصيّةُ ربِّ البرايا: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ) [النساء:131]، فاتقوا الله عباد الله، فبتقوى الله العِصمة من الفتن، والسلامة من المِحَن.
أمَّا بعد أيها الإخوة الكرام: فما زلنا مع فتن سورة الكهف، مع فتنة العلم وقصَّة موسى عليه السلام مع الخضر(قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68) قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69) [سأصبر على طلب العلم، فمن استعجل الشيء قبل أوانه، عوقِب بحرمانه، ومن تصدَّر بعلمٍ قليل، منعه الكِبر من العودة إلى مجالس العلماء للاستزادة…]
قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71)
[سفينةٌ أكرمهم أصحابها لأنهم يعرفون الرجل الصالح، فأركبوهم بغير أجرٍ، فإذا بالخضِر يُقابل إحسانهم بخرق السفينة… قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا، لقد فعلت فعلًا عجيبا]قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72) قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ [… وجدا طفلًا فأخذه الخضِر فقطع رأسه…] قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74) […لقد فعلت فعلًا منكرًا عظيما إذ كيف تقتل نفسًا بغير نفس لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا…] قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (75) قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (76) [… اصبر عليَّ للمرة الثالثة، فإن كررتُ خطأي فلا تصاحبني، إذ قد أَعذرت وكفَّيت ووفيت …] فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا […في ذلك الزمان لم يكن المسافِر يحمل زادًا كثيرًا ولا فنادق موجودة، فيضيفه أهل القرية التي ينزل بها…] فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77) [… لم يُطعمونا ولم يضيفونا فلو شئت لأخذت أجرًا مقابل عملك، إذ ما معنى أن تعمر الجدار بغير مقابل …]
قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (78) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79)
درسٌ أوَّل يشرحه الخضِر لموسى عليه السلام، إذ ليس كلُّ ما تراه بعينيك وتتوهم الشرَّ فيه، هو شرٌ حقيقي، (فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا) ظاهر الأمر أنَّه خرق السفينة وفي الحقيقة أنَّها كانت لمساكين يعملون عليها ويتكسَّبون منها وكان ملكهم حينها قد دخل في حرب، وأراد أن يزيد عدد سفن أسطوله، فكان يأخذ السفن غصبًا، فإن وجد هذه مَعيبةً تركها لأصحابها، فكان فعلا ظاهره الشر وحقيقته الخير، ولكن أنَّى لمن لا يعلم الغيب أن يعرف كيف سيكون الخير في مآلات الأمور… ثمَّ انتقل لتبرير القصَّة الثانية فقال:
( وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81))
هذا الفتى وقع في علم الله أنَّه لو عاش سيكون طاغيا فاجرا، عاقًّا يُرهق والديه، فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا، وسوف نرى في آخر الآيات كيف أنَّ الخضِر لم يفعل ذلك باجتهاده أو من هواه، بل فعله بأمر الله سبحانه.
( وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (82))
ما فعلت هذا عن أمري، بل هو عن علمٍ وتوجيهٍ من الله سبحانه… ومع ذلك فلتلاحظ أخا الإسلام كيف أنَّ موسى وهو النبي وهو كليم الرحمن، وهو الذي أمره الله باتباع الخضِر والتعلُّم منه … تخيل هذا المام الرفيع: نبيٌّ يأمره الله صراحةً بمصاحبة رجلٍ صالح يتعلم منه، ومع ذلك فلمَّا بلغ الأمرُ مبلغ الدماء الحرام، أنكر موسى على الخضِر ولم يسكت، قال: (أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74)) هذا فعلٌ منكر…
لا حظ معي مقام الخضِر وهو الرجل الصالح الذي أمرَ اللهُ موسى باتباعه، ومع ذلك ففي الدماء، أنكر عليه موسى وأراد أن يستقصي حقيقة ذلك الفعل… فما بالكم وقد أصبحنا في زمان البعض فيه يقتلون إخوانهم المجاهدين دون أن يعرفوا لماذا قاتل وقَتَل، بل دون أن يسأل الخضِر قائد كتيبتهم، لماذا نفعل هذا؟ فيكتفون بكلام الغلاة والرويبضة ليتجرؤوا على ما حرَّم الله…
أمَّا الحادث الثالث مع موسى والخضِر، فدرسٌ وعِظةٌ وعبرةٌ لكلِّ أمٍّ وأب، ( وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (82))
أرسل الله الخضِر ليبني الجِدار خشية أن ينهار فيُكتَشف الكنز فيُسرَق مال الأيتام …
فلنتذكَّر أيُّها السادة دائمًا: ((أنَّ صلاح الآباء ينفع الأبناء))
تذكَّر أنَّ طاعتك لله وتقواك ستنقلب أمنًا وأمانًا وحفظًا وسلامًا على ذرِّيتك من بعدك، وممّا جاء في مِثل هذا أنَّ أحد الحكماء دخل على الخليفة العبَّاسي المنصور فقال له الخليفة: عِظني، قال: بما رأيت أو بما سمعت؟ قال : بما رأيتَ. قال: مات هشام بن عبد الملك وخلَّف أحد عشر ابنا فقسمت تركته وأصاب كل واحد من تركته ألف ألف (أي مليون)، ورأيت عمر بن عبدالعزيز، رحمه الله، وقد خلّف أحد عشر ابنا، وكانت تركته سبعة عشر ديناراً، كُفِّن منها بخمسة، واشتري له موضع قبره بدينارين، وقُسّم الباقي على بنيه، فطال بي العمر فرأيت من ولد هشام من يتصدق الناس عليه، ورأيتُ من ولدِ عمر بن عبد العزيز من قد حمل في يوم واحد على مئة فرس في سبيل الله. [أورد القصة ابن الجوزي في كتابه سيرة ومناقب عمر بن عبد العزيز الخليفة الزاهد ضبط وتعليق نعيم زرزور ، ص 338 طبعة دار الكتب العلمية]
أولئك الذين ورثهم أبوهم طاعة الله وتقواه، إذ أحسن تربيتهم، فحفظهم الله وأغناهم من حيث لم يحتسبوا.
دروسٌ عظيمةٌ مهمَّةٌ أيها السادة، في هذه السورة التي أوصانا حبيبنا ونبيُّنا محمدٌ – صلى الله عليه وسلم – بقراءتها كلّ أسبوع، دروسٌ يجب ألا نغفل عنها لتكون لنا حِصنا حصينا، وحرزًا أمينا، إن التزمنا فسمعنا وأطعنا….
اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتَّ بعون أحسنه…
إني داع فأمِّنوا