أيّ العدوين أسهل في القضاء عليه: عدوٌّ تعرف من يقوده وتعرف كيف يسري القرار فيه وكيف يُنفّذ، أم عدوٌّ لا تستطيع أن تفهمه أو تمسكه، بل كلما حاولت ذلك تفلت منك، لا تعرف له رأساً ولا قدماً، لا قادةً ولا تبعاً.
كتاب (The Unstoppable Power of Leaderless Organizations The Starfish and the Spider) يعقد هذه المقارنة بين المنظمتين فيسمي الأولى المنظمة المركزية، والثانية المنظمة اللامركزية، ويشبّه الأولى بالعنكبوت، والثانية بنجم البحر.
فالعنكبوت له رأس وجهاز عصبي ينقل الأوامر لينفذها الجسم، لو ضربت رأس العنكبوت قضيت عليه، ولو قطعت أرجله أفقدته القدرة على الحركة.
أما نجمة البحر فلا رأس لها فتقضي عليها بضربة، ولا جهاز عصبي ينقل الأوامر، بل كل جزء فيها يعمل ذاتياً ولو أنك قطعت جزءاً من نجمة البحر لم تمت، بل يتحوّل الجزء الجديد إلى نجمة بحر أخرى!
تتكون المنظمة اللامركزية من مجموعات عمل كثيرة متناثرة قد لا يعرف بعضها بعضاً، لكن تسري فيها جميعاً دماء واحدة هي القضية التي تؤمن بها، جميع أبناء هذه المنظمة ممتلئون إيماناً بها، ولا ينتظرون الأوامر من قيادة مركزية، وكأن هنالك (DNA) واحدة تشكل شخصياتهم، ومجموعاتهم، ومنظومتهم.
دعنا نعود في الزمان قروناً إلى الوراء إلى عام 1516م ونذهب إلى المكسيك؛ حيث اجتاحها وقتذاك القائد الإسباني “هرناندو كورتس” مع جيش مُجَهَّز بأفضل الأسلحة، وكانت هنالك مملكة عظيمة تنتمي إلى حضارة عتيقة عمرها مئات السنين تدعى الأزتك، كانت تلك المملكة محكومة بنظام مركزي صلب: فهنالك العاصمة مركز البلاد ومؤسسة الجيش العسكرية والحاكم الذي يطيعه الجميع وكانت تلك المملكة غنيةً بالذهب.
توجَّه القائد الإسباني إلى ملك الأزتك وحصره بين خيارين: تسليم الذهب أو القتل، فاختار الملك تسليم الذهب نظراً للتفوق العسكري الإسباني الكبير، لكن الإسبان نقضوا العهد وقتلوا الملك، وبقتل الملك انتهت تماماً حضارة الأزتك.
لقد كانت مملكة العنكبوت، اقضِ على رأسها لتقضي عليها.
الأمر ذاته حدث مع حضارة الإنكا، قتل الإسبان الملك فسقطت العاصمة ثم المملكة.
لم تقف هذه الممالك العظيمة في وجه الجيش الإسباني المتفوق، لكن هذا الجيش اصطدم بعد ذلك بقبائل بدائية كانت متواجدة في الجنوب الغربي من المكسيك تدعى قبائل الأباتشي، فلم يستطع القضاء عليها بل انتهى الأمر بانتصار قبائل الأباتشي وطرد المحتل الإسباني.
فكيف نجحت قبائل بدائية فيما فشلت فيه مملكتان عظيمتان الأزتك والإنكا، وكيف تغلبت هذه القبائل على جيش يفوقها كثيراً في القوة.
لقد كانت تلك القبائل منظمةً لا مركزية، نجمة بحر.
قبائل الأباتشي نجمة البحر:
لم يكن للأباتشي ملك ولا قيادة مركزية لم يكونوا يعرفون بعضهم جميعاً، لكن كانوا جميعاً متفقين على قضية واحدة وهي طرد المحتل الإسباني، كل مجموعة كانت تبدع في وسائلها في طرد هذا المحتل، كل مجموعة كان يرأسها رجل يدعى (نانتان)، وكانوا يطيعونه لأنه كان أكثرهم إلهاماً وإيماناً بالقضية فكانوا يثقون به ويرونه قدوة.
لم يفلح مع الإسبان أن يستهدفوا النانتانات فهنالك مئات المجموعات ولكل مجموعة نانتان وكانوا مباشرة إذا قتل واحد عيّنوا غيره.
كانت كل مجموعةٍ مستقلةً عن المجموعات الأخرى في العمل والتنفيذ، لكن عمل كل مجموعة كان يصب في صالح كل الأباتشي.
بذلك انتصرت قبائل الأباتشي البدائية وتحررت المكسيك من الإسبان.
لم تفلح دولة المكسيك أيضاً في السيطرة على هذه المنطقة، وعندما حاول الأمريكان فعل ذلك تعثروا كثيراً واستمر ذلك حتى بداية القرن العشرين، وفي عام 1914 حصل تغيير خطير عجيب.
أمرٌ لا يُصَدَّق فعلاً! كيف يمكن لإجراء بسيط جداً أن يحدث تغييراً هائلاً، لقد كان الحل مع قبائل الأباتشي هو إستراتيجية الأبقار.
إستراتيجية الأبقار:
هل يمكن للعدو أن يقدم دعماً لعدوه؟
هذا ما فعلته أمريكا مع الأباتشي، حيث تم منح كل نانتان ماشية من الأبقار.
لقد غيَّرت هذه الأبقار كل شيء، بمجرد أن صار لدى النانتان مورد مادي جديد لا يوجد عند غيره من أبناء الأباتشي حتى تحوَّلت قيادته من القيادة الرمزية إلى القيادة المادية!
انتقل النانتان من أسلوب القيادة بالقدوة إلى القيادة بالمكافأة والعقاب، فمن يطيعه يعطيه من الأبقار، ومن يعصيه يمنع عنه هذا الخير، وبدأ النانتانات يشكّلون مجالس قبلية جديدة وبدؤوا يقتتلون على المقاعد فيها!
أما أبناء الأباتشي فصاروا يعملون على استمالة النانتانات ويشكّلون لوبيات الضغط!
لم تعد المنظمة لا مركزية، لم تعد القيادات رمزية، لم يعد الولاء للقضية، فقد تشكّلت هرمية جديدة يمكن للأمريكان أن يتعاملوا معها ويسيطروا عليها.
لقد تدمّر المجتمع الأباتشي تماماً، ولم يكن ذلك بسبب حاجتهم إلى السلاح المناسب، لم يكن ذلك بسبب تفوق عدوهم عليهم، لم يكن ذلك بسبب جبنهم، بل كان السبب الغريب هو: دعم عدوهم لهم.
هذا الدعم غيّر ثقافة المنظمة، ونقلها من منظمة لا مركزية لا يمكن الإمساك بها ولا القضاء عليها إلى منظمة مركزية سائغة للمستهدفين.
إستراتيجيتان أساسيتان:
يقدم الكتاب إستراتيجيتين للقضاء على المنظومات اللامركزية:
الإستراتيجية الأولى: تغيير الأيديولوجيا:
ويُقصد بذلك ألا تبقى القضية حاضرةً في نفوس أبناء المنظمة، فالقضية هي عماد المنظمة اللامركزية الأهم، لو ذهب إيمان الناس بها تدمرت منظمتهم مباشرة؛ ولذلك فالخطر الأكبر على المنظمات اللامركزية يأتي من الحرب النفسية والمعنوية والإعلامية.
الإستراتيجية الثانية: إستراتيجية الأبقار:
وذلك بتحويل المنظمة اللامركزية إلى مركزية كما في قصة الأباتشي.
نجمة بحر وعنكبوت معاً:
برغم أن المنظمة اللامركزية لها العديد من المزايا، إلا أن الشكل الأفضل هو الشكل الهجين الذي يجمع بين المركزية واللامركزية.
فالمركزية تساعد المنظمة على المضي إلى الأمام وذلك بالاستفادة من جهود كل المجموعات الصغيرة ووضع الخطط والإستراتيجيات والحشد لها، واللامركزية تساعد المنظمة على المرونة والبقاء ومواجهة التحديات وتفجير الطاقات.
والدمج بين الشكلين ممكن، وذلك بأن تكون هنالك قيادةٌ تتبنى القضية وتكون مستعدةً للتضحية من أجلها وتعمل على نشرها، فيتلقفها أفراد متناثرون في أماكن شتى يسمّون (المحفّزون) يعمل كل محفّز على أن يكون لديه مجموعةٌ مؤمنةٌ بهذه القضية، وطالما أن الإيمان موجود فالمشروع موجود، حتى لو تم القضاء على أيّ جزء في المنظمة، بل ستكون محاولات القضاء قصصاً بطولية تزيد إلهام أبناء المنظمة لقضيتهم ومشروعهم.
كل ما سبق يقول لك: إن القضية تبقى ببقاء أبطالها، وتنمو بنمو الإيمان بها في قلوب أبنائها، وتنتصر بانتصارهم على حظوظ أنفسهم، ويقول لك: إن النصر ممكن في كل لحظة طالما كنّا مستعدين لدفع فاتورته.