#خطبة_الجمعة
#الشيخ_محمد_أبو_النصر
والصلح خير
🕌 أحد مساجد ريف حلب المحرر.
⏱ المدة: 21 دقيقة.
التاريخ: 5/صفر/1441هـ
الموافق: 4/شرين الأول/2019م
🔴 الأفكار الرئيسة في الخطبة الأولى:
1️⃣ ما معنى الأخوة، ونحن لا نقدِّم الصُلح على القضاء؟!
2️⃣ الإصلاح على جميع المستويات.
3️⃣ المصلحون صمام أمان للمجتمع.
4️⃣ العدل وحده قاسٍ بلا إحسان.
5️⃣ فساد ذاتِ البين هي الحالِقة.
6️⃣ أمورٌ أحلَّها الله للمُصلِحين.
7️⃣ شروط وآداب مطلوبة لمن يسعى بالصلح.
لتحميل الخطبة كتابيا بصيغة PDF
- ملاحظة: ما بين معكوفتين [ ] فهو شرح مُدرَج في سياق ذِكرِ الدليل، أو كلامٌ بالعامِّية للتوضيح.
الخطبة الأولى:
إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا وسيِّئات أعمالنا، من يهدِ اللهُ فهو المهتد، ومن يُضلِل فلن تجد له وليًّا مُرشِدًا، وأشهد ألَّا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ نبيَّنا مُحمَّدًا عبدُه ورسوله وصفيُّه وخليله، أرسله ربُّه بالهدى ودين الحقِّ ليُظهره على الدين كُلِّه ولو كرِه المشرِكون، فصلوات ربِّي وسلامُه عليه وعلى آل بيته الطيِّبين الطاهرين وأصحابه الغُرِّ المُحجَّلين ومن سار على دربهم واهتدى بهُداهم إلى يوم الدين.
أما بعد إخوة الإيمان، يقول الله تعالى وهو أحكم القائلين: ((إِنَّمَا المُؤمِنونَ إِخوَةٌ فَأَصلِحوا بَينَ أَخَوَيكُم وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُم تُرحَمونَ)) [الحجرات: 10] ويقول عزَّ من قائل: ((وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ)) [الشورى: 40] حديثنا اليوم -أيُّها الأحبة الأكارم- عن مَزيَّة من مزايا المؤمنين عن خاصَّةٍ يتجلى فيها معنى الذلَّة على المؤمنين، معنى الولاية بين المؤمنين.
ما معنى أن نكون أذلَّة على المؤمنين؟ ما معنى المؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض، ولا عفو ولا إصلاح بيننا؟! العفو -أيُّها السَّادة- والإصلاح -أيُّها الأحبة- بل السعي بالإصلاح، مزِيّة من مزايا المؤمنين، وخاصّة من خصائص المجتمع المسلم. الإصلاح والسعي بالإصلاح صمَّام أمان يخفف المشاكل في المجتمع، ويقرِّب النَّاس من بعضهم بعضًا. الإصلاح الذي أمرنا الله تعالى به في آيات كثيرة في محكم تنزيله، ووجهنا إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. الإصلاح على كل وعلى جميع المستويات:
- بين الأفراد: ((إِنَّمَا المُؤمِنونَ إِخوَةٌ فَأَصلِحوا بَينَ أَخَوَيكُم وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُم تُرحَمونَ)) [الحُجُرات:10].
- بين الدول والجماعات والطوائف: ((وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا)) [الحجرات: 9].
- بين المؤمنين المجاهدين: ((يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنفَالِ قُلِ الْأَنفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)) [الأنفال: 1].
- بين الرجل وزوجته: ((وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنفُسُ الشُّحَّ وَإِن تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا)) [النساء:128].
- بين المُوَرِّث ووريثه: ((فَمَن خافَ مِن موصٍ جَنَفًا أَو إِثمًا فَأَصلَحَ بَينَهُم فَلا إِثمَ عَلَيهِ إِنَّ اللَّهَ غَفورٌ رَحيمٌ)) [البقرة: 182].
آيات كثيرة -أيُّها الأحبَّة الكرام- يوجِّهنا الله فيها إلى أن نقدِّم الصلح في خلافاتنا، وإلى أن نجعل الصلح قبلةً لنا نتوجه إليه قبل الخِصام وقبل القضاء. آيات كثيرة توجه الصالحين لأن يكونوا مصلحين في المجتمع فيسعوا في الإصلاح بين الناس. العاقل أيُّها الأحبة من يقدِّم الصلح بينه وبين إخوانه، من يقدِّم الصلح بينه وبين جيرانه، كما يقدِّم الصلح بينه وبين أهل بيته ولو تنازل عن شيءٍ من حقه ((وَأُحْضِرَتِ الْأَنفُسُ الشُّحَّ وَإِن تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا)) [النساء: 128].
العدل -أيُّها الأحبة- لا تستمر معه وحده العلاقات. لو أردت أن تعيش بالعدل مع أهل بيتك لطلَّقت امرأتك منذ الشهر الأول. لو أردت أن تعيش بالعدل مع إخوانك وجيرانك دون أي تغاضٍ، لن تستطيع أن تستمر في هذه الحياة دون مشاكل. لذلك لم يأمرِ الله تعالى بالعدل منفرِدًا بل قرن العدل بالإحسان ((إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ)) [النحل: 90]،
لابدَّ أن تتغاضى عن شيء من حقك ولابدَّ أن يتغاضى الآخر عن شيء من حقه لكي تستمر هذه الحياة.
الجاهل -أيُّها الأحبة- من يسارع في الخصومة، الجاهل -أيُّها السَّادة- من يسارع برفع أمره إلى ذوي السلطان، يسارع في أيِّ خلاف أو مشكلة ترى قِبلته المخفر، وترى قِبلته المحكمة، يسارع في الشكوى على جاره على بنيه على أقربائه على عُماله على من هم معه…. يتوجه للشرطة يتوجه إلى القضاء.
لابدَّ أن تعرف أخا الإسلام أنَّ المشكلة الصغيرة متى دخلت مقرَّ الشرطة، ومتى دخلت المحاكم تفاقمت وكَبُرت وازدادت الضغينة وازداد الحقد بين الناس وأصبح الطريق إلى الصلح معسَّرا بعيدًا تحفُّه الأشواك. أي صلح يرتجى من رجل وامرأة وأبوها جرَّأها على زوجها فتوجَّهت فورا إلى المخفر واشتكت على زوجها؟! أي صلح يرتجى بين جيران وقد اختلف الجار مع جاره فبدل من أن يوجه له عاقلا حكيما من وجهاء الحي يُصلح بينهما، يُيَمِّمُ وجهه قِبَل المخفر وقِبَل المحكمة لكي يشتكي على جاره؟!
أيها الأحبّة الكرام، أحيانا في القضاء وعند الشرطة قد تأخذ حقَّك الآني، ولكن لابدُّ أن تعلم أخا الإسلام بأنَّك خسرت كثيرا من علاقتك مع من هم حولك، ولئن كسبت ماديًا في هذه القضية مكسبًا يسيرا ستخسر مُقابِله الكثير الكثير لِما سيشاع بين النَّاس بأنَّك رجلٌ صعب المعاملة، بأنَّك رجل حاد المعاملة، بأنَّك رجل عنيف، بأنَّك رجل لا تتغاضى عن شيء، فسينفِر النَّاس من التعامُلِ معك. ستُيمِّمُ وجهك قِبَل من تعمل معه فلن يشاركك أحد، ولن يعمل معك أحد، وسينفر النُّاس من جوارك، وسينفر النَّاس من مناسبتك ومصاهرتك…
أخا الإسلام، وجهنا الله تعالى إلى أن نقدِّم الصلح. العاقل -أيُّها الأحبة- قبل أن يشتكي إلى السلطات يذهب إلى الوجهاء إلى الحكماء إلى أهل الدين إلى المعروفين بالصلح والإصلاح، يُيَمِّمُ وجهه اتجاههم لكي يسعوا بالإصلاح بينه وبين إخوانه. هذا الإصلاح -أيُّها الأحبة- الذي أمر الله به الصالحين أمرًا، فمن واجبنا أن نسعى بالإصلاح بين إخواننا ((إِنَّمَا المُؤمِنونَ إِخوَةٌ فَأَصلِحوا بَينَ أَخَوَيكُم)) [الحجرات: 10]، ترى إخوانك ترى جيرانك يتشاجرون يختلفون أيام وليالي، طالت المشاكل بينهم ولا تسعى في الصلح بينهم. بين الرجل وامرأته، ترى ابنتك وقد اختلفت مع زوجها، بنت أخيك وقد اختلفت مع زوجها، الله عزَّ وجلَّ قال: ((وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ)) [النساء: 35]، [حكم ليس لكي يدافع عن قريبِه لا]. الله عزَّ وجلَّ قال: ((فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا)) [النساء: 35]، [إذا أتيا بنيَّة الإصلاح، ليس بنية أن أنصر نسيبي وقريبي أو أخي، وكذلك الطرف الآخر يريد أن ينصر بنت أخيه… هكذا لن نصِل إلى خير.
الله عزَّ وجلَّ يوجِّه المصلحين إلى أن يأتوا بنيَّة الإصلاح، فأنا أتنازل عن شيء من حقِّ ابنتي، وأنت تتنازل عن شيء من حقِّ ولدك لأن غايتنا صلاح هذا البيت.
أيُّها الأحبة الكرام، عندما نتحدَّث عن فضل الإصلاح بين النَّاس أُذكِّر نفسي وإيَّاكم بحديث النبي -صلّى الله عليه وسلم- الذي رواه أبو الدرداء -رضي الله عنه- إذ قال رسول الله -صلّى الله عليه وسلم-: «ألا أخبركم على أفضل من درجة الصَّلاة والصِّيام والصدقة؟» قالوا: بلى يا رسول الله، قال: «صلاح ذات البين …» [أخرجه أبو داود والترمذي وأحمد، وقال الترمذي: حسن صحيح]
صلاح ذات البين أفضل مرتبة وأعلى من الصَّلاة والصِّيام والصدقة. يُكمل رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- موضِّحا يقول: «فإنّ فساد ذاتِ البين هي الحالِقة، لا أقول: إنها تحلق الشعر، ولكنَّها تحلق الدِين».
فساد ذات البين -أيُّها الأحبة- يحلق الدِين لماذا؟ متى دبَّ الفساد بين النَّاس ماذا يكون بعد ذلك؟ يكون الخِصام، وتكون القطيعة، وتكون الغيبة، وتكون النميمة، ويكون الطعنُ، ويكون اللعن، وتكون الشتيمة… وقد يتطور الأمر إلى المشاجرة وإلى المضاربة وإلى القتال وإلى العِداء وإلى القتل وإلى الفواحش والعياذ بالله. لو رجعنا إلى أصلها لوجدنا أنَّ أصلها فساد ذات البين لذلك أسماها رسول الله -صلّى الله عليه وسلم-: «الحالقة، لا أقول: إنَّها تحلق الشعر، ولكنها تحلق الدِين».
لذلك -أيُّها السَّادة- شأن المؤمنين شأن أهل الإيمان دائما أن يتغاضوا عن الصغائر لكي يعيشوا بحالة من صلاح ذات البين مع أهلهم ومع أقربائهم ومع جيرانهم ومع معارفهم ومع من يعملون معه. ليس هذا فحسب، بل شأن من هم أعلى مرتبة من ذلك أن يسعوا في الإصلاح بين النَّاس وشتَّان شتَّان بين من يجلسون مجالس الغيبة والنميمة «مشَّاؤون بالنميمة مفرِّقون بين الأحبَّة»، شتَّان بين أولئك وبين الصالحين المصلحين الذين يسعون في الإصلاح بين النَّاس. قال الله تعالى: ((لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً)) [النساء: 114].
يكون الأجر العظيم والفضل العظيم والمقام الرفيع من الله تعالى لمن؟ لمن يسعون بالإصلاح بين الأحبة، لمن يسيرون بالإصلاح بين النَّاس، لمن من لم يكتفوا بصلاح ذاتهم بل لأنَّهم طوروا رتبتهم إلى رتبة المصلحين فسعوا بالإصلاح بين الناس.
وهؤلاء المصلحون -أيُّها السَّادة- لعظيم شأنهم ولعظيم المهمَّة التي يقومون بها في المجتمع، أباح الله لهم وأباح رسول الله -صلّى الله عليه وسلم- لهم أمورا قد لا تحلُّ لغيرهم، من ذلك قول النبي -صلّى الله عليه وسلم-: «ليس بالكاذب من أصلح بين الناس فقال خيراً، أو نمى خيرًا». [حديث صحيح رواه أبو داود والتِّرمذي] نمى خيرا، النمَّام ينقل السوء أمَّا المصلح ينمُّ خيرا. [والله يا أبو فلان، ترى جارك بعزَّك، والله ما شفناه إلا ذكرك إلا بالخير، وما وصفك إلا بالخير… ليش هيك عملت مع جارك؟]. ينُمّ خيرا، يتحدث بخير ولو ورَّى، ولو ذكر أمورا ظاهر الكلام بخلاف حقيقتها، يعني استخدم باب التورية والتعريض لكي يُفهم ظاهر كلامه بخلاف الحقيقة؛ [والله يا أبو فلان ترى زوجتك بتحبك، وإلك خاطر عندها وبتعزك….] قد تكون امرأته تكرهه لشرِّه معها ولسوءِ فعاله، ولكنَّ المُصلِح إن استخدم التعريض والكناية فذكر أمورا بخلاف ظاهرها للإصلاح بين النَّاس فلا بأس، قال -صلّى الله عليه وسلم-: «ليس بالكاذب من أصلح بين النَّاس فقال خيراً، أو نمى خيراً». [حديث صحيح رواه أبو داود والتِّرمذي]، والمُصلِح لا يستخدم الكذب الصريح مباشرة بل يكون ذلك بالتورية والتعريض.
من الأمور أيضا التي أحلها الله تعالى للمصلحين وفرضها لهم لكي نعرف عظيم مقام الإصلاح؛ مَن حمل حُمالة لم يستطِعها في الإصلاح جاز له أن يأخذ من الزكاة وإن كان غنيِّا. الله عزَّ وجلَّ ذكر في مصارف الزكاة “الغارِمين”. مَن هم الغارمون أيها السادة؟ من دخل بالإصلاح بين طائفتين من النَّاس فتملَّك الشُّحُ نفوسهم [لا نصالح إلا بدِيَّة كذا وكذا مثلا برقم ضخم جدا، أو نريد أن نقتل القاتل]. الطرف الثاني أيضا ما معه يدفع وعجز، فيأتي مصلح يسعى بين النَّاس يحمل هذه الحمالة يضرب على صدره يقول عندي. يريد أن يصلح بين الطائفتين لكي يعمَّ السلام في المجتمع. فقد يعجز هذا المصلح عن حمل هذا المبلغ الكبير فأجاز الله تعالى له أن يُعطَى من بيت مال المسلمين وأن يُعطَى من الزكاة تحت بند الغارمين لماذا؟ لكي يسعى في مزيد من الصلح بين النَّاس.
لذلك -أيُّها الأحبة- من يسعى بالصلح بين النَّاس وجب لنا أن نوقره وأن نُجِلَّه وأن نُعينَه على الخير فهو صمَّام أمان في المجتمع. رسول الله -صلّى الله عليه وسلم- لمَّا قال: «ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويوقر كبيرنا، ويعرف لعالمنا قدره». [حديث صحيح، رواه أبو داود والتِّرمذي]، لماذا؟ لأنَّ هذا الكبير الذي نوقره نريد أن يبقى مُهاب الجانب في المجتمع لكي تُحتَرَم كلمته ولكي يلجأ النَّاس إليه في إصلاح ذات البين. هذا العالم يحمل راية الدين نوقِّرُه تعظيمًا لشعائر الله ولكي يكون صمَّام أمان يسعى في الإصلاح بين النَّاس. هذا الإصلاح -أيُّها السادة- الذي يجب أن يكون مُقدَّمًا عند كل واحد منا وتكون الغاية عندنا الأجر من الله ((فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ)) [الشورى: 4]، لم يُحدِّد الله الأجر؛ يكفي أن تتخيل بأن أجرك وقع على الله لكي تعلم عظيم أجرك عندما تعفو وتصلح وتتنازل عن شيء مِن حقِّك.
وقبل أن أختم حديثي -أيُّها الأحبة- أود أن أنبه السامعين الكرام وأود أن أنبهكم -أيُّها السَّادة- عندما نتحدث عن الصلح والإصلاح قلنا لابدَّ أن يكون تقديم الإصلاح سجية عند المؤمن، ولابدَّ لكل مؤمن أن يسعى بإصلاح ذات البين، ولكنَّ هذا السعي يختلف من شخص لآخر. يعني إذا لم تكن عندك الموهبة في الإصلاح بين النَّاس فلا تتجاسر على ذلك، فليكن سعيك في الإصلاح بأن وجِّه المتخاصمين على رجل مصلح إلى رجل وجيه أو أن تسعى إلى أحد الوجهاء الحكماء العقلاء لكي يتدخل في المشكلة ويصلحها.
بعض النَّاس -أيُّها السَّادة- لا يكون أهلا للإصلاح بين الناس، ما عِندَه الموهبة اللازمة، ما عِنده القدرة على الكلام المناسب، ما عِنده اللباقة في الكلام، ما عِنده العلم الشرعي المناسب، فكما يقول المثل: يأتي لكي يكحلها فيعميها!!
من يريد أن يسعى في الصلح بين النَّاس لابدَّ له من مواصفات وهو مأمور بأوامر مِن ذلك: الكتمان والسرُّ. بعض النَّاس يأتي للإصلاح بين النَّاس فيفشي سرَّهم، معاذ الله!! شرط لمن يسعى في الإصلاح بين النَّاس أن يكتم الأسرار.
أحيانا تدخل في الإصلاح بين رجل وامرأته، بين شخصين، فتسمع أسرارا لا يجب أن يسمعها النَّاس. يُشترط على من يسعى في الإصلاح أن يكون كَتومًا سِتيرًا يستر النَّاس، لابدَّ له من الحكمة وحسن المنطق، لابدَّ له دائما من أن يذكِّر الخصمين بالله وأن يكون حاله حال من يذكِّر بالله، ولابدَّ أن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله ((وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً)) [النساء: 114].
لذلك النبيُّ -صلّى الله عليه وسلم- ولكي يوجِّه الوُجهاء وذوي الجاه أن يكون عملهم هذا مُخلَصًا لله، قال روحي فداه
-والحديث في سنن أبي داوود- قال: «مَنْ شَفَعَ لأخيه شَفَاعةً، فأهدى له هديةً عليها فَقَبِلَهَا، فقد أتى باباً عظيماً من أبواب الرِّبا». [سنن أبي داود]
من فعل لنا خيرًا واجب علي أن أُهدِيه هديَّة، ولكنَّ الوجيه -إذا كان فعلا من أهل الوجاهة والدِّين- يجب أن يرفض الهديَّة التي تُقَدَّم له على شفاعته، لماذا؟ توجيه من النبي -صلّى الله عليه وسلم- بأن يكون سعيه في الشفاعة بين النَّاس وفي الإصلاح بين النَّاس لا لأجل مكسب دنيوي، لكيلا يفتح بابًا من أبواب الرشوة مثلا، لا، معاذ الله… يتدخل الوجيه الحكيم للإصلاح بين النَّاس لا طمعًا بشيء إلا الطمع بالأجر من الله سبحانه وتعالى.
أسأل الله تعالى أن يجعلنا جميعا من الحُكماء الصالحين المصلحين.
ختامًا: أيُّها السَّادة وجهوا دائما من حولكم، (أهلك، جيرانك، أهل بيتك، أولادك، بناتك…) إذا وجدتَهم يتجاسرون عند الخصومة يريدون رفع الأمر للقضاء وللشرِطة (أريد أن أشتكي إلى المحكمة، أريد أن أشتكي إلى الشرطة) فخذ بحُجَزِهم عن ذلك وامنعهم ووجِّههم إلى السعي بالإصلاح.
ويا أخا الإسلام، يا من تجِدُ في نفسك الأهلية في الإصلاح، إيَّاك أن تُقصِّر في إصلاح ذات البَين وفي الإصلاح بين النَّاس ((وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ)) [التوبة: 71]. اللَّهم اجعلنا جميعا من المؤمنين، اجعلنا من أوليائك الصالحين، اجعلنا من الصالحين المصلحين… أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه فيا فوز المستغفرين.