تدخلت روسيا عسكريًّا في سوريا، في وقت كان النظام فيه بأسوأ حالاته، وباتت قبضته تتلاشى كل يوم مع تقدم فصائل المعارضة السورية من جهة، و«تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)» من جهة أخرى، ولم يعد يسيطر سوى على المدن الرئيسية، والتي أصبحت مهددة أيضًا بالسقوط.
جاء التدخل الروسي العسكري في عام 2015 طوق نجاة للنظام السوري، الذي تلقفه وتشبث به بكل قوة، وسلمه البلاد بطولها وعرضها، في سبيل حماية كرسي آل الأسد من السقوط، وبدأت روسيا البادرة بتسخين أجواء الشام عبر قصف جوي بأحدث الطائرات، ودمرت عشرات المدن والقرى والبلدات فوق رؤوس أهلها، وأعادت جل البلاد تحت سيطرة النظام، ولكن هل كان سلاح التدمير هو ما ساعد روسيا على هذا الأمر؟
الدب الروسي يتعلم من درس الشيشان
لم تكن روسيا لتستطيع إعادة السيطرة على سوريا بسلاح التدمير فقط، فتلك الشيشان ما زالت في أذهان قادة روسيا، حيث استمرت المعارك فيها سنتين (1994- 1996م) خسر فيها الروس عشرات القتلى، ما أجبر الرئيس الروسي بوريس يلتسين على توقيع معاهدة سلام وهدنة تتضمن سحب روسيا قواتها من الشيشان، وانتظر القادة الروس الفرصة المواتية لهم حتى انقضوا مرة أخرى على الشيشان عام 2000م، ونصبوا زعماء موالين للكرملين.
الدرس الذي تعلمه الدب الروسي في الشيشان وأفغانستان جعله ثعلبًا ماكرًا، وأن التدمير لا يصنع النصر، بل الخدع ما يصنعه. لذا عندما تدخلت في سوريا كانت تعلم أن الوضع سيكون صعبًا صعوبة كبيرة؛ نظرًا إلى تعقيد المشهد، وكثرة الفصائل والولاءات والدول والجهات التي تدخلت في الحرب السورية.
دخلت روسيا الحرب السورية المشتعلة مع حليف وحيد، وهي إيران ومليشيات تابعة لها، مثل «حزب الله» اللبناني، وفصائل شيعية عراقية وأفغانية، وبطبيعة الحال النظام السوري. وساندتهم الطائرات الروسية بعشرات المعارك، ولكنها لم تكن بالفعالية والسرعة المرغوبة بها؛ إذ احتاجت لبسط سيطرتها على مدينة حلب أكثر من عام، وعلى مدينة داريا الصغيرة تسعة أشهر، وغيرها من العديد من المناطق، على الرغم من القصف بشتى أنواع الأسلحة، التي من بينها صواريخ السكود، والاهتزازية، وغاز الكلور السام، ما تسبب في عشرات المجازر بحق المدنيين.
خدعة نظام «مناطق خفض التصعيد» وعودة نصف سوريا للأسد
وقعت كل من روسيا، وتركيا، وإيران في مايو (أيار) 2017 في مدينة أستانا عاصمة كازاخستان، على إنشاء نظام «مناطق خفض التصعيد»، وسميت بموجبها تسع محافظات خاضعة لهذا النظام، وهي: العاصمة دمشق، ريف دمشق، حلب، حمص، حماة، إدلب، اللاذقية، درعا، القنيطرة، ونص الاتفاق على وقف إطلاق النار بين المعارضة والنظام، حتى يجهز الحل السياسي المنتظر والمزعوم، ومن هنا بدأ الدب الروسي بتنفيذ مخططه على الفور.
سمح اتفاق خفض التصعيد لروسيا بتوجيه كامل قوتها الجوية إلى مناطق سيطرة تنظيم داعش، وتمددت قوات الأسد تمددًا سريعًا جدًّا وسط تقهقر التنظيم وتراجعه تراجعًا كبيرًا؛ إذ تزامن هجوم الروس وحلفائهم مع هجوم التحالف الدولي في الوقت ذاته، ما أضعف تنظيم «داعش» وسبب خسارته لجل مناطق سيطرته.
كان نظام «مناطق خفض التصعيد» بالنسبة للكرملين هو الهدية التي كان ينتظرها منذ تدخله في سوريا، وبعد تمدد النظام السوري في مناطق سيطرة «داعش»، بدأت أنظار الدب الروسي تتجه إلى مناطق سيطرة المعارضة المسلحة، وبدأت بخرق هذه الاتفاقية بقصف المدن والبلدات الآهلة بالسكان بحجة محاربة جبهة النصرة، واستفردت بكل منطقة على حدة.
كانت فصائل المعارضة مثل الشاة التي تنتظر ذبحها، وتظن أن الدور لن يأتي عليها، فعندما شنت روسيا والنظام حملتهما على الغوطة الشرقية – إحدى مناطق خفض التصعيد- لم تبد الفصائل المسلحة في درعا، أو حمص، أو إدلب ردة فعل قوية لهذا الخرق، بل التزمت بوقف إطلاق النار، مع شن بعض العمليات التي عدت في وقتها لذر الرماد في العيون، واحتاج سقوط منطقة كالغوطة الشرقية أقل من شهرين فقط، وهي التي تمتلك خزانًا بشريًّا وعتادًا كبيرًا جدًّا.
بعد الانتهاء من الغوطة الشرقية، توجهت أنظار الدب الروسي إلى ريف حمص الشمالي، وبدأ بالتهديد والوعيد، وحشد قوات النظام السوري و«حزب الله» على تخومها، الأمر الذي أجبر فصائل المعارضة هناك على طلب التفاوض، وانتهت بالاستسلام وسيطرة النظام عليها بدون قتال، وذلك في مايو 2018.
وظنت الفصائل في محافظة درعا أنها في مأمن من المكر الروسي؛ بسبب الدعم الذي تقدمه لها غرفة الموك وأمريكا، ولكن سرعان ما توجهت الحشود التابعة للنظام وإيران وحزب الله إلى المحافظة، وبدأت روسيا عملية عسكرية واسعة انتهت بسيطرتها على المحافظة، خلال أقل من شهر في تاريخ يوليو (تموز) 2018، على الرغم من وجود قرابة 10 آلاف مقاتل في صفوف فصائل المعارضة المسلحة.
يقول عمر الحريري مدير «مكتب توثيق شهداء درعا» خلال حديثه لـ«ساسة بوست» إن: «فصائل المعارضة في درعا كانت تستعد لشن هجوم واسع بالتزامن مع شن الروس والنظام هجومهما على الغوطة الشرقية، لكن غرفة الموك والسفارة الأمريكية في العاصمة الأردنية عمان، ضغطت على الفصائل بذريعة أن هذا انتهاك للاتفاقية، وحينها لن يكون باستطاعة الدول الدفاع عن الفصائل في حال قررت روسيا مهاجمتهم».
وحسب الحريري، فإن هذا ما دفع الفصائل لالتزام الهدنة، ولاحقًا مع بدء الحملة العسكرية على درعا تخلت الموك والدول الداعمة عن الفصائل كما نعلم، والسيناريو ذاته تكرر في المناطق الأخرى.
ويؤكد الحريري خلال حديثه لـ«ساسة بوست» أن: «الفصائل كانت منهكة عمومًا، ولا تملك القدرة على معركة طويلة الأمد مع النظام وروسيا بكل ما تملكه الأخيرة من قوة عسكرية؛ لذلك دائمًا كان خيار لا حرب مقدمًا على أي خيار آخر».
انتهت روسيا بهذه الطريقة من مناطق خفض التصعيد في ريف دمشق، وحمص، ودرعا، والقنيطرة، وبسطت سيطرتها شبه الكاملة عليها، بسرعة كبيرة، وخلال أقل من سنة أعادت أكثر من نصف سوريا إلى سيطرة نظام الأسد، وهذه الانتصارات أسالت لعاب الروس، وبدأت بحشد قواتها وجميع المليشيات التابعة لها على تخوم إدلب، لتبدأ بعدها بشن مئات الغارات الجوية على مدن المحافظة وبلداتها.
خدعة سوتشي التي مهدت لما بعدها
كانت فصائل المعارضة تسيطر على محافظة إدلب كاملة، ما عدا جزء من ريفها الشرقي، وتسيطر على جزء من ريف حماة الشمالي والغربي، وأيضًا ريف حلب الغربي كاملًا، وجزء من ريفي حلب الشمالي والجنوبي، وأيضًا جزء من ريف اللاذقية الشمالي، وهي من المفروض أنها خاضعة لنظام «خفض التصعيد»، وجميع هذه المناطق متواصلة بعضها مع بعض؛ لذلك كان من الصعوبة على روسيا تنفيذ ما قامت به على درعا والغوطة الشرقية وحمص، وكان لا بد من إيجاد حيلة أخرى.
كانت جعبة الروس مليئة بالحيل؛ فقد اتفقت مع تركيا في سبتمبر (أيلول) 2018 بمدينة سوتشي الروسية على اتفاق جديد من عدة بنود أهمها إنشاء منطقة عازلة منزوعة السلاح في محافظة إدلب، وأجزاء من ريفي اللاذقية وحماة، بعرض يتراوح بين 15- 20 كم على طول خط التماس، إذ سيتوجب على فصائل المعارضة، وخاصة «هيئة تحرير الشام» وأيضًا قوات النظام، الانسحاب من هذه المنطقة وسحب السلاح الثقيل منها، كما ستراقب دوريات مشتركة من القوات الروسية والتركية الخط الفاصل، وأيضًا فتح طريقي حلب/ اللاذقية وطريق حلب/ حماة.
وبالطبع لم تنفذ روسيا التزاماتها من الاتفاق، وواصلت قصف المدن والقرى، وحشد قوات النظام والمليشيات الشيعية على تخوم إدلب؛ ليزداد التصعيد ازديادًا عنيفًا جدًّا في شهر أبريل (نيسان) 2019، لتعلن روسيا عملية عسكرية للسيطرة على إدلب وتبدأ معركتها، ولكنها كانت صعبة جدًّا مع سقوط عشرات القتلى والجرحى من عناصر الأسد، وبحثت روسيا في جعبتها عن حيلة جديدة؛ فوجدت أفضلها وأقواها للسيطرة على إدلب، وهي خدعة «الهدن».
تاريخ الهدن الروسية
استخدمت روسيا في حربها ضد الشعب السوري هذه الخدعة أكثر من مرة في عدد من المناطق، وذلك في سبيل تحييد المناطق الثائرة وتفريقها بعضها عن بعض، وكانت تعرض الهدنة على وجهاء هذه المناطق، وتعرض عليهم المساعدات من الأكل والدواء والتسهيلات، ونجحت نجاحًا كبيرًا في تعويم العديد من المناطق وإبعادها عن الثورة.
في مقالة للإعلامي في قناة «الجزيرة» ومراسلها السابق في أفغانستان، أحمد موفق زيدان، بعنوان «كيف ردّ المجاهدون الأفغان في الثمانينيات على خدع الهدن الروسية المحلية؟» يقول إنه: «قبل 30 عامًا عملت روسيا على تأسيس ميليشيات طائفية وعرقية لإشغال «المجاهدين الأفغان»، ومعها بدأوا بطرح فكرة الهدن المحلية، ولكن «قادة الجهاد الأفغاني» رفضوا أي هدن مهما كانت النتائج وخيمة وعواقبها سلبية».
ويضيف زيدان في مقالته أن روسيا: «أدركت أنها تغمس خارج الصحن، وانسحبت من أفغانستان بعد عامين من رفض «قادة الجهاد الأفغاني» أي هدنة، وهو ما أدى لتسريع روسيا وتيرة اتفاقيات جنيف والتحضير للانسحاب».
هدن إدلب والمكيدة الروسية
علمت روسيا أن معركة إدلب لن تكون نزهة لها ولقوات الأسد والمليشيات التابعة لهما، فتوجهت إلى الحيلة المتبقية لها وهي «الهدن»، ففي 18 مايو الماضي، عرضت روسيا هدنة لمدة 72 ساعة، ولكن الفصائل رفضتها وقالت إنها لن توقف إطلاق النار إلا بعد انسحاب قوات الأسد من المناطق التي احتلتها مؤخرًا (كفرنبودة، وقلعة المضيق، وعدد من القرى والبلدات)، ولكنها في الوقت نفسه لم تشن أي هجوم، بل على العكس فقد شنت قوات الأسد عدة هجمات في محاولة لتوسيع مناطق سيطرتها، وذلك في خرق للهدنة التي أعلنت من جانبهم، وبعد انتهاء الهدنة شنت فصائل المعارضة هجومًا واسعًا تمكنت فيه من استعادة بعض المناطق، ولكن هذا الأمر لم يدم.
واستمرت المراوغة الروسية وأعلنت في 12 يونيو (حزيران) 2019، عن هدنة جديدة بالاتفاق مع تركيا، ولكنها استمرت في شن الغارات والقصف العنيف، وفي المقابل واصلت فصائل المعارضة عمليات الصد وسط تراجعها وخسارتها العديد من المناطق.
وواصلت روسيا إعلان الهدنة تلو الأخرى، وأعلنت في الأول من أغسطس (آب) الماضي، عن هدنة جديدة، وهذه المرة قبلتها فصائل المعارضة شريطة أن يكون لها الحق بالرد على الخروقات، واستمر الهدوء النسبي مدة خمسة أيام فقط، تخللتها عمليات قصف من قبل قوات الأسد، والتي أدت لسقوط عدد من القتلى والجرحى في صفوف المدنيين، ولم ترُد فصائل المعارضة على هذه الخروقات، بل واصلت الالتزام بها، لتعلن روسيا في 6 أغسطس 2019، انتهاء الهدنة بسبب تعرض قاعدة «حميميم» الروسية لقصف بصواريخ جراد، وسط تخبط في التصريحات لتبرير بدء الهجوم، إذ نفت فصائل المعارضة استهداف القاعدة.
وعلق القيادي في «الجبهة الوطنية للتحرير»، وقائد «لواء صقور الشام»، أبو عيسى الشيخ، على الهدن الروسية، وقال إنه لا بد من تحصيل المنفعة منها وتفادي مضارها، معلقًا بأن التجارب الماضية كفيلة بأن نعلم أيها جناح الداء، وأيها جناح الدواء.
وأكد الشيخ إمكانية التعايش مع الهدن والرد بالمثل، مع استغلال توقف الزحف بالتدشيم وتقوية الثغور، والاستنفار للنكث الذي يعقب كل هدنة، وأيًاّ كان ما يريده النظام والروس من الهدنة؛ فعلينا أن نأخذ منها ما ينفعنا وندع ما يضرنا.
وأشار الشيخ إلى ما تأكدنا منه حتى اليوم، أن النظام والروس اتبعوا في القتال منهجية الهدنة والغدر، وهذا يتيح لهم قضم أرض جديدة بعد أن تكون بردت الجبهات واسترخى المرابطون، ثم يفاجئونهم بنكوثهم، حتى إذا عادت لهم الأهبة، واشتدت مقاومتهم، واستعسرت عليهم المعركة، عاودوا طرح الهدنة.
وقد لوحظ أنه في كل مرة تعلن فيها روسيا هدنة تهدف من خلالها لتثبيت المواقع التي سيطرت عليها، وتمشيطها، ورفع سواتر ودشم تحمي هذه المناطق من أي محاولة لفصائل المعارضة لإعادة السيطرة عليها، كما يرى ناشطون وقادة عسكريون أن سياسة الهدن الروسية ما هي إلا لإنهاء عزيمة المقاتلين للاستيلاء على المناطق المحررة.
وتمكنت قوات الأسد وروسيا بعد الهدنة الأخيرة من السيطرة على مساحات واسعة ومهمة جدًّا، وهي مدن خان شيخون، واللطامنة، وكفرزيتا، ومورك، والتمانعة والعديد من البلدات والقرى، وأهم ما في الأمر أنها حاصرت نقطة المراقبة التركية في مورك، التي من المفترض أن تمنع قوات الأسد من اجتيازها، وبهذا تمكنت روسيا من بسط سيطرتها على ريف حماة الشمالي كاملًا، لتعلن عن هدنة جديدة في 30 أغسطس 2019، تهدف من خلالها لتثبيت نقاطها الجديدة وحمايتها، للبدء بهجوم آخر ربما في القريب العاجل.
يقول الإعلامي السوري أحمد عبد الحق، المطلع على مجريات الأحداث في محافظة إدلب لـ«ساسة بوست»: إن «روسيا تواصل إعلان الهدن في الوقت التي ترغب فيه، وتنهيها أيضًا بالوقت المناسب لها»، مؤكدًا أن النظام يواصل نقل المعدات والأسلحة الثقيلة إلى المناطق التي سيطر عليها مؤخرًا، وخاصة خان شيخون، في سبيل تثبيت سيطرته.
يضيف أحمد عبد الحق أن روسيا والنظام «أنهكا المدن والقرى بالقصف المتواصل، وأجبرا مئات الآلاف على ترك منازلهم وأرزاقهم، وعندما يتم الإعلان عن هدنة فهي فرصة لهؤلاء المدنيين للعودة إلى منازلهم»، الأمر الذي ضغط على الفصائل في كثير من الأحيان للقبول بهذه الهدن، مع علمهم أنها عبارة عن خدعة من خدع الروس.
وعلى وقع هذه الهدنة قالت مصادر خاصة لـ«ساسة بوست» إن قوات الأسد تحشد قواتها على تخوم ريف حلب الغربي، حيث رصدت تعزيزات عسكرية كبيرة تتمركز في الأحياء الغربية لمدينة حلب، في إشارة ونية مبيتة للروس للبدء بعملية عسكرية جديدة على جبهة جديدة.
وكان النظام السوري قد أعلن مساء الثالث من سبتمبر الجاري، عن إسقاطه طائرات مسيرة كانت متجهة إلى قاعدة «حميميم» الروسية، إذ كانت هذه الحجة في إنهاء الهدنة الأخيرة، وتزامن ذلك مع تحليق مكثف لطائرة البجعة الروسية والتي تجري عمليات رصد وتصوير واستطلاع المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة، فهل اقترب موعد انقضاض الروس على منطقة أخرى، وهل تصحو فصائل المعارضة من غفوتها؟
المصدر: ساسة بوست