بقلم : منى الشهري
منذ سنين وإرادة التغيير الجذري للمجتمع السعودي موجودة ، ومنذ سنين والخلفية الدينية الراسخة لهذا المجتمع تتغلب على محاولات التغيير تلك ، ويبقى السؤال المطروح منذ سنين هل سينجح عمرو يوما ما في إحداث التغيير ؟
إن محاولة التغيير هذه تعود بنا إلى الوراء قرونا طويلة حيث كانت جزيرة العرب تسودها الحنفية ملة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ، حتى جاء عمرو بن لحي ليكون (أول) من أحدث التغيير ..
(( ومع اختلاف المضمون ، ودرجة الإثم ، ومع أن الشرك ليس كغيره من الذنوب، إلا أني أستشهد بالأثر ومنهجية التغيير فحسب ))
لقد استند عمرو بن لحي حتى حاز السبق في التغيير المجتمعي على عدة أمور ..
أولا : كان رجلا غنيا كريما أحبه الناس لذلك
“وذكر السهيلي أنه ربما ذبح أيام الحجيج عشرة آلاف بدنة ، وكسى عشرة آلاف حلة في كل سنة يطعم العرب ويحيس لهم الحيس بالسمن والعسل ، ويلت لهم السويق قالوا : وكان قوله وفعله فيهم كالشرع المتبع لشرفه فيهم ومحلته عندهم ، وكرمه عليهم ” البداية والنهاية، ١٨٨/٣]
يقول الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله :
وأمّا قصّة عمرو بن لُحَيٍّ، وتغييره دين إبراهيم: فإنّه نشأ على أمرٍ عظيمٍ من المعروف والصّدقة، والحرص على أمور الدّين. فأحبّه النّاس حبّاً عظيماً، ودانوا له لأجل ذلك حتى مَلَّكُوه عليهم، وصار ملكَ مكّة وولاية البيت بيده، وظنّوا أنّه من أكابـــــــر العلماء، وأفاضـــــــل الأولياء” [مختصر سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ، ص١٩]
تأمل ..لم يكن كرمه ولا بُدنه ولا عسله ولا سويقه الذي ملأ به بطون الناس لينفعه أمام ما أحدثه من إفساد ،
بل لقد بقي عهده عهدا مشؤوما كما يقول ابن كثير عن بني خزاعة ” وكانوا مشئومين في ولايتهم ؛ وذلك لأن في زمانهم كان أول عبادة الأوثان بالحجاز ؛ وذلك بسبب رئيسهم عمرو بن لحي – لعنه الله – فإنه أول من دعاهم إلى ذلك ” [البداية والنهاية ، ١٨٧/٣]
ثانيا : اعتمد ابن لحي على الفكر المستورد ، دون إعمال للعقل ودون تمحيص ، تقليد وتبعية وانبهار فحسب .
يقول ابن هشام عن بعض أهل العلم ” أن عمرو بن لحي خرج من مكة إلى الشام فلما قدم مآب من أرض البلقاء ورآهم يعبدون الأصنام فقال لهم ما هذه الأصنام التي أراكم تعبدون ؟ قالوا له : هذه أصنام نعبدها فنستمطرها فتمطرنا ونستنصرها فتنصرنا فقال لهم : ألا تعطوني منها صنما فأسير به إلى أرض العرب فيعبدوه ؟ فأعطوه صنما يقال له : هبل فقدم به مكة فنصبه ، وأمر الناس بعبادته وتعظيمه “
[البداية والنهاية ، ١٨٨/٣]
مع ما امتلأت به أرض الشام من مظاهر أكثر حضارة وعلما من جزيرة العرب إلا أن عمرو بن لحي لم يحضر منها إلا الصنم(هبل) !! وها هو منبهر آخر قلّب بصره في نيويورك وواشنطن فلم تبهره إلا السينما ودار الأوبرا ، وتغافل عن مظاهر الحضارة الأخرى التي يحتاجها مجتمعه .
لم تغير الأوثان ولا مظاهر الشرك من حال الحجاز بل أورثتهم جهلا وذلًّا ، وكذلك الحال مع ما يريدون إحضاره من جاهلية الغرب التي تقيأها عقلاؤهم .
ثالثا : اتساع نطاق التغيير الذي أحدثه ابن لحي ليعم جزيرة العرب ( لأنه ) انطلق من مكة التي كانت تمثل القدوة والمكانة والقبلة لبقية العرب فتبعتها الحجاز ثم باقي جزيرة العرب .
وهنا تكمن خطورة أي إفساد لبلاد الحرمين التي تمثل قبلة العالم الإسلامي وقدوته .
ومن الخزي والذنب والخيانة والشناعة أن تحتضن هذه الأرض التي قام فيها الإسلام ؛ ما يخالف تعاليمه .
رابعا : اعتمد ابن لحي على أهداف جميلة ليخفي قبح ما شرعه للناس ، وما كان ليفلح لولا استجابة الرعاع والجهلة من الناس .
وقد ذكر ابن كثير في تفسيره “ما كانوا ابتدعوه من الشرائع الباطلة الفاسدة التي ظنها كبيرهم عمرو بن لحي – قبحه الله – مصلحة ورحمة بالدواب والبهائم وهو كاذب مفتر في ذلك ، ومع هذا الجهل والضلال اتبعه هؤلاء الجهلة الطغام فيه بل قد تابعوه فيما هو أطم من ذلك وأعظم بكثير وهو عبادة الأوثان مع الله عز وجل ، وبدلوا ما كان الله بعث به ابراهيم خليله من الدين القويم والصراط المستقيم من توحيد عبادة الله وحده لا شريك له ، وتحريم الشرك ، وغيروا شعائر الحج ، ومعالم الدين بغير علم ولا برهان ولا دليل صحيح ولا ضعيف “
[البداية والنهاية ، ١٩٥/٣]
وهكذا الحال .. تغييرات تفسد دين الناس تحت مسمى (الإصلاحات ) ، وهكذا الحال .. فإن مهمة تحويل المجتمع من الخير إلى الشر تتم على أيدي الجهلاء
ومهمة تحويله من الشر إلى الخير تتم على أيدي العقلاء .. لذلك كان فتح المجال وإعطاء المنابر للجهلاء يسوِّقون لذلك التغيير ويصفقون له هو أول مراحل التغيير ، وفي المقابل إسكات العقلاء والحرص على إلتزامهم بيوتهم لتتم العملية بنجاح !!
خامسا : عَظُم تأثير التغيير وتفرع عن ( هبل) الذي أحضره عمرو بن لحي من الشام وأدخله الكعبة ؛ أحجارا تعبد في أكثر البيوت وتستصحب في أغلب الأسفار !!
وطغت الحقيقة على الادعاء .. فظهر الشرك والجاهلية ليبطل ما ادعوه من رحمة وحضارة !!
قال ابن إسحاق : واستبدلوا بدين ابراهيم وإسماعيل عليهما السلام غيره فعبدوا الأوثان وصاروا إلى ما كانت عليه الأمم قبلهم من الضلالات وفيهم على ذلك بقايا من عهد ابراهيم عليه السلام يتمسكون بها من تعظيم البيت والطواف به والحج والعمرة والوقوف على عرفات والمزدلفة وهدي البدن والإهلال بالحج والعمرة مع إدخالهم فيه ما ليس منه فكانت كنانة وقريش إذا أهلوا قالوا : لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك فيوحدونه بالتلبية ، ثم يدخلون معه أصنامهم ، ويجعلون ملكها بيده يقول الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم ” وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون” [ يوسف :١٠٦ ] أي ما يوحدونني لمعرفة حقي إلا جعلوا معي شريكا من خلقي ” [البداية والنهاية ، ١٨٩/٣]
وهكذا الحال يفضح الانحراف عن المنهج كل ادعاءات ووعود بالتزام ضوابطه ، ويتفرع عنه انحرافات أخرى .. كلما زادت شدتها ؛ زاد وزر من فتح المجال لها .
سادسا : وجاء الجزاء يليق بذلك السبق وفداحة التغيير .
فعن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيت جهنم يحطم بعضها بعضا ورأيت عمرا يجر قصبه وهو أول من سيب السوائب” [رواه البخاري]
وعن عبدالله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن أول من سيب السوائب ، وعبد الأصنام أبو خزاعة عمرو بن عامر بن لحي وإني رأيته يجر أمعاءه في النار ” [رواه أحمد وصححه الألباني]
نعم .. لقد كان الأول .. كان هو من حاز السبق في إفساد مجتمع على فطرة الدين الحنيفي ، فتميزت عقوبته عن عقوبة من جاء بعده .
وهكذا الحال مع كل مسؤول يكون على يديه السبق لتغيير المجتمع من قيم الإسلام إلى قيم الغرب .
فليس هينا عند الله أن تكون أول من يحدث التغيير ، أول من يعطل شرائع الله ، أول من يفسد عباده ، أول من يتحدى وعيده .
سابعا : ورغم ذلك الأثر وعمقه .. انتهت الأصنام واندثرت من جزيرة العرب وانتصر التوحيد وباء ابن لحي بإثمه .
فإلى كل من يريد حيازة السبق في تغيير مجتمعنا ، وإلى كل من يريد أن يدخل على مجتمع الحرمين ما لا يليق به من مفاسد أقول :
هذه الأرض التي انطلق منها الإسلام وتربى فيها أهلها على يد معلم البشرية صلى الله عليه وسلم ، إنها أرضنا التي نعيش فيها بإسلامنا وننشر فيها تعاليم إسلامنا ونطالب فيها بالحفاظ على إسلامنا ، وأما من يريد العيش وفق نيويورك وواشنطن فليذهب لها أو ليلزم بيته . ولو أن ابن لحي قد لزم بيته ، لما جاء هبل ، ولما جرجر في النار أمعاءه .