كتب نواف القديمي:
“حتى أكثر التيارات محافظةً والتصاقاً بالتراث المؤسس للمدرسة والمنهج لا تنفك عن التأثر واستلهام أفكار وتصورات نظرية وأنماط حركية هي ليست فقط من إنتاج المخالفين لها، بل قد تكون أحياناً من إبداع الخصوم..
ففي الحالة الإسلامية مثلاً – وهي الأكثر ادعاءً للنقاء – لم يستلهم حسن البنا فكرة التنظيم من خبرات إسلامية بقدر ما كانت اقتباساً من تجارب شيوعية كانت حاضرة – بهياكلها التنظيمية الصلبة – في مصر قبل الإخوان بعقود. في حين ظهرت بصمات البنا في تطويع وتبيئة هذه الفكرة لتتناسب مع التنشئة الإسلامية حين أطلق على الوحدات التنظيمية الصغيرة التي يسمّيها الشيوعيون “خلايا” اسم “أسرة” لتكون أكثر حميمية وبُعداً عن خشونة الصرامة الحزبية..
فكرة الطليعة المؤمنة “جيل قرآني فريد” التي ستقود مجتمعاتنا نحو تطبيق الشريعة وسيادة الإسلام، والتي نحتها سيد قطب في الظلال والمعالم، تكاد تكون استنساخاً لفكرة “الطليعة الثورية” – في الفكر الماركسي اللينيني – التي ستقود نضالات البروليتاريا نحو الثورة على الاستغلال البرجوازي من أجل إنشاء المجتمع الشيوعي. وحتى الفكرة القطبيّة المتمثلة بالتعويل على “الإرادة” في التغيير وليس على “القوة” تكاد تتطابق في تفاصيلها مع المبدأ الثوري الذي ضخّه المناضل الشيوعي الأرجنتيني تشي جيفارا..
تقي الدين النبهاني، مؤسس حزب التحرير، اعتمد في كراسة الحزب على فكرة تأسيسية مفادها أن عودة الخلافة (المجتمع المثالي الإسلامي) لن تكون إلا من خلال تكوين تكتل سياسي حزبي صارم يعمل على التثقيف السياسي ويقود المجتمع نحو التغيير. وهي فكرة تتطابق مع تنظير لينين في كتابه الأشهر “ما العمل” الذي صدر عام 1902م واعتُبِر دستور الحركة البلشفية، حيث أكد أن حُلم انتصار البروليتاريا على البرجوازية من أجل تكوين مجتمع الشيوع (المجتمع المثالي الشيوعي) لن يكون إلا بتأسيس تكتل حزبي صارم ـ تقوده الطليعة الثورية ـ يعمل على التثقيف السياسي ويقود نضالات البروليتاريا نحو التغيير..
الحركات الجهادية منذ بدأت – بشكلها الحديث – في السبعينيات وهي تشتغل وفق قاعدة “العدو القريب قبل العدو البعيد” التي دوّنها ونظّر لها محمد عبد السلام فرج في كتابه “الفريضة الغائبة”، وهو بمثابة الدستور للحركات الجهادية المصرية. ويمكن اعتبار أن في هذه الفكرة وقعاً للحافر على الحافر مع القاعدة التي اشتغلت عليها الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين – بعد تمركسها – والتي كان غسان كنفاني، الأديب والقيادي في الجبهة، أول من كتبها حين قال: “إن الطريق إلى تحرير القدس يمر عبر عمّان.. وعلينا أن نحرر البلاد العربية أولاً ثم نذهب لتحرير فلسطين”، وغالباً عبرت الفكرة إلى مصر من خلال وسائط فلسطينية كـ”صالح سرية ومحمد سالم الرحّال” اللذين انتقلا إلى مصر بعد تصفية الحركات الفلسطينية في الأردن على إثر معارك أيلول الأسود..
وكذلك يمكن تسجيل تناص ما جرى في مفهوم الحتمية “حتمية الحل الإسلامي” كما برز في الفكر الإسلامي في سياق الصراع مع التيارات الأخرى، والذي يشير إلى خلاصٍ قريب ذي مواصفات فكرية ودينامية سياسية، مع فكرة الحتمية في التنظير الماركسي “حتمية الثورة” و”حتميّة المجتمع الشيوعي”. وكذلك في الاندفاع الإسلامي، تحت تأثير اليسار وحضوره في العالم العربي، إلى الكتابة حول “اشتراكية الإسلام” و”العدالة الاجتماعية في الإسلام”..
وإذا أمكن، بتتبع سريع، تسجيل هذ القدر من التلاقي والتأثّر في الفكر الإسلامي بأفكار خصومه، فيمكن تسجيل ما يفوق ذلك عند التيارات والأحزاب الماركسية والقومية والليبرالية..
يقول د. علي حرب: “في كل ثقافةٍ ثمة وافدٌ أو دخيل، مآله أن يكون أصيلاً أو موروثاً”..
خلاصة القول أنه لا يمكن لتيار أو جماعة أن يدّعي نقاءً فكرياً خالصاً، الكلّ يؤثّر ويتأثّر، والأفكار هي نتاج تراكم خبرات ومعرفة وتواصل وصراع وجدلية “ديالكتيك” وصيرورة اجتماعية صِلتها بالواقع أوثق من ارتباطها بالنظرية والتجريد”.