بقلم: د. عماد الدين الرشيد
تعليقا على ما كتبه البعض عن خبر موت الكاتب الطيب تيزيني الذي توفي عن ٨٥ سنة في مدينة حمص السورية، كتب د. عماد الدين الرشيد:
ليسامحني الإخوة الكرام على مقالتي، لقد حرصت على أن ألجم قلمي فلم أتمكن..
إنني أتفهم أن تنهال مئات التعليقات على وفاة الدكتور طيب تيزيني بالثناء والتزكية من العلمانيين، أما من الإسلاميين فأمر أستغربه للغاية. ويزداد استغرابي من التعليلات الغريبة.. وسامحوني الممجوجة!!
مرة على الإنتاج الفكري الإنساني.. وكأن الإسلاميين لا يعرفون أن فكر الرجل كله يستهدفهم في كل مراحل حياته!! فضلًا عن غياب الجديد في إنتاجه..
ومرة على مواقفه الثورية… وكأن الإسلاميين لا يعرفون أنه كان من أهم المنظرين لاستبداد حافظ الأسد، والمسوقين لموقفه من الإسلاميين، بل ومن الإسلام، وأنه كان من أهم من كان يعتمد عليه البعث في تغيير الفكر الديني لدى الرفاق من طلبة البعثة الحزبية في كلية الشريعة؛ حيث كانت تستضيفه الفرقة الحزبية في الكلية لإزالة آثار كلية الشريعة من أدمغتهم. حسبما ذكر كثير من كبار أساتذة الكلية في ذلك الوقت، مع العلم أنني لم أكن لحظة واحدة بعثيًا.
وأما موقفه من بشار فكان موقف السر وفي فترة متأخرة، وهذا عين موقف الدكتور البوطي رحمه الله حيث يشتم بشار سرًا ويؤيده علنًا وقد رأيت ذلك من الدكتور البوطي مرارًا.. وأما موقف تيزيني في الثورة فيفيض انتهازية حيث يتقدم ويتأخر حسب الخطوط الحمراء والخضراء، ومؤتمرات معارضة النظام في الداخل واضحة في ذلك.. وهذا موقف معيب من رجل يحسب على المعرفة. ويعدُّه كثير من الناس من أساطين المعرفة…
ومرة أنه تغيَّر فكرُه في محاولة لإقناع بقية الإسلاميين بدينه.. وكأن الإسلاميين لا يعرفون أنه انتقل من كفر إلى كفر آخر في ميزان معتقداتهم.. شأنه شأن المفلسين من اليسار العربي الذي تلبرل (صار ليبراليًا) ولكنه يعيش عفونة استبداد البروليتاريا.
إنني مؤمن كل الإيمان بأنَّ للرجل أن يعتقد ما يريد، فالله الذي أمر بالإيمان قال: (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)، وقال معلمًا نبيَّه: (لكم دينكم ولي دين). لكن لا يقبل استغفالنا برشوة أنه تغير فكريًا.
إنني لا أحاكم معتقد الرجل في هذه المقالة، بل أتأمل موقف بعض الإسلاميين من تيزيني في ميزان معتقدهم أنفسهم..
هل هو غفلة؟ هل هو نفاق -معذرة-؟ لذا تركت مكانه فارغًا في العنوان. مع العلم بأن الناس تحترم من يحترم مبدأه ولا يبتذله.
إنني على معرفة بهذا الرجل قد لا تكون طويلة، لكنها كافية لأن أقول: هو ممن انتقاه حافظ الأسد ليسوِّق نفسه به، ومن هذا الوجه تحديدًا هو يشبه الدكتور البوطي مع اختلافهما إيديولوجيًا، مبادئهما لا تسمح بقبول الظلم، لكن إحسان الظالم أغرقهما، وهما ممن لا تغريهما المادة، ويختلفان بأن تيزيني استعمل ذكاءه في الحفاظ على صورته، بخلاف الدكتور البوطي الذي غلبت عليه رؤية خاصة لترجيح المصالح الفقهية.
ويبدو لي أن وراء هذا الموقف الساذج الذي نهجه كثير من الإسلاميين أمران:
الأول: إحباط من المؤسسة الدينية يدفع إلى اصطناع مفارقة ناجحة في موقف الآخر مبالغة في العار الذي وقعت فيه المؤسسة الدينية. بحيث يصل انعدام الوزن إلى أن يقول بعضهم مع الأسف: (عندما نعدُّ الأبطال والشرفاء سنذكر التيزيني وفدوى سليمان ومي سكاف وعبد الحكيم قطيفان واصالة المصري)، وكأنه لا يجد من عشرات آلاف الشرفاء ممن يخالفون هؤلاء في المنهج صورة واحدة تستحق أن تذكر بجانب هؤلاء!!
والثاني: انفتاح صوري مصطنع على الآخر من غير علم، بل بدوافع الحرج، وربما المراجعة العاطفية في أحسن الأحوال. ولا شك في أهمية المراجعة ووجوبها، لكن بعد تجريدها من بكتيريا العواطف.
فرق كبير بين الثناء والتزكية.. من رأى ما يستدعي الثناء فليثن من غير تزكية، فالتزكية وصف شامل لكل معارف المرء وسلوكه، وأما الثناء فلبعض الأوصاف، فما أجمل شعر بشار بن برد مع أنه شعوبي فاسد المعتقد، هذا ثناء مقبول. وما نقوله شهادة للأجيال، فلنرحم أبناءنا وأحفادنا، ولا سيما عندما نعطف هذه التزكيات المجانية -في اعتقادي على الأقل- على مواقف لعلماء سقطوا سياسيًا فلا يتميز للسامع حدودُ المقارنة ولا محلُّ التزكية.
ما قام به كثير من الإخوة هو التزكية.. ومع احترامي لمن رأى موجبًا للثناء فإنني مع التمحيص لم أجد ما يستدعي الثناء.
وأحيل الإخوة إلى تعليق د أحمد برقاوي زميل الدكتور تيزيني.
وأرجو ألا يفهم كلامي أنني أحصر الثناء في الإسلاميين، أو أنني لست منفتحًا على الآخر، بل أنا أتكلم عن ظاهرة الثناء على الدكتور تيزيني، ويبدو أننا في وقت انعدام الوزن وفقد الثقة بالنفس وضياع البوصلة.. منذ مدة مرّت ظاهرة فتحي الصافي، ومن قبلها ظاهرة مي سكاف، ولا أدري ما بعدها وبعدها… مع تأكيدي على وجود ما يستحق الثناء في هؤلاء بوجهة نظر البعض، لكن لا تنسوا البوصلة..
أما وإن الموقف موقف موت فإنني أحترم النفس البشرية، ولو مرت بي جنازة الرجل لقمت لها احترامًا للنفس البشرية. لكنني لا أستغني عن بوصلتي.