#خطبة_الجمعة
#الشيخ_محمد_أبو_النصر
التاريخ: 14/شعبان/1440هـ
الموافق: 19/نيسان/2019م
🕌 أحد مساجد ريف حلب المحرر.
⏱ المدة: 35 دقيقة.
التاريخ: 22/رجب/1440هـ
الموافق: 29/آذار/2019م
🔴الأفكار الرئيسة في الخطبة الأولى:
1️⃣ سامح قبل نصف شعبان.
2️⃣ لماذ التركيز على سلامة الصدر قبل مواسم الرحمات.
3️⃣ ما ورد في عظيم أجر وفضل سلامة الصدر على المسلمين.
4️⃣ مكاسبك الدنيوية قبل الأخروية من مسامحة الناس.
5️⃣ ثمرات سلامة الصدر.
6️⃣ مفاسد الغِل والحقد.
7️⃣ من قصص السلف مع سلامة الصدر.
8️⃣ الفرق بين سَلَامة القلب والـبَلَه.
🔴الأفكار الرئيسة في الخطبة الثانية:
9️⃣ بعض المفاتيح التي تحصل بها سلامة الصدر
🔟 دعاء
لتحميل الخطبة كتابيا بصيغة PDF
ملاحظة: ما بين معكوفتين [ ] فهو شرح مُدرج في سياق ذِكرِ الدليل.
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي له الفضل كلهُّ وإليه يرجع الأمر كلهُّ، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وأشهد أن لا إله إلا الله القائل ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ﴾، وأشهد أنَّ محمداً عبدُ الله ورسولُه أَصفى الناس قلباً، وأرقّهم فؤاداً وأحرصهم على الخير وأبعدهم عن الشرّ، صلّى الله وسلَّم وبارك عليه، وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وأصحابه الغُرِّ المُحجَّلين، ومن سار على دربهم واهتدى بهداهم إلى يوم الدين، أمّا بعد إخوة الإيمان:
ها قد انتصف شهر شعبان وانقضت أيامه ولياليه ولم يبق منه إلا القليل ولا يزال بعض الناس في مشاحنة وَمُشَاحَّة وحقدٍ وبغضاء، والنبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- يقول: “إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَطَّلِعُ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ عَلَى عِبَادِهِ فَيَغْفِرُ لِأَهْلِ الْأَرْضِ إِلَّا لِمُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍ” [والحديث حسن رواه ابن ماجه]. لم يصحَّ ولم يُحسَّن –على ما أعلم- في فضائل ليلة النصف مِن شعبان إلّا هذا الحديث، وكفى به، وقد حسَّنه المتأخرون من المحدِّثين، وليلة النصف تكون بعد غروب شمس اليوم الرابع عشر من شهر شعبان، فهلا أدركت الأجر العظيم، وغسلت قلبك من الحقد والمشاحنة والمشاحَّةِ والبغضاء!
رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- لم يذكُر في هذا الحديث صيامًا ولا قيامًا ولا ذِكرًا، إنّما ذكَّر أُمَّتَهُ بأمر عظيم يستعدوا به لاستقبال الموسم المبارك (شهر رمضان)؛ ذكَّرهم بسلامة القلب وتوحيد الرب سبحانه وتعالى؛ فمضي نصف شعبان إيذان بانتهائه ومجيء ما بعده، ومن جَمع في صدره توحيد الله تعالى وسلامة القلب على المسلمين فقد استوجب الرحمة والمغفرة والعتق من النار إن شاء الله تعالى.
يقول سفيان بن دينار: “قلت لأبي بشير -وكان من أصحاب علي رضي الله عنه وأرضاه-: أخبرني عن أعمال من كان قَبْلنا؟ قال: كانوا يعملون يسيرًا، ويُؤْجَرون كثيرًا. قلت: ولم ذاك؟ قال: لسَلَامة صدورهم” [الزهد لهناد بن السري].
أيها السادة الكرام، حديثنا اليوم عن سلامة الصدر وما أدراك ما سلامة الصدر؟! بها بلغ القوم الرتب الشريفة، ونالوا الدرجات العالية الرفيعة… وفي الحديث الصحيح الذي أخرجه الإمام أحمد في مُسندِه: عن أنسِ بن مالك رضي الله عنه قال: كنَّا جُلوسًا مع رسولِ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- فقال: يطلُعُ الآن عليكم رجلٌ من أهلِ الجنَّةِ، [فتشوَّق الصحابة وتشوَّفوا ناظرين من سيطلع، أهو أبو بكر؟ أهو عمر؟ من مِن هؤلاء الذين شهد لهم النبي بالجنَّة…] فطلع رجلٌ من الأنصارِ تنطُفُ لحيتُه من وضوئِه قد علَّق نعلَيْه بيدِه الشِّمالِ، [رجل من عوام المسلمين، وليس من مشاهير الصحابة، حتى أن راوي الحديث لم يذكر اسمه…] فلمَّا كان الغدُ قال النَّبيُّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-: مثلَ ذلك، فطلع ذلك الرَّجلُ مثلَ المرَّةِ الأولَى، فلمَّا كان اليومُ الثَّالثُ، قال النَّبيُّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-: مثلَ مقالتِه أيضًا، فطلع ذلك الرَّجلُ على مثلِ حالِه الأوَّلِ، [.. الصحابة الكرام صاروا في حيرة وتشوّق يريدون أن يعرفوا سرَّ ذاك الرجل، بم حاز تلك الدرجة والمرتبة الرفيعة؟!…] فلمَّا قام النَّبيُّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- تبِعه عبدُ اللهِ بنُ عمرٍو –رضي الله عنهما-، فقال: إنِّي لاحيْتُ أبي، فأقسمْتُ أنِّي لا أدخُلُ عليه ثلاثًا، فإن رأيتَ أن تُئوِيَني إليك حتَّى تمضيَ فعلتَ. قال: نعم. [تشاحنت مع أبي وحلفت ألا أدخل البيت ثلاثة أيام، فهلا أضفتني عندك حتى تمضي؟…يريد عبد الله أن يرى عمله واجتهاده، يريد أن يعرف سِرَّه الذي نال به هذه المكانة الرفيعة…] قال أنسٌ: فكان عبدُ اللهِ يُحدِّثُ أنَّه بات معه تلك الثَّلاثَ اللَّياليَ فلم يرَه يقومُ من اللَّيلِ شيئًا غيرَ أنَّه تعارَّ تقلَّب على فراشِه ذكر اللهَ عزَّ وجلَّ، وكبَّر حتَّى صلاةِ الفجرِ. قال عبدُ اللهِ: غيرَ أنِّي لم أسمَعْه يقولُ إلَّا خيرًا، [ثلاثة أيام كنت معه فيها لم أسمع منه إلا الكلام الحسن ولم يذكر أحدا بسوء…] فلمَّا مضَتِ الثَّلاثُ اللَّيالي، وكِدتُ أن أحتقِرَ عملَه قلتُ: يا عبدَ اللهِ لم يكُنْ بيني وبين أبي غضَبٌ ولا هَجرةٌ، ولكن سمِعتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ لك ثلاثَ مرَّاتٍ: يطلُعُ عليكم الآن رجلٌ من أهلِ الجنَّةِ، فطلعتَ أنت الثَّلاثَ مرَّاتٍ، فأردْتُ أن آويَ إليك، فأنظُرَ ما عملُك، فأقتديَ بك، فلم أرَك عمِلتَ كبيرَ عملٍ، فما الَّذي بلغ بك ما قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟ [فأجابه الرجل] قال: ما هو إلَّا ما رأيتَ، فلمَّا ولَّيْتُ دعاني: ما هو إلَّا ما رأيتَ غيرَ أنِّي لا أجِدْ في نفسي لأحدٍ من المسلمين غِشًّا، ولا أحسُدُ أحدًا على خيرٍ أعطاه اللهُ. إيَّاه فقال عبدُ اللهِ: هذه الَّتي بلغَتْ بك”. ا.ه
ذاك الرجل على قلة عبادته، لكنَّه ينام سليم الصدر، ينام خالي البال، مُطهِّرًا نفسه من الحقدِ على الخلق، وفي هذا قال ابن رجب –رحمه الله-: “أفضل الأعمال سَلَامة الصَّدر من أنواع الشَّحْناء كلِّها.. فإنَّ سَلَامة الصَّدر، ونقاء القلب من أمراضه صفة من صفات أهل الجنَّة، وميزةٌ من ميِّزاتِهم، ونعيم يتنعَّمون به يوم القيامة. قال -تبارك وتعالى- ﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ﴾ [الحجر: 47]. نعيمٌ جعله الله جزاءً للمؤمنين في الجنة، أنهم فيها لا يتحاسَدون ولا يتباغضون ولا يحقدون، دائما صدرهم سليمٌ خالي، حتى مما كان بينهم في الدنيا، ﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ﴾ [الحجر: 47].
نعيمٌ جعله الله جزاءً للمؤمنين في الجنَّة، هو سلوكٌ يسلكه البعض يعيشونَه نِعمةً في الدنيا قبل الآخرة. نعمةٌ عظيمةٌ من أعظَمِ النِّعَم أن تكون سليم الصدر، أن لا تجد على أحدٍ من المسلمين شيئا في صدرك، لا تحقِد ولا تغِلُّ ولا تحسِد…
وفي الحديث الصحيح الذي أخرجه ابن ماجه عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: قيل: يا رسولَ اللهِ أيُّ النَّاسِ أفضلُ؟ قال: “كلُّ مَخمومِ القلبِ صَدوقُ اللِّسانِ”. قالوا: صَدوقُ اللِّسانِ نعرِفُه، فما مَخمومُ القلبِ؟ قال: “هو التَّقيُّ النَّقيُّ لا إثمَ فيه ولا بَغيَ، ولا غِلَّ، ولا حسَدَ”.
وفي شرح الحديث يقول الشيخ علي القاري رحمه الله: “المخموم مِن خَمَمْتُ البيت، إذا كنستُه،… فالمعنى: أن يكون قلبه مكنوسًا من غبار الأغيار، ومُنَظَّفًا من أخلاق الأقذار” [مرقاة المفاتيح].
لا يحْمِلُ الحِقْدَ مَنْ تَعْلُو بِهِ الرُّتَبُ *** ولا ينالُ العلى من طبعهُ الغضبُ
لا يحملون الحِقد، ولا ينامون وقد أضمروا الضغينة على مسلم، إنهم أهل العُلا، أهل الرُتب العالية…
أيها السادة، كم قضت الأحقاد على علاقات، وكم خرَّبت من بيوت، وكم تمكَّنت من صدور فحوَّلتها إلى خصومةٍ مع الآخرين؟! ضيَّعت لذَّة الإيمان، وأوهنَت عُرى التقوى، فأعمت صحابها عن الفضائل، فتراه يُضخِّم الرذائل، ويتعدى إلى الكذب والافتراء على الآخرين، فتشتعل القلوب بنار العداوة والحقد والبغضاء، والشيطان يستمتع بذلك ويغذيه، ويُضرِمُ ناره، منتشيًا بالتحريش بين الناس، فيتناجون بالإثم والعدوان وقطيعة الأرحام، ﴿إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ [المجادلة:10].
ولذلك أيّها السادة كان سلفنا الصالح -رحمهم الله تعالى- يتعاهدون سلامة صدروهم، وطهارة قلوبهم، ويهتمون بذلك أشد الاهتمام، فبلغوا بذلك أعلا الدرجات، ومن ذلك ما جاء مثلًا في (مناقب الإمام أحمد)، قال الحسن بنُ عبدِ الله الخُرَقِي: “بِتُّ مع الإمام أحمد ليلة فلم أره ينام إلا يبكي، إلى أن أصبحت، فقلت: يا أبا عبد الله، كثر بكاؤك الليلة فما السبب؟ فقال الإمام أحمد: ذكرتُ ضربَ المعتصم إياي [في السِّجن]، ومَرَّ بي في الدرس قوله -تعالى-: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ…﴾ [الشُّورَى: 40]، فسجدتُ وأحللتُه من ضربي في السجون، وكان –رحمه الله- يقول: العفو أفضل، وما ينفعكَ أن يُعَذَّب أخوكَ المسلمُ بسببك، لكن لِتَعْفُ وَتَصْفَحْ عنه، فيغفر الله لك كما وعدك، يريد قول الله -تعالى-: ﴿وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [النُّورِ: 22].
أجرٌ أُخروي عظيم… ومعه أيها السادة نعيمٌ دنيويٌ كبير يجهله كثيرٌ من الناس.
يقول لي أحدهم: يؤذونني فأتغافل عنهم وأتجاهلهم؟!! ماذا سأستفيد من ذلك، وما سأكسب؟؟!
أقول لك –أخا الإسلام-: لكي تعيش ما يُسمّى بالحياة الملكية، لكي تنام مرتاح البال، لكي لا تصاب بالأمراض العصبية والنفسية والجسدية، لكي تُمرِّرَ سنين الحياة القليلة بسعادة وتنتقل منها إلى دار الآخرة والناس لا تذكرك إلا بخير، حاول أن تتغافل عن إساءة الناس….
نَم سليم الصدر، نم خفيف القلب، نم مرتاح البال، لكي لا يرتفع سكُّرك، لكي لا تأتيك الجلطات، ولكي لا تتلَف أعصابُك،… المكسَبُ معك وإنِّي لك ناصِحٌ أمين، أنت بذلك ترتاح بدنًا وروحًا ونفسًا، تنام مرتاح البال هنيئا بتغافلك عن الناس، بتجاهلك للإساءة… أمَّا من دقَّق وراء الناس، فذاك إن كظم غيظه فقد أحسن بكظم غيظه، ولكنّه أوجع قلبه، وقهرَ نفسَه، وضيَّق صدره بما حملَه في نفسه ممّا دققه على الناس، أما إن أراح صدره من تتبع الناس، وأراح قلبه بتغافل إساءة الناس وتجاهلها، وأخذ الأمور بحسن الظنِّ تجاه المسلمين، فذاك يبحث عن راحة نفسِه وبالِه، قبل أن يبحث عن راحة الآخرين، ولهذا كان الرسول -صلّى الله عليه وسلّم- أحرص الناس على سلامة قلبه، وكان من دعائه فِي صَلَاتِهِ أنه يقول: “….وأَسْأَلُكَ قَلْباً سَلِيماً وَلِسَاناً صَادِقًاً” [أخرجه النسائي وأحمد].وكان من هدي النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- أنَّه قال: ﴿لا يُبَلِّغُنِي أحدٌ من أصحابي عن أحدٍ شيئًا، فإنِّي أحبُّ أن أخرج إليكم وأنا سَلِيم الصَّدر﴾ [رواه أبو داود والتِّرمِذي].
هل تعلم ما قالوا عنك البارحة في غيابك؟ أنا أحبك فأحببت أن أخبرك، يتظاهر لك النمَّام بأنَّه يريد خيرك، كما قالوا في الأمثال: “ما غاظك إلّا من بلَّغك”.
وفي هذا يُروى أن رجلَا دخل على عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى، فذكر له عن رجلٍ شيئًا، فقال له عمر: “إن شئت نظرنا في أمرك، فإن كنت كاذباً، فأنت من أهل هذه الآية : ﴿إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا﴾ وإن كنت صادقًاً، فأنت من أهل هذه الآية : ﴿هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ﴾ وإن شئت عفونا عنك؟ فقال: العفو، يا أمير المؤمنين، لا أعود إليه أبداً”.
عدل عمر، يحتاج قلبا سليما، يحتاجُ قلبًا لا ينظر إلى الناس بعين العمش، ولا ينزلهم منازلا اخترها من وحي الهوى والعصبية القذرة، من وحي نميمة النمَّامين ونفاق المنافقين، بل بنزل الناس منزل الكرامة الإنسانية التي اختارها الله لهم… وكم من الناس كنت تظُنُّ بهم شرًا لما نُمَّ لك عنهم، فلمَّا عاملتهم وجدتهم خيرًا مما قيل عنهم، وخيرًا ممن قالوا.
أيها الإخوة الكرام عندما نتحدث عن سلامة الصدر فنحن نتحدَّث عن أمر يسعدُك أنت أولا، ويحسِّن علاقاتك مع الناس والمحيط من حولِك ثانيًا، يجعلك تنظر إلى الناس نظرةً إيجابية، وإن الأعمال لتعظم بقلب سليم الصدر وتصغر بقلب المُعرِض اللئيم… ومن سلم صدره انشرحت نفسيته في التعاطي مع الناس جميعا، وتغافل عن عيوبهم، وعينُ المحبِّ عن كلِّ عيبٍ كليلةٌ *** وعين العدا هي التي تُبدي المساويا
وهنا قد يسألني السائل: “أتريدني أن أكون مغفَّلا أبلهًا يتلاعب بي الناس؟!
فأجيب بما قاله الإمام ابن القيِّم –رحمه الله- في هذا، حين سئل نفس السؤال فقال: “الفرق بين سَلَامة القلب والـبَلَه والتَّغَفُّل: أنَّ سَلَامة القلب تكون من عدم إرادة الشرِّ بعد معرفته… [أعرف الشر ولست بأبله ولا غبي، بل لأني فهيمٌ ذكي أتغافل لكي تبقى علاقاتي إيجابية مع الناس ولكي لا أقطع ما بيني وبينهم، فأبقى سليم الصدر مرتاح البال…] وهذا بخلاف الـبَلَه والغَفْلة، فإنَّها جهل وقلَّة معرفة، وهي نقص لا يُحمد…”.
وهنا نعرف معنى كلام عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه: “لست بِالخِبٍّ وليس الخِبُّ يخدعني”… فلا تعني سلامة الصدر أن تكون مغفلًا يتلاعب بك أهل الشر والفساد ويجعلون منك أضحوكة الناس. لا تعني سلامة الصدر أن تكون بعيداً عن واقع الناس وعما يخوضون فيه وعمّا يخططون له… جهلًا منك، فالفرق كبيرٌ بين الجهل والترفُّع.
ترفَّع تسمو وتسعد وتُحمَد… جعلني الله وإياكم مِمَن يَنزع ما في صدورهم مِن غلٍ إخوانًا على سُررٍ متقابلين، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه فيا فوز المستغفرين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وكفى وصلاةً وسلامًا على عبده الذي اصطفى، عباد الله، خير الوصايا وصيّة رب البرايا: ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ﴾ [النساء:131] فاتقوا الله عباد الله، فبتقوى الله العِصمةُ من الفِتن، والسلامة مِن المِحَن. واعلموا أيها الأحبة بأننا ونحن نتحدث عن سلامة الصدر، ولكي يكون كلامنا عمليا تطبيقيا قابلا للتنفيذ، لا بدَّ من ذِكر جُملَةٍ من الأمور التي تعيننا على تحقيق سلامة الصدر:
- وأولها: المداومة ذكر الله تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ [الرعد:28]. فالمداومة ذكر الله تعالى والإخلاص له مع يقينٍ بأن ليس شيءٌ عند الله يضيع من أعظم ما يُعين على سلامة الصدر، ففي الحديث الذي أخرجه التِّرمِذي وقال “حسنٌ صحيح” يقول رسول الله –صلّى الله عليه وسلّم-: “وَلاَ ظُلِمَ عَبْدٌ مَظْلَمَةً صَبَرَ عَلَيْهَا إِلاَّ زَادَهُ اللهُ عِزّاً”. والله تعالى قال في مُحكمِ تنزيله ﴿فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ…﴾ [الشُّورَى: 40]. شأن المؤمنين الذِّلةُ على المؤمنين أم البأس والعِزَّة والشوكة والشكيمة فتكون على الكافرين، في علاقاتك مع المؤمنين الأصل ﴿فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ…﴾ [الشُّورَى: 40].، إذا كنت موقنا حقا بأنَّ الله علام الغيوب يعلم السرَّ وأخفى، فليقع أجرك على الله، ويا عظيم حظِّ من وقعَ أجره على الله تعالى…
- ثانياً: الدعاء دائمًا بصلاح القلوب وتصفية الصدور لنكون على نهج من امتدحهم الله تعالى قائلا: ﴿ وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾ [الحشر: 10].
- أما الثالثة، التي تعين على سلامة الصدر، فرضا العبد بما قسمه الله تعالى له.
جلُّ ما في صدور الناس من ضغائن وأحقاد، مردُّها عدم رضا الإنسان بما قسم الله له، وفي هذا يقول الإمام ابن القيِّم –رحِمه الله-: “إنَّ الرِّضا يفتح للعبد باب السَّلَامة، فيجعل قلبه سليمًا نقيًّا من الغشِّ والدَّغل والغلِّ،…. فتستحيل سَلَامة القلب مع السَّخط وعدم الرِّضا، وكلَّما كان العبد أشدَّ رضا [وتسليما لله]، كان قلبه [أطهر و] أسلم” [مدارج السالكين]
- أمّا الرابعة أخا الإسلام فلكي تعيش حياة الراضين لابد أن تهم حقيقة الكون، حقيقة الدنيا والآخرة والموت والحياة، ولا أعون على ذلك مِن تلاوة كتابِ الله، ومحاولة فهمه وتدبُّر ما جاء فيه، فالله تعالى وصف كتابه قائلا: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾. [يونس:57]. إن أردت شفاء صدرِك فعليك بكتاب ربِّك.
- وممّا يعين على سلامةِ الصدر وراحةِ البال أيّها السادة: الابتعاد عن سوء الظن، وما يستتبعه من تجسس وتتبع لعورات الناس، ورسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- يقول: “إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ، ولا تحسَّسوا ولا تجسَّسوا”. فمن تتبَّع وتحسَّس وتجسَّس رأى ما يسوؤه ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ …)) [المائدة:101]. لا في بيتك ولا في عملك ولا مع أصدقائك… وقد مرَّ بنا سابقا كيف نهى النبي – صلّى الله عليه وسلّم- من أن يطرق الرجل أهله ليلا يتتبع عوراتهم؛ يدخل متلصِّصًا فيرى ما يسوءه، ولو أعلمهم بقدومه لتجهَّزوا له، لجمَّلت نفسها ورتَّبت بيتها وأولاده، فلمّا كان منه التلصُّص، رأى ما يسوءه وانزعج هو قبل الآخرين.
- أما السادسة أخا الإسلام، فكما يجب أن يكون صدرك سليما، فقد علّمك النبي -صلّى الله عليه وسلّم- ما تعين به إخوانك على سلامة الصدر تجاهك، ففي موطأ الإمام مالك يرفعه إلى النبي –صلّى الله عليه وسلَّم- قال: “تصافحوا يذهبِ الغِلُّ، وتَهادَوْا تَحَابُّوا، وتذهب الشحْنَاء”. إن كان بينك وبين أخيك شحناء وبغضاء فقدم له هديَّة بالمستطاع، ولو وردة، وفي صحيح الإمام مُسلِم، يقول –روحي فداه-: “وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لا تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا ، وَلا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا ، أَوَلا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ ؟ أَفْشُوا السَّلامَ بَيْنَكُمْ”.
توجيهاتٌ ربانيَّة وهداياتٌ نبوية لتعيش سعيدا مسعَدًا مُسعِدًا، سليم الصدر مرتاح البال، تضعُ رأسك على وسادتك فتنام نومًا عميقا، ليس في قلبك على الناس شيء… وأنت بالخيار، فإما أن تكون من أهل جنَّة الدنيا، أو أن تكون من الجَهلة الذين يؤذون أنفسهم، ويتلفون أبدانهم، ويحرقون أعصابهم، ثم تكون الخسارة من أنفسهم، ويشمت بهم عذَّالهم وأعداؤهم…
اللهم اجعلنا ممن يعيش في الدنيا ويأتيك في الآخرة بقلبٍ سليم، واغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غِلاً للذين آمنوا ربَّنا إنَّك رؤوف رحيم…