#خطبة_الجمعة
#الشيخ_محمد_أبو_النصر
أمانة الأيمان والعهود
🕌 أحد مساجد ريف حلب المحرر.
⏱ المدة: 31 دقيقة.
التاريخ: 3/جمادى الآخرة/1440هـ
الموافق: 8/شباط/2019م
🔴الأفكار الرئيسة في الخطبة الأولى:
1️⃣ معنى اليمين وعظيم مقامه عند الله.
2️⃣ اليمين الغموس.
3️⃣ الفرق بين الحلِف عن الماضي، والحلف على المستقبل.
4️⃣ أي يمينٍ يُكفَّر، وكفارة اليمين.
5️⃣ الموفون بعهدهم.
🔴الأفكار الرئيسة في الخطبة الثانية:
6️⃣ أعطى بي ثمّ غدر!!
7️⃣ أمان المسلمين واحد.
8️⃣ من محاسن الإسلام لإضعاف أعدائه
9️⃣ الصحابة وحفظ العهد مع الكفّار الحربيين.
🔟 أفيخون قومٌ أمانهم مع المسلمين!!
لتحميل الخطبة كتابيا بصيغة PDF
لتحميل الخطبة (أمانة الأيمان) صوتيا بصيغة MP3
لتحميل الخطبة (أمانة العهود) صوتيا بصيغة MP3
* ملاحظة: ما بين معكوفتين [ ] فهو شرح مُدرج في سياق ذِكرِ الدليل.
الخطبة الأولى
إنَّ الحمدَ لله، نحمدُه ونستعينُه ونستهديه ونستغفِرُه، ونعوذُ باللهِ مِن شرورِ أنفُسِنا وسيئاتِ أعمَالنا، مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا، وأشهد أنْ لا إله إلا اللهُ وحده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ نبيَّنا مُحمَّدًا عبدُه ورسولُه، وصفيُّه وخليلُه، أرسله ربُّه بالهدى ودينِ الحَقِّ ليُظهره على الدين كُلِّه ولو كَرِه المُشرِكون، فصلواتُ ربِّي وسلامُه عليه وعلى آل بيته الطيِّبِين الطاهِرين، وأصحابِه الغُرِّ المُحجَّلين، ومن سار على دربِهم واهتدى بِهُداهم إلى يوم الدين، إخوة الإيمان، يقول الله تعالى وهو أحكم القائلين:
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)) [الأحزاب: 70-71].
أما بعد أيها السادة: لقائنا بكم يتجدد وما زال الحديث في سلسلة الأمانة، وما زال حديثنا عن الأمانة، لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا إسلام لمن لا عهد له، وحديثنا اليوم عن باب جديد من أنواع الأمانة، حديثنا اليوم عن أمانة الأيمان والعهود، حديثنا اليوم عن أمانة الحِلف والقسَم بالله سبحانه وتعالى، تلك الأمانة التي استهان بها البعض، وعظَّمها الله سبحانه، وأعلا شأنها الله سبحانه، فقال تعالى مُنبِّها آمِرًا وزاجِرًا: ((وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)) [النحل:94]. أي لا تجعلوا الحلِف بالله، لا تجعلوا الأيمان، لا تجعلوا القسَم بابًا لكي تغُشّوا بعضكم بعضًا، بابًا لكي يخونَ بعضُكم بعضًا.
حديثنا اليوم أيها السادة عن هذه الأمانة، أمانة خطيرةٌ عظيمة تعبِّر عن إيمان المؤمن بحفظِها، وتفضَح نفاقَ المنافِق بخيانَتِها، فبالقَسَمِ واليمين أنتَ تُقِرُّ بالله تعالى شاهدًا وتجعلُه خصمًا ووكيلًا… عندما يقول لك خصمك أتحلِف بالله؟ فتوافق وتحلِف بالله تعالى، فهذا بلسانِ حالك يعني بأني أقيم الله تعالى شاهدًا على صدِق ما أقول، وأجعلُ من الله تعالى خصما ونِداً لي إن كُنت كاذبا!!
نعم أيها السادة هذا هو معنى اليمين، ولهذا كان الحلف بالله كذبا وزورا من أعظم الآثامِ والجرائم، فمن استهان بالله تعالى ومن استهان بعظيم اسمه سبحانه وتعالى هو وحده من يتجرأ على الحلف كاذبا بالله.
عندما نتحدث أيها الأحبَّة عن أمانةِ الأيمان، عن أمانة القسَم لا بد أن نُفرِّق بين نوعين من القسَم، لابُدَّ أن نفرِّق بين الحديث الأيمان المعقودة التي يعقدُها قائلها بلفظٍ صحيح يوحي بالقسَمِ بالله، ودلالة الحال، وقرينة الحال، تدلُّ على أنه جاد فيها، أما ما كان لغوًا، أما ما كان سَبقَ لسان مما يجري على ألسنة العوام عادة (والله ما شفت كذا، والله مالي خبر….) فهذا من اللغو الذي عفا الله تعالى عنه، في قوله سبحانه وتعالى: ((لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ)) [البقرة:225]. عندما نختلف فأقول لك أتقسم بالله فتقسم فهذا ليس بلغوٍ أبدا، أمّا ما يكون من الكلام العابر وما يكون من سبق اللسان فهو اللغو الذي عفا الله تعالى عنه.
عندما نتحدث عن أمانة اليمين، فلا بدَّ أن تعلم بأنَّ كثرة الحلِف وكثرة الأيمان مكروهة، ودلالةً على قلَّة الأمانة وقلَّة الإيمان، وهذا لا يكون إلا من الفجَرَة والفسَقةِ ممَّن رقَّ دينُهُ وضعُفَ إيمانه، ولكَم ترك الصحابة الكرامُ – رضوان الله عليهم- حقوقًا لهم لألّى يحلِفوا بالله، تعظيمًا وتشريفًا، ولهذا خاطبَ الله نبيَّه -صلَّى الله عليه وسلّم- قائلا: ((وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ – [ الحلاف الذي يُكثِر الحلف]- * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ* أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ * إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ)) [القلم: 10-15]. هذه الآية وإن كان ظاهرها بأنها خاصَّةٌ برجلٍ خصَّه الله تعالى بهذا كان في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم، فإن معناها عامٌّ شاملٌ لكلِّ زمانٍ ومكان، وصيَّةٌ للمؤمنين بألَّا تطيعوا كل حلّاف مَهين، يكثِرُ الحلف والقسَم بالله سبحانه وتعالى، وكثرة الحلِف هذه لا تكون إلَّا ممَّن رقَّ دينه، ممَّن ظن وتوهّم بأنَّ الإيمان بالله إيمان بأساطير الأولين التي سمعها من أبيه وجده…
هذا الذي يتجرأ على القسم بالله ويكثِر الحلف بالله، أما لو كان يعلَمُ يقينا بأنّ الله تعالى شاهد بصير سميع عليم قادر مقتدر لما تجرَّأ على الكذِب على الله سبحانه وتعالى، ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)) [الأنفال:27].
عندما نتحدَّث عن اليمين أيّها الأحبَّة، عندما نتحدث عن القسمِ بالله، فنحن نتحدث عن قَسَمٍ لابدَّ أن تعلم أخا الإسلام بأنَّه لا يكون إلا بالله وحده سبحانه وتعالى، فلا يجوز أن تُقسِمَ إلا بالله، لا يجوز أن تُقسِمَ بالكعبة ولا بالقرآن، فالله تعالى وحدَه هو الذي يعلم السِرَّ وأخفى، وحده الذي يقدر على مجازاة المعتدي في يمينه؛ فلا تحلف بالكعبة، ولا تحلف بالقرآن، ولا تحلف بالمسجد، ولا تحلِف بالنبيّ، ولا تحلف برأس أبيك، ولا برأس ولدك، ولا بالحرام، ولا بالطلاق، ولا بذِمَّتِك، ولا بشرفِك…
ففي الصحيح عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما – قَالَ: سَمِعَ النَّبِيُّ -صَلَّى الله عَليْهِ وسَلَّمَ- رَجُلاً يَحْلِفُ بِأَبِيهِ، فَقَالَ: “لاَ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ، مَنْ حَلَفَ بِاللَّهِ فَلْيَصْدُقْ، وَمَنْ حُلِفَ لَهُ بِاللَّهِ فَلْيَرْضَ، وَمَنْ لَمْ يَرْضَ بِاللَّهِ، فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ”. [صحيح رواه ابن ماجه]. إذا حلفت يمينا بالله فليس لخصمِك ألّا يرضى؛ بعض الناس يحلف له خصمه بالله، فيقول: “أقسم بالله على كذا” فيقول له: “احلف بالطلاق، احلف براس ولدك”! ورسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- يقول: “وَمَنْ لَمْ يَرْضَ بِاللَّهِ، فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ”!! فهذا ليس من الإسلام، فليراجع دينه وليراجِع إسلامه، ذلك الذي لا يرضى ولا يقبل من خصمه أن يحلف بالله.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما: أنَّهُ سَمِعَ رَجُلاً يقُولُ: لاَ وَالكَعْبَةِ، فَقَالَ ابنُ عُمَرَ: لاَ تَحْلِفْ بَغَيْرِ اللهِ، فَإنِّي سَمِعْتُ رسولَ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – ، يقولُ: “مَنْ حَلَفَ بِغَيرِ اللهِ، فقد كَفَرَ أَوْ أشْرَكَ”. [رواه الترمذي، وقال: حديث حسن]. هذا الرجل كان يحلف بالكعبة فنهاه ابن عمر عن ذلك فكيف بمن يحلف بولده وبشرفه؟!!
عندما نتحدث عن أمانة الأيمان -أيّها الأحبّة- عندما نتحدث عن القسَم، فلا بدَّ أن نفرِّق بين نوعين من القسَم: نوع يكون بالإخبار عن الماضي كالشهادة، ونوع يكون عزيمةً ونيَّةً للمستقبل.
فأما الإخبار فتلك التي يكون الكذِب فيها لا كفَّارة له، وأغلظها ما يكون بالشهادة في حقوق الناس، وتسمّى “يمينًا غموسًا”، تغمِس من كذب فيها في الإثم غمسًا، حتى يُغمسَ بها في نار جهنَّم والعياذُ بالله… فذاك الذي استخف بالله وبشهادة الله وبعقاب الله وبِقُدرة الله، فحلف بالله كاذبا متعمِّدًا… ولأجل ماذا؟ غالبا لأجل لعاعةٍ من الدنيا مثلًا، أو تهربا من استحقاقٍ وتحمُّلٍ لمسؤولية.
وفي هذا روى البخاري ومسلم عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ مَسْعودٍ رضي الله عنه، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى مَالِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِغَيْرِ حَقِّهِ، لَقِيَ اللهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ»، قَالَ عَبْدُ اللهِ: ثُمَّ قَرَأَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ -صلّى الله عليه وسلّم- مِصْدَاقَهُ مِنْ كِتَابِ اللهِ: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [آل عمران: 77]. هؤلاء الذين استهانوا بأيمانهم واستهانوا بالله تعالى لما حلَفوا بالله كذبًا وزورًا.
وروى مسلم عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ، فَقَدْ أَوْجَبَ اللهُ لَهُ النَّارَ، وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ» فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: وَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «وَإِنْ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ».
لذلك أيها السادة فلنعلم بأن هذا اليمين على ما كان غيبًا عندما تصدر مُتَعَمَّدةً كذِبا وزورًا إنَّما هي اليمين الغموس، ولماذا لا كفارة فيها؟! لأن إثمها أعظمُ من أن يُكفَّر.
ولكم نرى أيها السادة ممكن يتساهل في يمينه، في بيعه وشرائه، يظن أنَّه أمر هيِّن سهل وهو عند الله عظيم، وفي الحديث أنَّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: “ثلاثة لا يُكلِّمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم، فقلت: من هم يا رسول الله خابوا وخسروا؟ قال: المسبل إزاره، والمنَّان عطاءَه، والمُنفِقُ سلعته بالحلِف الكاذب” [رواه النسائي وابن ماجه]. فتأملوا يا رعاكم الله في هذا التهديد الشديد.
يُقسِم الأيمان على بضاعته، يغشُّ فيها، يكذب فيها، يظُنُّ بأنَّها منفقَةٌ للسلعة وهي ممحقَةٌ للبركة، هذا لا ينظر الله إليه ولا يزكيه -أيها السادة- وله عذابٌ أليم، هذا عظيم ذنب من يحلف بالله كذِبا وزورا على الماضي.
أما اليمين على المستقبل فتلك شأنٌ آخر، فهي يمينٌ على شيء سأفعله أو لا أفعله، تلك اليمين على المستقبل خفَّف الله عنّا فيها، تلك التي يقول فيها ربُّنا سبحانه وتعالى: “قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ” [التحريم:2]، ويقول فيها أسوتنا وقدوتنا ومعلِّمنا عليه أفضل الصلاة والسلام لعبد الرحمن بن سَمُرَة رضي الله عنه: “إذا حلَفتَ على يمينٍ فرأيتَ غيرها خيراً منها فكفِّر عن يمينك؛ وأت الذي هو خير” [رواه البخاري].
حلف عن يمين، والله لا أذهب للمكان الفلاني، فندم على ذلك ورأى أن في الذهاب خيرا، هنا يحلِف على المستقبل، لا يحلف على الماضي كذِبا وزورا، لا يقول والله لم أذهب إلى المكان الفلاني، وهو قد ذهب إليه، حلَف على المستقبل، والله لن أذهب إلى بيت أخي، فندِم على ذلك، وعلِم بأنَّ في ذلك قطيعة رحم لا تجوز، فقد فرض الله لنا تحلَّة أيماننا رحمةً منه سبحانه وتعالى، وقال لنا رسوله الكريم: “كفِّر عن يمينك؛ وأتِ الذي هو خير” إن حلفت عن يمين واعِدًا بخير فأوف بوعدك، فالوعد على الخير في ذمَّةِ المؤمنين واجب مدحهم الله به، ((وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا …)) [البقرة:177]، حلَفت على خير قلت لولدك إن فعلت كذا لأعطينك كذا وكان ذلك خيرا، لا تتراجع وتقول أكفر عن يميني، لتكون من الموفين بعهدهم إذا عاهدوا… أما إن حلفت عن يمين فوجدت غيرها خير منها وجدت فيها ظُلمًا، وجدت فيها قطيعة رحم، أو تفويتَ منفعة لك أو لأهلك أو للمسلمين، فلا تتعنت بالباطل بحُجَّة أنَّك حلفت يمينا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “كفِّر عن يمينك؛ وأت الذي هو خير”.
وكفارة اليمين –أيها السادة- تكون على الترتيب التالي: إطعام عشرة مساكين [مما تأكل من أوسط ما تطعم به نفسك وعيالك] أو كسوتهم، أو تحرير رقبة. والمكفِّرُ مخيَّرٌ بين هذه الأمور الثلاثة، وهذا ما يطلب منه أولاً، فإذا لم يستطع أيَّ واحدٍ منها (كان فقيرا فعجز عن تلك الثلاثة) صامَ ثلاثة أيام متتابعة، يقول تعالى: ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [المائدة: 89]
وما جعل الله عليك في الدين من حرج، إن أقسمت على المستقبل -أخا الإسلام- فلا تتعنت إن وجدت غيرها خيرا منها، أمّا إن كانت خيرًا فأوف بعهدك، جعلنا الله وإياكم ممن قال الله فيهم مادحا:
((وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ)) [البقرة:177]. اللهم اجعلنا من الصادقين المتقين الصابرين، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه فيا فوز المستغفرين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وكفى، وصلاةً وسلامًا على عبده الذي اصطفى، عباد الله، خيرُ الوصايا وصيّةُ ربِّ البرايا
وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ)) [النساء:131]، فاتَّقوا الله عباد الله، فبتقوى الله العِصمة من الفتن، والسلامةُ من المِحَن، واعلموا عباد الله أن الله تعالى عدَّ من يوفون بعهده فيمن يحبهم سبحانه وتعالى، فقال وقوله الحق: ((بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ)) [آل عِمران: 76].
ولأن الحديث اليوم عن الأيمان والعهود كان لا بد من أن نُذكِّر بفكرة مهمة مرَّت معنا عرَضًا سريعًا في الخطبة الماضية عندما ذكرنا حديث النبي -صلّى الله عليه وسلّم- الذي يقول فيه: “ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ كُنْتُ خَصْمَهُ خَصَمْتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ، وَلَمْ يُوفِهِ أَجْرَهُ” [ أخرجه البخاري وابن ماجة واللفظ له ]. رجل أعطى بي ثم غدر؛ أي رجلٌ أعطى بعهد الله ورسوله أمانًا لإنسانٍ ثمَّ غدَرَ به!!
وفي هذا يقول -صلّى الله عليه وسلّم-: “المسلمون إخوة يتكافؤون دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم ويرد عليهم أقصاهم ومُشِدُّهُم على مُضعِفِهم ومتسرِّيهِم على قاعدهم”. [أخرجه الترمذي وقال:” هذا حديث حسن صحيح].
وعن عائشة – رضي الله عنه – قالت: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “ذمة المسلمين واحدة، وإن جارت عليهم جائرة فلا تخفروها فإن لكل غادر لواء يوم القيامة يعرف به”
في شرح هذه الأحاديث أيها الأحبة يقول: ابن بطّال في شرحه على صحيح البخاري: “إنَّ كل من أمَّن أحدا من الحربيين جاز أمانه على جميع المسلمين دنيا كان، أو شريفا، حرا كان، أو عبدا، رجلا، أو امرأة، وليس لهم أن يخفروه”.
عندما نتحدَّث عن أمانة الوفاء بالعهد، لابدَّ أن نعي جيدًا بأنَّ المسلِم (أي مسلم: رجل، إمرأة، حر، عبد، دني، شريف، فقير، غني…) إذا قال لكافرٍ حربيّ: أعطيك أمان الله ورسوله، تعال إلينا وأنت آمِن، لم يجُز لأحدٍ مِن المسلمين أن يخفِر ذِمَّته، وأن يخون عهده وأمانته، بأن يعتدي على ذلك الذي أتانا بأمان مُسلِم، ومن خفَر ذِمَّته، أو ذِمَّة أخيه المُسلِم، فقد خان عهد الله ورسوله، وهذا – أيها السادة- من محاسن الإسلام، حتى يَدخل الناس في دين الله، وحتى لا يستأسِد علينا في حروبنا هو في صف الكفار.
تذكرون أوّل ثورتنا عندما كنا نعطي الأمان لمن يقاتل في صفوف عدونا فيأمَن على نفسه ويجلس بيننا آمنا، كان العشرات، بل المئات منهم ينشقون هاربين، وفي ذلك إضعاف لخمصنا وتقوية لنا.
أما لما غدت الخيانة والعياذ بالله شائعة رائجة بيننا، فيأتي مسلم فيأمِّن جنديا مِن جنود العدو لينشق، فيغدر به مسلم آخر، يخون بذلك عهد الله وعهد رسوله!! بدأ الناس يمتنعون عن ترك جيوش الكفار، وغدوا يستأسدون علينا، وزدنا عدد المحاربين لنا.
هذه الأمانة أيها السادة، أمانة حفظ العهد، من محاسن الإسلام، وهذه أيها السادة من مكارم الإسلام، وهذا فهم النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا أمرهُ وأمر الله تعالى، وهذا فهم الصحابة الكرام وتلك فعالهم شهدت كتب التاريخ بها.
روى عبد الرزاق حادثة جرت في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، عن يزيد الرقاشي قال: شهدت قرية من قرى فارس يقال لها شاهرتا فحاصرناها شهرا، حتى إذا كنا ذات يوم وطمعنا أن نصبحهم انصرفنا عنهم عند المقيل فتخلف عبد منا فاستأمنوه […رجعوا إلى خيامهم وهم يحاصرون المدينة شهر فتأخر عنهم عبد فناداه القوم أن اكتب لنا بأمن، هذا العبد ببساطته رأى أنه من الخير أن يعطيهم الأمان…] فكتب إليهم أمانا ثم رمى به إليهم، فلما رجعنا إليهم خرجوا إلينا في ثيابهم ووضعوا أسلحتهم فقلنا: ما شأنكم؟ فقالوا: أمنتمونا وأخرجوا إليهم السهم فيه كتاب بأمانهم، فقلنا: هذا عبد لا يقدر على شيء، قالوا: “لا ندري عبدكم من حركم فقد خرجنا بأمان”. قال: فكتبنا إلى عمر، فكتَبَ إلينا: “أن العبد المسلم من المسلمين، وأمانه أمانهم”. ورواه ابن أبي شيبة وزاد فأجاز عمر أمانه.
هذا هو الإسلام أيّها الأحبة، وهكذا دخل الناس في دين الله أفواجا. لمّا حفظ المسلمون عهودهم أضعفوا جبهة عدوهم وغدى الناس يتركون أعداءهم لينساقوا إليهم.
إنه الإسلام أيها السادة، إنه الإيمان، لا أمان لم لا أمانة له، ولا إسلام لم لا عهد له، إنه الإسلام أيها الأحبة فيه حفظ العهود والمواثيق مع الكافر الحربي، فما بالكم بأخي الذي اختصمت معه وخالفته وهو في جماعة وأنا في جماعة أخرى وأمَّنته، فهذا من بابٍ أولى، ومن سفه هذه الأيام أن نتحدَّث عن شيء كهذا…الذي نتحدث عنه، هو أمان مع كافر حربي، إن أمَّنه مسلمٌ فأمان المسلمين واحد، وذمة المسلمين واحدة، تتكافأ دماؤهم وكما قال رسول الله: « يسعى بذمتهم أدناهم» هذا أدنانا وإن كان دنِيًّا ضعيفا غير معروف، نحن نحفظ أمانته إكراما وتشريفا لإسلامه، أسأل الله تعالى أن يجعلنا وإياكم من الموفين بعهدهم إذا عاهدوا، ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه إني داع فأمنوا