#خطبة_الجمعة
#الشيخ_محمد_أبو_النصر
وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا
🕌 أحد مساجد ريف حلب المحرر.
⏱ المدة: 28 دقيقة.
التاريخ: 21/ربيع الثاني/1440هـ
الموافق: 28/كانون الأول/2018م
🔴الأفكار الرئيسة في الخطبة الأولى:
1️⃣ وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ.
2️⃣ المطر نِعمة تنقلِب بتقصير المسؤولين نقمة.
3️⃣ الأذكار المتعلِّقة بهطول الأمطار.
4️⃣ آيات الله الكونية المتبدِّلة ترسخ لدينا الثقة بقدرة الله على أن يغيِّر حالنا.
🔴الأفكار الرئيسة في الخطبة الثانية:
5️⃣ الذكرى الثانية لتهجير أهل حلب.
6️⃣ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ.
7️⃣ الأمل بالله باق… ومنبج –إن تمت- خطوة على الطريق.
8️⃣ التهجير امتحان لمن هُجِّروا ولمن هاجر الناس إليهم.
9️⃣ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﻟﻠﻨﺎﺱ ﻣﺎﺩﺍﻡ ﺍﻟوفاء ﺑﻬم.
لتحميل الخطبة كتابيا بصيغة PDF
- ملاحظة: ما بين معكوفتين [ ] فهو شرح مُدرج في سياق ذِكرِ الدليل.
الخطبة الأولى
إنَّ الحمدَ لله، نحمدُه ونستعينُه ونستهديه ونستغفِرُه، ونعوذُ باللهِ مِن شرورِ أنفُسِنا وسيئاتِ أعمَالنا،
مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا، وأشهد أنْ لا إله إلا اللهُ وحده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ نبيَّنا مُحمَّدًا عبدُه ورسولُه، وصفيُّه وخليلُه، أرسله ربُّه بالهدى ودينِ الحَقِّ ليُظهره على الدين كُلِّه ولو كَرِه المُشرِكون، فصلواتُ ربِّي وسلامُه عليه وعلى آل بيته الطيِّبِين الطاهِرين، وأصحابِه الغُرِّ المُحجَّلين، ومن سار على دربِهم واهتدى بِهُداهم إلى يوم الدين، أمّا بعد إخوة الإيمان،
يقول الله تعالى وهو أحكم القائلين:
((وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28) وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (29) وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (31))) [الشورى:27-31].
إخوة الإيمان والعقيدة، خمس آيات من سورة الشورى تأملتها وتدبَّرتُها وتفكَّرتُ فيما فيها من المعاني، فرأيت فيها خِطابا لنا في ساعتنا وفي لحظتنا وفي يومنا الحالي تحديدًا، خمسُ آياتٍ يذكِّرُنا الله تعالى فيها بعظيم قدرته وبعظيم حِكمته وبعظيم رحمتِه، فأمَّا في الأولى فحكمة الله تعالى اقتضت أن يترك العباد بين الخوف والرجاء، لأنّ البشر متى أكثر الله عليهم وأغدق نِعمَهُ متتابعة متتالية من غير انقطاع ولا حبس، كثيرٌ منهم والعياذ بالله يطغى ويبغى وينسى المُنعِم سبحانه، ينشغِل بالنِّعمة عن المنعم، ويبغي في أرض الله، فقضت حكمة الله تعالى أن يقدر عليهم أرزاقهم، فيمسك تارة ويبسط تارة، ((وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ)) [الشورى:27]، خبير بما يصلح حالهم، بصيرٌ بأحوالهم، ودلالة ذلك ومن أكثر المشاهدات التي تدلنا على ذلك ما نراه من انحباسِ المطر أحيانًا وجود الله تعالى بالغيث والمطر أحيانًا أخرى، آيةٌ مِن الله تعالى تذكِّرُكُم أيُّها الخلق مهما بلغتم من القوة، ومهما بلغتم من القدرة فإنَّ هناك أمورًا ستُذكِّرُكُم بأنَّ هناك ربًّا واحدًا أحدًا مُتصرِّفًا في السماوات والأرض، لا يكون في مُلكِه إلَّا ما يشاء، يُنزِّلُ الغيث متى شاء وأنَّى شاء، وبقدر ما يشاء سبحانه وتعالى.
هذا الغيث أيُّها الأحبَّة الذي يُنزِّلُهُ الله تعالى رحمةً بالعباد وسقيا للعباد، رحمة للشجر والحجر والحيوان كما الإنسان، هذا الغيث أيَّها الأحبة يكون نعمة من الله، ولكنَّه أحيانًا ينقلب نقمة بتقصير البشر، وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير، كنت أقول قبل هذه الثورة بسنين طويلة، أقول إن الله تعالى يُنعِمُ على بلادنا بالخير الوفير، ولكنَّ تقصيرنا وجهلنا، وتقصير المتصدرين لشؤون الناس يقلب هذه النعمة إلى نقمة، تقصيرنا من قبلِ هذه الثورة ببناء السدود والسواقي والتصريف الصحيح وتحصين الأبنية المناسب لهذا المطر يقلب هذه النعمة وبالا علينا، وهذا ما رأيناه اليوم:
تخيَّلوا بعد ثماني سنوات من النزوح والتشرُّد ما زلنا إلى الآن نرى خيام النازحين تغرق بالأمطار والوحل!!
أين نحن في السنوات الماضية؟ ألم نتعظ في السنوات الماضية؟! ورسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- يقول: “لا يلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين” [متَّفقٌ عليه].
لماذا لم نستعد للشتاء؟ لماذا لم يستعد المتصدِّرون لشؤون العامة للشتاء؟ أي الذين ينظمون أعمال المنظمات كما ادعوا ويضعون أيديهم على كثير مما عندها ويحاصِصونها؟
هذه أسئلة نسألها لهم، أمَّا نحن العباد المستضعفون الذي ليس لنا من الأمر مِن شيء، فلا بد لنا أن نشكر الله على كل نعمة أولانا إياها، وألا يدفعنا ما نقاسي من سوء تدبيرنا، لأن ندعو الله بانحباس المطر، وفي البخاريّ ومسلم «أنّ رجلا دخل المسجد [أتى النبيَّ -صلّى الله عليه وسلّم-] فقال: يا رسولَ الله، هلكتِ الأموالُ، وانقطعت السُّبُلُ، فادْعُ الله يُمْسِكْها عَنَّا، قال: فرفع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يديه، ثمّ قال: “اللهم حوالَينا ولا علينا، اللهمَّ على الآكامِ والظِّرَابِ، وبُطُون الأودية، ومنابتِ الشجر”، قال [راوي الحديث]: فانقلعت وخرجنا نمشي في الشمس».
لم يدع رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- أن يُمسك الله المطر، لأنّه خيرٌ وبركة ونِعمةٌ من الله تعالى، إنّما علمنا أن ندعوا بأن يوجهه الله لما فيه نفعنا، فقال اللهم على الآكام (التلال) والظِّراب (الجبال الصغيرة) والأودية (بطون الأودية لكي تسير أنهارا) ومنابت الشجر (أي اللهم اجعل الأمطار على الزروع لننتفع بها ولا تضرنا)، ولذلك كان من شأن النبي -صلّى الله عليه وسلّم- أن يُعلِّمنا ذِكرا كلما نزل المطر، كان يقول النبي -صلّى الله عليه وسلّم- : «اللهم صيِّبًا نافِعًا غير ضار» -أي اللهم اجعله مطر خير ومنفعة، لتكون على الزروع والأشجار ولا يضرنا- وكان من شأن الني -صلّى الله عليه وسلّم- إذا انقشع المطر وانقشع الغيم أن يقول: «مُطِرنا بفضل الله ورحمته»، يُذكِّر البشر بأنَّ هذا المطر بيد ربِّ البشر، بيد ربِّ الأرباب، ومسبِّب الأسباب.
كثير من الناس أيها الأحبة تشغلهم الأسباب عن مُسبب الأسباب سبحانه، فترى أحدهم دائم التفكير بالأسباب؛ مُطِرنا سبب كذا، وأتت الرياح من جهة كذا، وكذا وكذا … ولكن مَن سيَّر هذه الرياح؟ من الذي رفع الحرارة؟ من الذي سلَّط الشمس؟ من الذي أمر الغيوم أن تُمطر هنا ولا تُمطر هناك؟
رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- علَّمنا دائما أن نقول بعد انقشاع الغيم والمطر: مطرنا بفضل الله ورحمته، لنتذكَّر دائما مسبِّب الأسباب، إنَّه الله العزيز القهَّار.
ثلاثة أذكار أيها الأحبة نتعلَّمها وقد أنعم الله علينا بالمطر، «اللهم صيِّبا نافِعا» عند نزول الغيث، وبعد انقشاعه نقول: «مُطِرنا بفضل الله ورحمته»، وإذا غَلب المطر وكثُرت الأمطار وخُشي منها الضرر نقول: «اللهم حوالينا ولا علينا اللهم على الآكام والظِّراب وبطون الأودية ومنابت الشجر»، هذا ما يكون من شأن المطر وهذا ما يكون من تذكير الله تعالى لنا: ((وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ)) [الشورى:28].
المؤمن أيّها السادة عندما يتفكر بآيات الله الكونية، وما جعلهُ الله فيها مِن دروسٍ وعِبر، يتذكر صِفات الله العُلا، يتذكَّر أسماء الله العُظمى وصفاته العلا، يتذكر أنَّ الله تعالى: (رحيم رحمن حنَّان منَّان قادِرٌ مُقتدِر بيده مقاليد السموات والأرض…) فالذي أرسَلَ الغيثَ من بعد الجَدبِ، والذي جعل العام عام سُقيا من بعد عام قحط وجفاف، قادر على أن يُغيِّر أحوالَنا، قادِرٌ على أن يقلِبَ عُسرَنَا يُسرا، وأن يغير فشلنا إلى نجاح وفلاح، إن نحن أطعناه سبحانه، وإن قدَّمنا أمره سبحانه، وإن أحسنا التوكل عليه سبحانه…
الذي يقلب الحال من جفاف إلى مطر وغيث قادر على أن يغير عسرنا إلى يسر، ولكننا دائما نظلم أنفسنا، ونظلم إخواننا، وضربت لكم مثلا عن المطر وغير المطر..
هذا المطر أيّها السادة -وقد عم الخير بفضل الله تعالى- لا بدَّ أن يُذكِّرنا بأمرٍ خطير مهم، ألا وهو معاونة إخواننا المحتاجين، ومساعدة المساكين، والوقوف إلى جانب المنكوبين… وفي البخاري ومسلم أنَّ رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- قال: «المسلمُ أخو المسلم، لا يَظلمُهُ، ولا يُسْلِمُهُ، ومَن كانَ في حاجَةِ أخيهِ كان اللهُ في حاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عن مُسلِم كُرْبَة فَرَّجَ اللهُ عنه بِهَا كُرْبَة من كُرَبِ يومِ القيامةِ، وَمَن سَتَرَ مُسلِما سَتَرَهُ اللهُ يوم القيامةِ».
يا مَن رزقك الله تعالى، ويا مَن أنعم عليك، عندما ترى غيرك من المنكوبين تذكَّر بأنّ الأيام دول، وقد يأتي يوم تكون أنت في مكانهم ويكونون في مكانك، فجُد بما أنعم الله عليك.
يا من تأجر بيتك للمساكين الذين لا يجدون سقفا يؤويهم لا أقول لك أعطهم بالمجان، على الأقل خفف عليهم الإيجار، يا من تبتزُّهم وتعتبرهم مشروعًا استثماريا يا من أنعم الله عليك وكان المطر خيرًا على زرعك وضرعك أين أنت من الزكاة لتحصِّن مالك فالزكاة فيها تحصين المال من الغرق والحرق والتلف، أين أنت من الجود والكرم، من ستر مسلما سترَه الله يوم القيامة، ومن فرَّج عن مُسلِم كربة فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، اللهم فرَّج كُرباتنا واستر عوراتنا وآمن روعاتنا وارحمنا برحمتك يا رحيم، أقول هذا القول واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه فيا فوز المستغفرين
الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى، وصلاةً وسلامًا على عبده الذي اصطفى، عباد الله، خيرُ الوصايا وصيّةُ ربِّ البرايا:
))وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ)) [النساء:131]، فاتَّقوا الله عباد الله، فبتقوى الله العِصمة من الفتن، والسلامةُ من المِحَن…
ونحن نتدبر الآيات الخمس من سورة الشورى، ونحن نقرأ قول الله تعالى ((وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ)) [الشورى: 30]. ونحن اليوم في آخر السنة الشمسية (2018م)، ونحن اليوم في آخر شهر كانون الأول، نستذكر مصيبة حلت بنا منذ عامين في مثل هذه الأيام تمامًا، كان الناس قد أُخرِجوا من حلب مضطهدين مُجبَرين على ترك ديارهم، في مثل هذه الأيام قبل عامين، تحت الأمطار والثلوج والبرد الشديد، أصابتنا مصيبة بما كسبت أيدينا والله يعفو عن كثير، نعم أيّها السادة، أصابتنا مصيبة يوم أُخرِجنا من حلب كما أُخرِجنا من غيرها، بما كسبت أيدينا مِن خِلاف ونزاع وشقاق وتفرُّقٍ دبَّ فيما بيننا… من تسليم زمام أمورنا إلى السفهاء الذين لا يعقلون ممَّن تصدروا الآن العمل الجهادي والثوري، أصابنا الله بهذه المصيبة بما كسبت أيدينا، بما كسبت أيدينا قَبل أيدي الآخرين، لأننا نحن لم نُطِع الله تعالى، لم نأمر بالمعروف، ولم ننه عن المنكر، لم نأخذ على يد الظالم ونقول له يا ظالم، لم نأخذ على يد الظالم ولم نأطُره على الحقِّ أطرا، فكان هذا الابتلاء من الله تعالى، هذا الابتلاء الذي ابتلي به قبلنا الأنبياء والمرسلون، ريثما تمّ بناء أناس مؤمنين، ريثما تمَّ تجهيز أناس صالحين، يكون على أيديهم فتحٌ مبينٌ، ونصرٌ قريب بإذن الله.
رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- إمامُ المرسلين، وسيد الأنبياء، خاتم الأنبياء والمرسلين، أُخرِجَ مِن مكَة فوقف في هجرته مودِّعًا قائلًا: “إنك خير أرض الله وأحب الأرض إلى الله ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت” [مسند أحمد]. لم يعد إلى مدينته، ولم يعد إلى بلدته، ولم يعد إلى مكة –روحي فداه-، بعد عامٍ ولا عامين، ولا ثلاث ولا أربع، احتاج رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- ثماني سنوات من الإعداد والبناء والتجهيز حتى كان ومن معه مِن المؤمنين أهلا لأن يدخلوا مكَّة فاتحين، فدخلوا مكَّة فاتحين دخولًا عُظِّمَت فيه حُرمات الله.
نعم أيها السادة نحن الذين ابتُلينا بالتهجير، نسأل الله العظيم أن نكون ممن قال الله تعالى فيهم: ((فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ)) [آل عِمران:195].
نعم أيها السادة نسأل الله تعالى أن يكون كل مُهجَّر حُر أبى أن يعيش في كنَفِ الظلم والظالمين أبى أن يعيش في كنف الكُفر والكافرين أن يكون ممن يشمله الله تعالى بهذا الوصف ((فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ)) [آل عِمران:195]، كان التهجير وكان الابتلاء وكان الامتحان لكي يُقيم الله الحُجَّة على العِباد، فكُلُّ مُهجَّرٍ تَرَكَ أرضَهُ لكي لا يكون تحت سلطان الظالمين هو حُجَّة على كُلِّ مُتقاعِسٍ جبان فضَّل أرضه وبيته والجداران التي تزول وتفنى على أن يَخرج مُهاجرا في سبيل الله فجعل للكافرين عليه سبيلًا بدل أن يخرج مهاجرا في سبيل الله، ولو خَرجَ لوجَد وعدَ الله حق: (وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً)) [النساء:100]. وأما أولئك الكافرون الظالمون المجرمون.. فتكمل الآيات الكريمة مذكرة لنا معاشر المؤمنين: ((لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ)) [آل عِمران: 196-197]. والأيام دُوَل
هي الأمور كما شاهدتها دول *** من سرهُ زَمنٌ ساءته أزمانُ
فالذي يُقلِّب الكون من صيف إلى شتاء، ومن جدبِ إلى رخاء، يقلِّب الأحوال في هذه الدنيا وربّ مكر انقلب شرا على أصحابه، (ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين)، وإنَّ الله لينصر دينه هذا بالبَرِّ والفاجِر، لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا ونرى فتحًا ونصرا إن شاء الله تعالى.
لا ندري لعل الله تعالى يمكننا من تحرير شمال سوريا كاملا ثم نتوجه إلى جنوبها، نعم أيّها السادة، والله الذي لا إله إلا هو قبل خمس سنوات من الآن، يوم كانت المعارك في اتجاه حمص، قبل أن يخرج المحاصرون من حمص، إن كنتم تذكرون تلك الأيام، معركة قادمون، ومعركة الجسد الواحد….
حضرت اجتماعا مع خبراء عسكرين أتوا كي يقدموا لنا النصح، فإذا بأخ من جهة معينة عليه سمة الدين والوقار يضع الخريطة ويقول “أيَّها الناس هذا الذي تفعلونه ليس فعل شخص خبير في العسكرة، كيف تسير في جيب ضيِّق والأعداء عن يمينك وعن شمالك، حرروا شمال بلدكم لكي تكون طرق إمداداتكم مفتوحة، ولكي تؤمِّنوا ظهوركم، ثم سيروا باتجاه الجنوب”.
أملي بالله تعالى أن المتغيرات التي نراه الآن من حولنا تسير بهذا الاتجاه، أملي بالله تعالى أن يُحرَّر شمالها كاملا حتى نؤمِّن ظهورنا ولا نخاف العدو من خلفنا ثُمَّ نسير بإذن الله تعالى إلى جنوبها.
أسأل الله العلي العظيم أن يكون فتح منبج وتحرريها من ضِمن ذلك، وأسأل أن يتمه الله تعالى على خير، وأن يكون تحريرا تُعظَّمُ فيه حرمات الله، وألا يكون كتحرير عفرين وما حصل فيه من تجاوزاتٍ للبعض، أسال الله أن يكون تحرير منبج تحريرا تعظم فيه حرمات الله وتعظم فيه حرمات المسلمين، وأن يمكننا الله تعالى من أن ندخل حلب وغيرَ حلب فاتحين بعد أن نبني هنا مجتمعا متكاملا متكاتفا مؤمِنًا يعطف فيه الغني على الفقير، ويعاون فيه الميسور المعسور، والله أيها السادة إنه امتحان وابتلاء.
كما هو امتحانٌ للمهجَّرِ الذي ترك أرضه وبلده ودياره، هو امتحانٌ لأهلِ الأرض الذين نزل المهجَّرون عندهم، امتحان لهم يظهر فيه الكريمُ طيِّبُ المعدن، ويظهر فيه خسيس الأصل الذي يبتزُ إخوانَه.
والله لكم يسوؤنا عندما يشتكي الناس من ارتفاع الإيجارات، والزمن زمن حرب، والأعمال قليلة، وترى البعض من الجشعين الطمَّاعين يرفعون الإيجارات على إخوانهم، شهرا وراء شهر، وفي مقابل أولئك أيضا نرى الكرماء الطيبين أصيلي المعدن، وهم كثر بيننا، يأبى بعضهم أن يأخذ إيجارًا بل يُسكِّن النازِح دون مقابل فيما ملَّكَه الله تعالى إياه، هؤلاء موجودون بفضل الله وأولئك موجودون أيضًأ نسأل الله أن يهديهم، فاختر لنفسِك أيها الإنسان، أتكون مِن أولئك أم مِن أولئك:
ﺍﻟﻨﺎﺱ ﻟﻠﻨﺎﺱ ﻣﺎﺩﺍﻡ ﺍﻟوفاء ﺑﻬم *** ﻭﺍﻟﻌﺴﺮ ﻭﺍﻟﻴﺴﺮ ﺃﻭﻗﺎﺕ ﻭﺳﺎﻋﺎﺕ
وأكرم ﺍﻟﻨﺎﺱ ﻣﺎ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﻮﺭﻯ ﺭﺟﻞ *** ﺗﻘﻀﻰ ﻋﻠﻰ يدﻩ ﻟﻠﻨﺎﺱ ﺣﺎﺟﺎﺕ
ﻻ ﺗقطعن يد ﺍﻟﻤﻌﺮﻭﻑ ﻋﻦ ﺃحد *** ما دمت تقدر ﻭﺍﻷﻳﺎﻡ ﺗاﺭﺍﺕ
ﻭﺍﺫﻛﺮ ﻓﻀﻴﻠﺔ ﺻﻨﻊ ﺍﻟﻠﻪ ﺇﺫ جعلت *** إليك ﻻ لك عند ﺍﻟﻨﺎﺱ ﺣﺎﺟﺎﺕ
قد ﻣﺎﺕ ﻗﻮﻡ ﻭﻣﺎ ماتت فضائلهم *** ﻭﻋﺎﺵ ﻗﻮﻡ ﻭﻫﻢ ﻓﻲ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﺃﻣﻮﺍﺕ
قد مات قومٌ، والناس تذكُر جودَهم وكرمَهم وبذلَهم ومعونتَهم لإخوانهم… وعاش قومٌ وهم في الناسِ أموات، فالشحيحون الجشِعون الذين يبتزُّون إخوانهم المهاجرين المجاهدين في سبيل الله أولئك يعيشون ظاهرًا وهُم في الناسِ أمواتٌ لا يُذكَرون بخير، اللهم اجعلنا مِن أهل الخير، اجعلنا من الراضين المرضِيين، يسِّر اللهم أمورنا، واستر اللهم عيوبنا، وفرِّج بعظيم قُدرتِك كُرُبَنا وهُمومَنا … إني داع فأمنوا