بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه وبعد :
أيها الأخوة في الله :
كثيرا ما سمعنا في الأحاديث النبوية عن شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته ، واهتمامه لحالها في الدنيا ويوم القيامة ، في حياته صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته ، وكم سمعنا عن رأفته ورحمته بالأمة حتى وصفه الرحمن الرحيم بقوله :(بالمؤمنين رؤوف رحيم)، وكان دعاؤه المستجاب كله في أمته، وكان يبشر المؤمنين قائلا :(أنا فرطكم على الحوض) صحيح مسلم،
ويقول : (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي) صحيح سنن أبي داود
وكم كان ربنا يسليه عن حزنه وأسفه لحال ضعاف الإيمان فيقول له : (وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) (الحجر 88).
ولكن هل خطر ببالك يوما أنه صلى الله عليه وسلم يرفع شكايةً يشكونا فيها إلى الله ، ولماذا يشكونا وهو صلى الله عليه وسلم الشفيع الكريم والرؤوف الرحيم ؟؟
لابد أن هناك أمرا عظيما لا يحتمل المسامحة مع كل تلك السعة ، نعم لأن هذا الأمر فيه إضاعة لرسالة الله ، وإضاعة لجهد رسوله صلى الله عليه وسلم ، وما هذا إلا نتيجة عدم الاكتراث والإهمال ، والإعراض الشديد عن المطلوب والمقصود.
جاءت هذه الشكوى مرقومة في كتاب الله عز وجل ، صريحة جلية لا تحتمل تأويلاً قال تعالى: { وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً } (الفرقان 30)
فهو بهذه الشكوى لم يقصد المشركين ولا الملحدين ولا أهل الكتاب . إنه قصد قومه الذين سمعوا وآمنوا وفهموا ثم هجَروا وضيَّعوا .
وعلى هذا فإن هذا الخطاب موجه إلى الخصوص قبل العموم ، وإلى الملتزمين قبل الشاردين، إلى الدعاة قبل عوام المسلمين، إلى الحمَلَة والحُفاظ قبل المتعتعين.
لقد عاب الله على قوم يتلون رسوم الكتاب ثم يهجرون مراده فقال : (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ)(البقرة 44)
ثم وبَّخهم ووصفهم بما لا يليق بقارئ يعي ما يقرأ فقال سبحانه : (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (5 الجمعة)
سبحان الله كم كان الكتاب قريبا منهم بل ملتصق بهم يحملونه ، لكنه بعيد عنهم بـُـــعد المشرِقَين وهم أحوج شيء له ثم يهجرونه:
كالعيسِ في البيداء يقتلها الظما والماءُ فـوق ظهورها محمولُ
وقد روي في الحديث : (يأتي على الناس زمان القرآن في واد وهم في واد غيره) الحكيم الترمذي
فكيف يكون الفرار والنجاة من شكوى الرسول ومن هجر القرآن ؟
يكون ذلك بأن نعرف أنواع الهجر للقرآن فنقوم باجتنابها ، ثم نتفاعل التفاعل الحقيقي والجدِّي مع آيات الكتاب الكريم .
هجر القرآن أنواع: كما بين ذلك الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه “الفوائد”:
الأول: هجر سماعه والإصغاء إليه.
والثاني: هجر تدبّره وتفهّمه ومعرفة ما أراد المتكلم به سبحانه منه.
والثالث: هجر تحكيمه والتحاكم إليه في أصول الدين وفروعه واعتقاد أنه لا يفيد اليقين,, وأن أدلته لفظية لا تحصّل العلم.
والرابع: هجر العمل به والوقوف عند حلاله وحرامه, وإن قرأه وآمن به.
والخامس: هجر الاستشفاء والتداوي به في جميع أمراض القلوب وأدوائها, فيطلب شفاء دائه من غيره, ويهجر التداوي به .
وكذلك الحرج الذي في الصدر منه. وإن الذين يجدون حرجا من القرآن يعلمون ذلك من نفوسهم ويجدونه في صدورهم. ولا تجد مبتدعا في دينه قط إلا وفي قلبه حرج من الآيات التي تخالف بدعته. كما أنك لا تجد ظالما فاجرا إلا وفي صدره حرج من الآيات التي تحول بينه وبين إرادته.
تدبّر هذا المعنى ثم ارض لنفسك بما تشاء.
التفاعل الحقيقي والجِّدي مع القرآن :
(الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) (البقرة 121)
إننا إذا فسرنا التلاوة بأنها مجرد اللفظ وتحريك اللسان نكون قد ضيقنا واسعا وغيَّبنا المراد من قول الله (حق تلاوته) ، وبما أن الإيمان حُصر (بحق التلاوة) كما بينت الآية
فلا بد أنها -أي التلاوة- شيء آخر غير ما طـُـبع في أذهاننا بأنها محض القراءة .
معنى أن تكون تاليا للقرآن هو أن تجعل القرآن أمامك وتكون تاليا له ،فهو الأول وأنت التالي أي هو الإمام وأنت التابع له . فهل تلوناه كذلك حق تلاوته .
ولننظر نظرة إلى الرعيل الأول ذلك الجيل القرآني الفريد كيف تخلل القرآن أرواحهم وأنفاسهم وعقولهم
فكانت أذواقهم قرآن،وخواطرهم قرآن، طموحاتهم قرآن، وبشرياتهم قرآن، يحيون يتفيؤون ظلال القرآن ، ويموتون كما أراد القرآن (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (آل عمران 102)
فكانوا بحق المادة الحية والوسط المناسب لتطبيق القرآن و(الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ)
وهناك نوع آخر لهجر القرآن بأن يُطبق بعضه ويُترك بعضه فتجد البعض مثلا عنده تضخم في جانب من جوانب آيات العبادة كمجاهدة النفس والنوافل والأذكار ثم تجده هزيلا في جانب آخر مثل جانب آيات الولاء والبراء والدعوة إلى الحق وكأنها قد نُسخت أو نُسيت. فتراه يذكر كل الآيات التي وردت في ذكر الله وفضله وينسى مثلا قوله تعالى 🙁 لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (22 المجادلة)
ولا نريد الإطالة ففي هذا كفاية لمن أراد هداية وسيأتي تفصيل قضية (التفاعل مع القرآن) في نشرات قادمة بحول الله وقوته.
وإلى ذلك الوقت وفي كل وقت نسأل الله أن نرى شبابنا عامة والمجاهدين المتفرغين للجهاد خاصة وقد ملئوا جُلَّ أوقات فراغهم مقبلين على كتاب الله قراءةً وتدبراً وحفظاً فهو الموصوف بقوله تعالى: (قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ(*) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)(المائدة 15-16)
وهو الفرقان بين الحق والباطل (وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (*) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (41-42فصلت)
فيا إخوتنا
الله الله في كتابه
الله الله في شريعته
الله الله في سبيل الفلاح والسعادة في الدنيا
الله الله في مفتاح النجاة في الآخرة
الله الله في دستور المسلمين
الله الله في كتاب رب العالمين
التفاعل الحقيقي والجدّيّ مع القرآن الكريم… يتلونه حق تلاوته
قال تعالى: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) [البقرة: ١٢١]
☝️ إذا فسَّرنا التلاوة في هذه الآية بأنّها مُجرَّد اللّفظ وتحريك اللِّسان نكون قد ضيَّقنا واسعًا وغيَّبنا المُراد من قوله تعالى: (حَقَّ تِلَاوَتِهِ)، وبما أنَّ الآية الكريمة قرَنت بين الإيمان وبين حقِّ التلاوة فلابُدّ أنّ حَقَّ التلاوة شيءٌ آخر غيرُ ما طـُـبع في أذهاننا من مُجرّدِ القراءة وتحسينها.
وبما أنّ الإيمان (قولٌ، واعتقادٌ، وعمل) فلابدّ أن يكون حقُّ تلاوةِ القرآن إذن يشملُ (القول، والاعتقاد، والعمل)…
فيكون حقُّ التلاوة قولًا: تحسين تلاوة القرآن الكريم وتجويده، وتعاهُدِ ذلِك وعدم الانقطاع عنها.
ويكون حقُّ التلاوة اعتقادًا: باعتقاد أنّ هذا القرآن كلامُ الله، وأنّ ما جاء به القرآن الكريم كلُّه صِدقٌ وحقٌّ، اعتقادًا جازمًا لا يُخالطه شكٌّ.
ويكون حقُّ التلاوة عملًا: بتدبُّرِه، والعملِ بكلِّ ما جاء به، والانتهاء عن كلِّ ما نهى عنه، والاحتكام إليه وتحكيمه على صعيد الفردِ والمجتمعِ والدولة.
اقتباس من درس كيف نفهم القرآن، كتاب المرتكزات الأساسية في فكر المجاهد، للشيخ محمد أبو النصر.